الإهداء
إلى روح أبى ...
أبى: قضيت عمرك الطاهر في خدمة كتاب الله، لا تمل قراءته، تفسره لتلاميذك في معهد الدرس، وتتدارسه مع صحبك في بيتك، وكثيرا ما كنت أشهد طرفا من ذلك منذ حداثتى، وكانت الغبطة تملؤنى كلما فهمت تفسير آية، أو أدركت جمال تعبير، أو أشركتنى في المناقشة، وسألتنى فأجبت، أو سألتك فشرحت ووضحت، ولم يكن عندك في عهدك الأخير ما يشغلك عن تلاوة القرآن وتفهم معانيه، فعساك ترضى عن هذا الجهد الذى أساهم به في الكشف عن بلاغة القرآن وإدراك سر إعجازه.
وإلى روحك الطاهرة في جنة الخلد، أهدى هذا الكتاب.
1 / 3
بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه نستعين
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على رسوله النبى الأمىّ الذى يؤمن بالله وكلماته.
وبعد: فإن دراسة النص الأدبى دراسة كاملة تتطلب الوقوف عند لبناته الأولى التى هى المفردات، لتبين مدى الإصابة في اختيارها، ومدى تمكنها في موضعها من جملتها، وقوة ربطها بأخواتها، وقديما قال القدماء وأصابوا: إن لكل كلمة مع صاحبتها مقاما.
فإذا ما درست المفردات هذه الدراسة الفنية، درست الجملة في النص، لإدراك سر قوتها وجمالها، وهنا المجال فسيح أمام علوم البلاغة الاصطلاحية، التى تدرس أسباب الجمال في تكوين الجملة العربية، فتبحث لم قدّم هذا الجزء من الجملة، ولم أخر ذاك، ولماذا حذف هنا، وأثبت هناك، ولم جاء هنا التعريف، وهناك التنكير، ولم استخدم الخبر في موضع الإنشاء، ولم عبر هنا بالمجاز، وكيف جمل هنا التشبيه، وراق في هذا الموضع الجناس، إلى غير ذلك من أبحاث تتصل بالجملة والجملتين.
ونمضى بعدئذ إلى دراسة النص برمته، ننظر إليه وحدة متصلة الأجزاء، فنرى مدى ارتباط بعضه ببعض، ومدى تضافر أجزائه على رسم الصورة التى يريد النص توضيحها، ومدى الإصابة في ترتيب هذه الأجزاء، كى يؤدى سابقها إلى لاحقها، حتى إذا تم النص صارت فكرته واضحة في النفس، جلية مؤثرة.
ولا بدّ من دراسة المعانى التى حواها النص، لمعرفة القوى منها والضعيف، وما له دخل في تكوين الصورة وما هو دخيل، وكيف نضّدت هذه المعانى ونسقت، حتى التأمت وحدة تنبض بالحياة.
لا نقف إذا من دراسة النص عند حد التأمل فيما أودعه من تناسق لفظى، أو جمال في الأسلوب، ولكن لا بدّ من دراسة ما بين اللفظ والمعنى من تآخ وتناسب، ودراسة ما اختير من المعانى، لمعرفة مدى تأثيرها في الفكر، وإثارتها للوجدان، فإن النفس الإنسانية تنقاد بهما، وتخضع لهما.
1 / 5
والقرآن الكريم أمة وحده في البلاغة العربية، فأردت أن أتبين بعض أسرار سموه، عساى أدرك سبب ما كان له من تأثير في النفوس، وسلطان على القلوب، وقد سرت في دراستى على هذا المنهج الذى تحدثت عنه؛ فقسمت البحث كتابين، خصصت الكتاب الأول منهما بدراسة البلاغة في اللفظ والأسلوب، وخصصت الثانى بدراسة المعانى، فبدأت بمقدمات تمهيدية تحدد معنى الأدب، وتبين ميدان عمله في النفس الإنسانية، وكيف نقرؤه قراءة صحيحة نافعة مؤثرة، وتدرس العلوم التى يحتاج إليها الأديب منتجا أو ناقدا، وتشرح المنهج الأدبى فى القرآن، وتعرض وجوه إعجازه، لبيان الرأى الذى نختاره من بينها، ثم عقدت فصلا لدراسة اللفظة المفردة في القرآن، تناولت فيه كيف تخيرت هذه الألفاظ تخيرا دقيقا، لتدل على معانيها في دقة وإحكام، وكيف تقع الفاصلة من الآية موقع الجزء الذى به تمام المعنى ووفاؤه، وحددت معنى الغريب والزائد وما في استخدامهما واستخدام المعرب من ألوان البلاغة، وفي الفصل الثانى طبقت تطبيقا فنيّا ما وعته علوم البلاغة الثلاثة، متجنبا كل التجنب المناقشات الفلسفية، البعيدة عن روح البلاغة، والتى كانت سببا في وأد الروح الفنى حينا طويلا من الزمن، وتحدثت في الفصل الثالث عن السورة، لتبين منهجها ومدى وحدتها، محللا بعض السور، كى تتضح الفكرة وتنجلى، وختمت الكتاب الأول بفصل عن دراسة أسلوب القرآن، أتبين ما أستطيع أن أتبينه من خصائص هذا الأسلوب، وإنى أقرر أن مثل هذه الدراسة تحتاج إلى المعاودة مرة أخرى، لتعرف ألوان الأساليب القرآنية وتصنيف هذه الألوان، تبعا للمعانى التى تناولتها، لمعرفة خصائص كل لون على حدة، فيدرس مثلا أسلوب السور المدنية، وأسلوب الأحكام، وأسلوب القصص، وأسلوب الوصف، وهكذا، ويوازن بين كل نوع وصاحبه، ومثل هذه الدراسة المجدية تحتاج إلى إنعام نظر، وصبر، وأناة، وطول وقت، مما أرجو أن يوفقنى الله إليه في القريب إن شاء الله.
وخصصت الكتاب الثانى بدراسة بعض المعانى القرآنية، فدرست كيف تناول القرآن هذه المعانى؟ وما الذى عنى به من بين عناصرها؟ وكيف تناول هذه العناصر؟ ليؤثر في النفس الإنسانية، ولم كان هذا التأثير خالدا؟.
والله المسئول أن يوفقنا إلى الصواب، وأن يهدينا سواء السبيل.
حلوان الحمامات في:
٤ صفر سنة ١٣٧٠
١٤ نوفمبر سنة ١٩٥٠
1 / 6
الكتاب الأول
1 / 7
مقدّمات تمهيدية:
العمل الأدبى
يقف الأديب عند سرير جندى جريح، عائد من ميدان القتال، فيثير فيه منظره معانى شتى، للبطولة والتضحية، أو يدخل مصنعا، قد انصرف فيه كل عامل إلى آلته، ومضت الآلات في عملها تنتج مسرعة، فيوحى إليه ما يراه، بخواطر عن الدأب، والنظام، والتقدم، ويحاول أن يسجل إحساسه إزاء ما رأى وأن ينقل هذا الإحساس إلى غيره، فينشئ مقالة، أو يقرض قصيدة، أو يؤلف قصة أو رواية، ويغضب الخطيب لأمر، فيحاول نقل غضبه في خطبة إلى سامعيه، ويختار لذلك ألفاظه وأساليبه، بحيث تنقل إحساسه نقلا صادقا غير منقوص.
هذه المقالة، أو القصيدة، أو القصة، أو الرواية، أو الخطبة، هى العمل الأدبى فهى الصلة بين الأديب والسامع أو القارئ، وبها انتقل إحساس الأول إلى الثانى.
ونستطيع أن نعرّف العمل الأدبى بأنه «التعبير عن تجربة للأديب بألفاظ موحية» والتعبير بالألفاظ، هو الذى يميز الأدب من باقى الفنون الجميلة؛ لأن الأدب يعبّر باللفظ، بينما تعبر الموسيقى بالصوت، والرسم باللون، والنحت بالحجارة.
ونعنى بالتجربة كل ما جربه الأديب، ومر بنفسه من شعور، سواء أكان حقيقيّا أم متخيلا، فقد تكون حادثة صادفت المنشئ في حياته، أو صادفت غيره، وقد تكون قصة سمع بها، أو منظرا رآه، أو فكرة عرضت له، أو وهما مر بخياله، ومن هنا كان كل شىء في الحياة صالحا لأن يكون مادة للأديب، يتخذ منها صورا لبيانه، على شريطة أن يكون قد امتزج بشعوره، وملك عليه جوانب نفسه، ودفعه إلى الكلام، ولهذا وجب أن يكون في التجربة أمر غير عادى مألوف، وأن تكون ذات قوة ممتازة، وشدة خاصة؛ حتى تبعث في الأديب القوة الضرورية، لمجهود أدبى، يستطيع به أن يصف التجربة، فى صدق ودقة، وإتقان وبراعة، وبذلك يستطيع أن يبعثها مرة أخرى في نفوس قارئيه، أو سامعيه.
هذا، وإن الحقائق العلمية قد يمزج بها الأديب إحساسه، وينقلها بهذه الصورة إلى القارئ، فتصبح عملا أدبيّا رائعا.
1 / 9
إن التجربة لا تكون بسيطة أبدا، بل لا بدّ أن تكون مكونة مما تحمله الحواس إلى الفكر، ومما يأتى به الفكر نفسه من معان، يدعو بعضها بعضا؛ فالواقف أمام نهر النيل مثلا، لا تنقل إليه حواسه لون مائه، وحركة موجه، وما على جانبيه من حقول فحسب، بل تنقل إليه أيضا رقة النسيم، ولون السماء، وما قد يكون فيها من سحاب، وهو يضيف إلى ذلك إحساسات أخرى، ولدها خياله، كموازنة هدوئه بالبحر وثورانه، وقد يطوف هذا الخيال بينابيعه، وبالشعوب التى تعيش على ضفافه، أو يعود متوغلا في القدم، فيذكر ما قام على شاطئيه من حضارة ومدنية، فإذا كانت تلك اللحظة الشعورية قوية، تتطلب التعبير عنها، فإن الأديب يستخلصها من بين ما يمر به من التجارب، ويحتفظ بها في نفسه، وكلما احتفظ بها ازدادت غنى، بما ينضم إليها من ألوان الإحساس، وبتداعى المعانى، فإذا أراد أن ينقل تجربته إلى غيره، وجب أن ينقلها كاملة، فلا نكتفى منه بأن يصور لنا المنظر الذى رآه، أو يذكر الإحساس الذى خالطه عند ما رآه، بل يجب أن يؤدى تجربته كاملة الأجزاء، لما شاهده وما أحسه معا، مرتبطين ارتباطا وثيقا، حتى يحس بها القارئ إحساسا كاملا وتنتقل إلى شعوره، فيتخيلها كما أدركها منشئها، وبمثل هذا التناول يخلد الأديب لحظة من لحظات شعور مرت به في حياته.
إن في الإنتاج الأدبى لعملا إراديّا للأديب، ذلك أنه يتناول تجربته، وهى مكونة من أجزاء، فيرتبها ترتيبا منسقا، ثم يأخذ في إيضاح سلسلة خواطره، واحدا واحدا، على أن يكون لكل خاطر منها دخل في تصوير التجربة وإكمالها، فيكون له وجود من أجل نفسه، ووجود من أجل الكل الذى هو جزء منه، وبجمع هذه الأجزاء، تصير التجربة وحدة متسقة، وكلا موحدا، يتصل كل جزء فيها بسائر الأجزاء، أما إذا كان بعض الأجزاء لا دخل له في تكوين الصورة، ولكنه جاء بطريق الاستطراد، أو لم تكن التجربة مسلسلة الخواطر، يرتبط بعضها ببعض، فإنها تنقل إلى السامع مشوهة، لا صلة بين أجزائها ولا اتساق، وهاك تجربة لقتيلة بنت الحارث، وقد أخذت تعاتب الرسول، لقتله أخاها النضر، برغم قرابته له، واتصاله بنسبه:
أمحمد يا خير ضنء (١) كريمة ... فى قومها، والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت، وربما ... منّ الفتى، وهو المغيظ، المحنق
والنضر أقرب من أصبت وسيلة ... وأحقهم، إن كان عتق، يعتق
ظلت سيوف بنى أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك، تشقق
_________
(١) الضنء بالفتح الولد ويكسر.
1 / 10
فقد بدأت حديثها معه تناديه باسمه، نداء القريب، الذى لا كلفة بينك وبينه، مشعرة إياه بشدة الصلة بينهما، حتى لكأنها توحى إليه، بأن هذه القرابة القريبة ما كانت تنتظر على يده هذا المصير، ثم انتبهت إلى مكانة الرسول في قومه، فنادته واصفة بما يتفق مع هذه المكانة، وكأن قلب الأم، الذى في كل أنثى، دفعها إلى أن تصفه بأنه خير ابن، لأم كريمة في قومها، وأب عريق في الشرف، حتى إذا انتهت من استرعاء سمعه، بهذا النداء، أخذت تسأله سؤال الموجع، الموقن بأن حكم القضاء قد تم، ولا سبيل إلى
استرجاعه، فاستخدمت لذلك هذا الاستفهام الحزين، الموحى بأنه لم يكن ثمة خطر في إطلاقه، فضلا عما في هذا الإطلاق، من مكرمة المن. وأتت بكلمة «لو» المشعرة بالأسف، لدلالتها على امتناع وجود الفعل، وما كان أدق ذوقها في اختيار كلمة «ربما» الدالة على حسن الأدب، والتماسها العذر للرسول، وتلميحها إلى ما في العفو، برغم الغيظ والحنق، من مثل أعلى، جدير بالاقتداء، حتى إذا انتهت من ذلك، لمست من الرسول ﷺ موضع العطف، فذكّرته بقربه منه، واستحقاقه أن يظفر برعايته، ثم انتقلت من ذلك إلى تصوير هذا القريب، الجدير بالود، أو بالمنّ، والعتق- هدفا لسيوف أقربائه، تتناوله بأطرافها، فتمزق بتمزيق أديمه، القرابة وتقطع أواصرها.
وهكذا، كان كل جزء له أثره، فى نقل هذه التجربة التى ملكت نفس قتيلة، ونجحت في إيصال ألمها للسامع، حتى روى أن الرسول بكى، وقال: لو سمعتها قبل اليوم ما قتلته.
نستطيع أن نسمى التجربة التى تسيطر على الأديب، وتدفعه إلى التعبير عنها بالإلهام، وكلما عظم هذا الإلهام، احتاج إلى قوة كبيرة، تستطيع التعبير عنه تعبيرا يمثله تمثيلا صادقا، ولذا كان كبار الأدباء ذوى سلطان على اللغة، وقدرة قديرة على التعبير، فاستطاعوا أن ينقلوا إلينا من التجارب أعظمها وأسماها.
وإن لدى الأديب إحساسا لغويّا ممتازا، يستطيع به أن يختار من الألفاظ ما هو قوى في تصويره، واضح في دلالته على مراده، ويدرك ما تستطيع الألفاظ أن توحى به إلى القارئ، وإن للألفاظ لوحيا يشع منها، فيملأ النفس شعورا، ويثير الوجدان، ويحرك العاطفة، ذلك أن الألفاظ قد تراكم حولها بمضى الزمن والاستعمال، معان أخرى، أكثر من هذه المعانى التى نجدها لها في القاموس، فليس ما بين يدينا من معانى الألفاظ في المعاجم، سوى هذه المعانى المتبلورة، والأديب البليغ هو من يستنفد ما للألفاظ من معان، أضفاها عليها الزمن، فتثير
1 / 11
فى النفس أعمق الإحساسات، وتملأ الخيال بشتى الصور، وإذا شئت فانظر في القاموس إلى معانى كلمات: أم طفولة، ومدرسة، ووطن، مثلا، فالأم في اللغة هى الوالدة، ولكن هذا اللفظ يثير في النفس، إذا سمع، أسمى معانى الحب وأقدس ألوان العواطف، وأشرف آيات الإيثار، وأعمق معانى الحنان، وليست الطفولة سوى وقت الصبا في القاموس، أما إذا سمعت فإنها تثير تلك الخواطر، التى تحوم حول هذه الأيام النضرة، وعلى هاتيك الملاعب العزيزة، وكم ذكريات تثيرها المدرسة في النفس، حول عهود محبوبة، وآمال مرتقبة، وأصدقاء مختارين، بينما هى في المعجم مكان الدراسة، أما كلمة الوطن، فقد تراكم حولها من المعانى والذكريات ما أشار ابن الرومى إلى بعضه حين قال:
وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب، قضّاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكّرتهم ... عهود الصبا فيها، فحنوا لذلكا
فلا عجب أن تثير كلمة الوطن في النفس هذه الذكريات العذبة المحبوبة، وإن أردت أن تدرك شدة وحى الألفاظ فاقرأ قوله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا (الحجرات ١٢). وانظر أى كراهية ونفور، يثيره في النفس، تخيل أكل لحم الأخ ميتا، واقرأ قول الشاعر:
وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحة، فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالا ... ألذ من المدامة للنديم
يصد الشمس أنى واجهتنا ... فيحجبها، ويأذن للنسيم
يروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم
وانظر ما توحى به إلى النفس «لفحة الرمضاء» فإنها تشعرك بهذا الهواء الساخن، يلفح وجهك، ويرمض عينيك، فتكاد تضع يدك على هذا الوجه، تحجب بها عنه هذه السخونة الممضة، وتحس كما أحس الشاعر بفضل هذا الوادى عليه، فقد حماه من وهج الشمس، وسطوة الحر، فلا غرابة أن يدعو له من كل قلبه، أن يسقيه «مضاعف الغيث». وانظر ما توحى به إلى خيالك كلمة «دوح» من ظل ظليل، ونسيم بليل، تسكن إليه النفس، بعد لفحة الرمضاء، وتخيل «حنو المرضعات» وما يثيره من معانى العطف والحنان، أما «أرشف» فتوحى إليك بهذه المتعة، التى يحس بها الظمآن، لفحه حر الشمس، فأوى إلى ظل ظليل وأخذ يشرب على مهل، يستمتع بالماء الزلال، وكيف يجده حينئذ، ألذّ من المدامة،
1 / 12
وتخيل كذلك ما يثيره عندك «يروع» والصورة التى تركتها. وكلمة «العذارى» وموضع الفاء، التى تدل على هذه الحركة السريعة، الناشئة من الروعة، وهكذا استطاع الأديب بهذه الألفاظ الموحية، السيطرة على خيالنا، وأن ينقل إلينا إحساسه وشعوره.
ولعل هذا هو السبب، فى أن علماء البلاغة، قد كرهوا استعمال الكلمات الغريبة؛ لأنها تعجز عن أن تثير في النفس معنى قبل البحث عنها، فضلا عن أن تثير هذه الخواطر، التى تحيط بالكلمة إذا استعملت.
على أنه قد يشفع في بعض الأحيان، لاستخدام الكلمة الغريبة، أنها وضعت فى موضع، سهّل الأسلوب فهمها، وكانت هى بجرسها موحية بمعناها، ولعل من ذلك قول شوقى:
خلوا الأكاليل للتاريخ، إن له ... يدا تؤلفها درا ومخشلبا (١)
فهذا الجمع بين الدر والمخشلب، يوحى بما بينهما من البون الشاسع، وفي حروف الكلمة الغريبة، ما يوحى بأنها تعنى شيئا حقيرا.
والإحساس اللغوى عند الأديب هو الذى يختار اللفظ اختيارا دقيقا، بحيث يؤدى المعنى، على وجه لا لبس فيه ولا اضطراب، وهو لذلك يلحظ الفروق الدقيقة بين الكلمات، ويأخذ من بينها أمسها بمعناه، حتى تقوم بواجبها من التوصيل الصادق.
سمع ابن هرمة أديبا ينشد قوله:
بالله ربك، إن دخلت، فقل لها: ... هذا ابن هرمة، قائما بالباب
فقال له: لم أقل: «قائما»، أكنت أتصدق؟. فقال: «قاعدا»، فقال: أكنت أبول؟
قال: فماذا؟ قال: «واقفا» وليتك علمت ما بين هذين، من قدر اللفظ والمعنى (٢).
بل إن الإحساس اللغوى، قد يرهف ويدق، فيختار من الكلمات ما يكون بين أصواتها وبين الموضوع ملاءمة، بحيث يكون فيها تقليد للشيء الموصوف، حتى كأنه يوحى به إلى الخاطر، كما تحس بذلك في كلمة «أرشف» من الشعر السابق، وكما اختار المتنبى كلمة «تفاوح» فى قوله:
_________
(١) الوارد في المعاجم مخشلبة كلمة عراقية معناها خرز بيض يشاكل اللؤلؤ والحلى يتخذ من الليف والخرز.
(٢) الوقوف لا يقتضى الدوام والثبوت، أما القيام فيقتضيهما.
1 / 13
إذا سارت الأحداج فوق نباته ... تفاوح مسك الغانيات ورنده
فهى تدل بصيغتها، على هذه الموجات النسيمية، تحمل في أردانها عبق المسك والرند. وكلمة صليل في قوله:
وأمواه، تصلّ بها حصاها ... صليل الحلى في أيدى الغوانى
فهى تسمعك وسوسة المياه تداعب حصاها ..
وبعض ألفاظ اللغة، أسلس على اللسان، وأجمل وقعا على الأذن من بعض، وهو جمال ظاهرى، يساعد الأديب على إيصال تجربته، وعلماء البلاغة يذكرون من صفات الألفاظ المفردة ما يصح أن تلتمسه هناك.
وفضلا عما للكلمات من خصائص يدركها إحساس الأديب، كذلك النظم في العبارة الأدبية، يحمل معنى أكثر مما تؤديه الجملة، بجريها على النحو، فإن هناك قوى يبثها المؤلف فيها، عن غير عمد حينا وعن عمد حينا آخر، فنجده يقدم، ويؤخر، ويذكر، ويحذف، ويصل، ويفصل، ويأتى ببعض ألوان المعارف دون بعض، وحينا يدع المعرفة إلى النكرة، وآنا يستخدم أداة من أدوات الطلب مكان أخرى، أو يأتى بزخرفة في مكانها، وقد وصل علماء البلاغة إلى إدراك كثير من هذه الأسرار، فعقدوا علما يتحدث عن خصائص الجملة ودعوه علم المعانى، وعلما للخيال الذى يعقد الصلة بين الأشياء ودعوه علم البيان، وآخر لبعض ألوان الجمال، وسموه علم البديع.
ولكن خصائص النظم، لا تقف عند حد الجملة، بل إن للأساليب خصائص، فمنها ما يناسب الانفعال السريع، والحركة المتوثبة، ومنها ما يناسب العاطفة الهادئة، والحركة البطيئة، وقد يدفع الإحساس الفنى الأديب، إلى انسجام في النظم وموسيقى لفظية، تساعد على الإيحاء، وإن هذا الانسجام وهذه الموسيقى يصلان إلى الذروة في فن الشعر، وبذلك يستطيع الأديب أن يصل إلى أسمى درجات التأثير.
***
1 / 14
مجال الأدب بين مظاهر الشعور
يرى علماء النفس للشعور مظاهر ثلاثة: فهو تفكير، إذا كان بحثا عن حقائق الوجود، لمعرفة أسبابها، واستنباط قواعدها، وإدراك ما بين بعضها وبعض من صلة أو تنافر. وهو وجدان، إذا صحبه إحساس باللذة والألم، فالحب والبغض، والسرور والحزن، والرجاء واليأس، والخوف والغضب، كلها وجدانات تتصل بالنفس، فتحدث بها لذة أو ألما. وهو إرادة إذا حفز المرء إلى العمل، ودفعه إليه، كالرغبات والنيات.
وإن بين هذه المظاهر النفسية اتصالا وثيقا، لا يتأتى معه انفصال واحد عن صاحبيه، وإن كان المظهر الغالب لأحدها. فمن المحال أن نجد ألما في أنفسنا من غير أن نبحث عن سببه، ونبذل طاقتنا في سبيل إبعاده. ويستحيل أن نفكر فى عمل عقلى، من غير أن نشعر بارتياح إذا سهل الأمر وانقاد، وامتعاض إذا اعتاص والتوى. والأعمال الإرادية يصحبها التفكير والوجدان، ولا تستقل بنفسها أبدا.
غير أن الصلة التى تربط هذه المظاهر بعضها ببعض، قد تكون طبيعية، إذا كانت التجربة نفسها تستدعى هذا الترابط، بطريق تداعى المعانى؛ كما إذا وصل إليك نبأ نجاحك مثلا، فإن خواطر شتى تفد إلى نفسك من كل صوب، ما بين سرور وابتهاج بما ظفرت به، وتفكير في الوسائل التى انتهجتها، فوصلت بك إلى تلك الغاية السعيدة، إلى رغبات وعزمات تصمم عليها، ويدفعك إليها هذا الظفر المحبوب، وبينما ترى بعض هذه الخواطر واضحا جليا للنفس، ويحتل بؤرة الشعور أو الحواشى القريبة منها، تجد بعضها الآخر غامضا خفيا، لا تكاد تشعر به؛ وتكون الصلة غير طبيعية إذا لم تكن التجربة مستدعية لها بطريق تداعى المعانى، كما إذا كنت تدرس نظريات الهندسة، فسئمت العمل وتركته، فليس بين نظريات الهندسة والسأم من صلة.
ليس التفكير الخالص بميدان للأدب، وإنما هو مرتع للعلم وحده، أما الأدب فمجاله الإحساس بالحسن، الذى يثير في النفس لذة، أو بالقبح الذى يبعث فيها
1 / 15
ألما، فالأدب تعبير عن هذا الإحساس، وتصوير له، فهو لسان الوجدان وترجمانه، إذا كان العلم لسان التفكير والمبيّن عنه.
تسمع قول قريط بن أنيف يعاتب قومه الذين لم ينجدوه، ويمدح بنى مازن، لأنهم أخذوا بيده ونصروه:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلى ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذا لقام بنصرى معشر خشن ... عند الحفيظة، إن ذو لوثة لانا
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه، زرافات، ووحدانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... فى النائبات، على ما قال برهانا
لكن قومى، وإن كانوا ذوى عدد ... ليسوا من الشر في شىء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا
كأن ربك لم يخلق لخشيته ... سواهم من جميع الناس إنسانا
فليت لى بهم قوما إذا ركبوا ... شنوا الإغارة فرسانا وركبانا
فالشاعر هنا يصور لنا نقمته على قومه، وازدراءه كثرة عددهم، لخورهم، وجبنهم، حتى ليقابلون ظلم ظالمهم بالصفح والغفران، وإساءة المسيئين إليهم بالعفو والإحسان، يلتمسون لضعفهم المعاذير، من الخضوع لتعاليم الدين، فكأن الله لم يخلق غيرهم لخشيته. أما بنو مازن، فهو معجب ببسالتهم وإقدامهم، يمنعون حماهم أن يستباح، ويجد أعداؤهم فيهم خشونة لا تلين، يسرعون إلى نصرة أخيهم، قبل أن يطلبوا منه برهانا على ما قال، فلا عجب أن تمنى استبدال قومه بغيرهم.
تحدث الشاعر في تلك القطعة عن إعجابه وسخطه، أى عن إحساسه بالجمال والقبح، ونجح في تصويرهما ونقلهما إلينا، مستعينا على ذلك بألوان من الخيال، تكاد تلمس بها خشونة جانب من نصروه، وترى بها الشر مكشرا لهم عن أنيابه، وتبصرهم طائرين لا يلوون على شىء، وموردا هذه المناقضات التى ما كان يليق أن تكون، ومتهكما بهم تهكما مرّا لاذعا، ويشعر القارئ لهذا الشعر بلذة، أثارها فينا نجاحه في التصوير، وبراعته في التعبير.
بينما نحن لا نعد من الأدب هذه المقالات العلمية، التى تخاطب التفكير وحده، من غير أن تشرك الوجدان معه.
على أن الأديب قد يستعين بقضايا الفكر، على تصوير هذا الإحساس، كما فعل المتنبى عند ما أراد أن يصور حيرته اليائسة من الوصول إلى أن يدرك كنه الحياة، ومصير الوجود، فقال:
1 / 16
تخالف الناس، حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب، والخلف في الشجب (١)
فقيل: تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل: تشرك جسم المرء في العطب
ومن تفكر في الدنيا ومهجته ... أقامه الفكر بين العجز والتعب
وهنا نجد الطريق ممهدا للحديث عن هدف الأدب، والحق أننا نقف بهذا الهدف عند حد الإثارة الوجدانية، فلا نطلب منه أن يمدنا بأفكار صادقة عن الحياة، ولا أن يثير فينا النزوع إلى الأعمال الصالحة، أى أنه ليس مهمته التعليم والإصلاح، وإن كان ذلك لا يمنع من أن يزودنا بالأفكار، أو أن يحرك إرادتنا للعمل، سواء أكان ذلك مقصودا للأديب أم غير مقصود، فقد يقف الأدب عند حد الإثارة الوجدانية فحسب، كما في أدب الطبيعة، وشعر الغزل، وكثير من المرائى، والرسائل، والمقالات العاطفية المحضة، مثل قول حافظ يصف عاصفة مرت بالبحر الأبيض، وهو يركب سفينة فيه:
عاصف يرتمى، وبحر يغير ... أنا بالله منهما مستجير
وكأن الأمواج، وهى توالى ... محنقات، أشجان نفس تثور
أزبدت، ثم جرجرت، ثم ثارت ... ثم فارت، كما تفور القدور
ثم أوفت، مثل الجبال على الفلك، ... وللفلك عزمة لا تخور
تترامى بجؤجؤ، لا يبالى ... أمياه تحوطه أم صخور
أزعج البحر جانبيها من الشدّ، ... فجنب يعلو، وجنب يغور
وهو آنا ينحط من علو كالسيل، ... وآنا يحوطها منه سور
وهى تزور كالجواد إذا ما ... ساقه للطّعان ندب جسور
وعليها نفوسنا خائرات ... جازعات، كادت شعاعا تطير
فى ثنايا الأمواج والزبد المندوف، ... لاحت أكفاننا والقبور
وقول القشيرى:
حننت إلى ريّا، ونفسك باعدت ... مزارك من ريّا، وشعباكما معا
فما حسن أن تأتى الأمر طائعا ... وتجزع أن داعى الصبابة أسمعا
قفا ودعا نجدا، ومن حل بالحمى ... وقولا لنجد عندنا أن يودعا
بنفسى تلك الأرض، ما أطيب الربا ... وما أحسن المصطاف والمتربعا!
ولما رأيت البشر (٢) أعرض دوننا ... وجالت بنات الشوق يحنن نزّعا
بكت عينى اليسرى، فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم، أسبلتا معا
_________
(١) الهلاك.
(٢) اسم جبل.
1 / 17
تلفتّ نحو الحى حتى وجدتنى ... وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا (١)
وأذكر أيام الحمى، ثم انثنى ... على كبدى، من خشية أن تصدعا
وليست عشيات الحمى برواجع ... إليك، ولكن خل عينيك تدمعا
وقول ابن الرومى يرثى ابنه:
بكاؤكما يشفى، وإن كان لا يجدى ... فجودا، فقد أودى نظير كما عندى
ألا قاتل الله المنايا ورميها ... من القوم حبات القلوب على عمد
توخّى حمام الموت أوسط صبيتى ... فلله، كيف اختار واسطة العقد؟!
على حين شمت الخير من لمحاته ... وآنست من أفعاله آية الرشد
طواه الردى عنى، فأضحى مزاره ... بعيدا على قرب، قريبا على بعد
لقد أنجزت فيه المنايا وعيدها ... وأخلفت الآمال ما كان من وعد
لقد قل بين المهد واللحد لبثه ... فلم ينس عهد المهد، إذ ضم في اللحد
محمد، ما شىء توهم سلوة ... لقلبى، إلا زاد قلبى من الوجد
أرى أخويك الباقيين كليهما ... يكونان للأحزان أورى من الزند
إذا لعبا في ملعب لك لذّعا ... فؤادى، بمثل النار، عن غير ما قصد
فما فيهما لى سلوة، بل حرارة ... يهيجانها دونى، وأشقى بها وحدى
وحينا يمدنا بمعلومات عن الحياة ونظم الكون والمجتمع، على شريطة أن يكون ذلك ممتزجا بشعور الأديب، وناشئا عن تجربة شخصية له، كما ترى ذلك فى ألوان الأدب الاجتماعى والسياسى، وفي شعر الحكمة، كقول زهير:
ومن لم يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنياب، ويوطأ بمنسم
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يستغن عنه، ويذمم
ومن يجعل المعروف في غير أهله ... يعد حمده ذما عليه، ويندم
ومن لا يزد عن حوضه بسلاحه ... يهدم، ومن لا يظلم الناس يظلم
ومن يغترب يحسب عدوا صديقه ... ومن لا يكرم نفسه لا يكرم
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس، تعلم
لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وقول المتنبى:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر، كوضع السيف في موضع الندى
_________
(١) الليت صفحة لعنق والأخدع عرق فيها.
1 / 18
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحر الذى يحفظ اليدا
وقيدت نفسى في ذراك محبة ... ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا
وقوله:
إنما أنفس الأنيس سباع ... يتفارسن جهرة واغتيالا
من أطاق التماس شىء غلابا ... واقتسارا، لم يلتمسه سؤالا
كل غاد لحاجة يتمنى ... أن يكون الغضنفر الرئبالا
وقديما عدوا حسن إيراد الحجة من البلاغة، وضربوا لذلك المثل بقوله تعالى:
وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نارًا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣) (يس ٧٨ - ٨٣).
وحينا يثير الأدب فينا الإرادة، ويدفعنا إلى العمل، وأظهر ما يتجلى ذلك في الخطابة، فإنها كثيرا ما ترمى إلى إثارة التفكير المصحوب بالوجدان، المتبوع بالعمل، كخطبة عبد الله بن طاهر في جنده، وقد تجهز لقتال الخوارج: «إنكم فئة الله، والمجاهدون عن حقه، الذابون عن دينه، الذائدون عن محارمه، الداعون إلى ما أمر به من الاعتصام بحبله والطاعة لولاة أمره، الذين جعلهم رعاة الدين، ونظام المسلمين، فاستنجزوا موعود الله ونصره، بمجاهدة عدوه، وأهل معصيته، الذين أشروا وتمردوا، وشقوا عصا الطاعة، وفارقوا الجماعة، ومرقوا من الدين، وسعوا في الأرض فسادا، فإنه يقول ﵎: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (محمد ٧). وليكن الصبر معقلكم الذى إليه تلجئون، وعدتكم التى بها تستظهرون، فإنه الوزر المنيع الذى دلكم الله عليه، والجنة الحصينة التى أمركم الله بلباسها، غضوا أبصاركم، وأخفتوا أصواتكم في مصافكم، وامضوا قدما على بصائركم، فارغين إلى ذكر الله والاستعانة به، كما أمركم الله فإنه يقول: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (الأنفال ٤٥). أيدكم الله بعز الصبر، ووليكم بالحيطة والنصر».
فأنت تراه قد أثار وجدانهم، بما عرضه عليهم، من الأفكار ليدفعهم إلى الجهاد. وكما في الآيات القرآنية التى ترمى إلى تحريك الإرادة، مثل قوله ﷾: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (فصلت ٣٤).
1 / 19
وكقول الشاعر:
دببت للمجد، والساعون قد بلغوا ... جهد النفوس، وألقوا دونه الأزرا
وكابدوا المجد، حتى مل أكثرهم ... وعانق المجد من أوفى ومن صبرا
لا تحسب المجد تمرا، أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تعلق الصبرا
وأكثر ما يحرك الأدب الإرادة من غير أن يأمرها بذلك، كما في الروايات التمثيلية الخلقية والاجتماعية، وكما في كثير من الشعر، وربما كان هذا هو ما حدا بالأقدمين إلى أن يوصوا أولادهم بحفظه ودراسته، بل ربما كان هو المعنى الذى لاحظوه عند ما وضعوا لهذا اللون من القول الجميل اسم الأدب.
قال معاوية لابنه: يا بنى ارو الشعر، وتخلق به، فلقد هممت يوم صفين بالفرار مرات، فما ردنى عن ذلك إلا قول ابن الأطنابة:
أبت لى همتى، وأبى بلائى ... وأخذى الحمد بالثمن الربيح
وإقدامى على المكروه نفسى ... وضربى هامة البطل المشيح
وقولى كلما جأشت وجاشت ... مكانك، تحمدى، أو تستريحى
لأدفع عن مكارم صالحات ... وأحمى بعد عن عرض صحيح
وأنت ترى الشعر نفسه لا يطلب إقداما، ولا يحث على ثبات، ولكنه حديث عن هذا النزاع الذى دار بنفس قائله، وهو في ميدان القتال، وكيف استطاع أن يثبت فى هذا الميدان، يحمله على الثبات ماض ملىء بالجهاد، وهمة تأبى النقيصة، وقلب موكل باكتساب المجد، ونفس اعتادت الإقدام على المكارم، وضرب هامات الأبطال؛ دفاعا عن مآثره، وحماية لعرضه، وليس في الشعر سوى هذا.
ولكن معاوية رأى في صاحبه بطلا جديرا بالاقتداء.
وبما قدمناه يتبين أن الخلاف على أن الإصلاح الاجتماعى من أهداف الأدب خلاف ظاهرى يزيله تحديد معنى الأدب، وتحديد مجاله، أما وقد قلنا: إن كل ما في الحياة يصلح أن يكون موضوعا للأدب، على أن يتناول من ناحية إحساس الأديب، بما فيه من جمال أو قبح، فلا ضير على الأديب إذا أن يتناول مسألة خلقية أو اجتماعية يعالجها، أو أن يدعو إلى فضيلة، أو ينهى عن مأثمة، على شريطة أن يكون ذلك من تجاربه، وأن يثير فينا الوجدان فيرضى فنعمل، أو يكره فنكف.
الأديب حر في أن يتناول ما يشاء من تجاربه، من غير أن نضع له خطة ينتهجها، وكل ما نطالبه به أن يرسم لنا شعوره، ولذا نرى من الأدباء من أحس بجمال المشورة فمدحها، كبشار بن برد، إذ قال:
1 / 20
إذا بلغ الرأى المشورة فاستعن ... برأى نصيح، أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافى قوة للقوادم
ومنهم من لم ير فيها جمالا، كعبد الملك بن صالح، حين قال:
«ما استشرت أحدا إلا تكبر علىّ وتصاغرت له، ودخلته العزة، ودخلتنى الذلة، فعليك بالاستبداد، فإن صاحبه جليل في العيون، مهيب في الصدور، وإذا افتقرت إلى العقول، حقرتك العيون، فتضعضع شأنك، ورجفت بك أركانك، واستحقرك الصغير، واستخف بك الكبير، وما عز سلطان لم يغنه عقله عن عقول وزرائه وآراء نصحائه». وكلا القطعتين من الأدب.
أما التعبير الإباحى، فليس من الأدب ولا الفن الجميل، لأننا نعنى بالإثارة تلك الإثارة الوجدانية الروحية الخالصة، أما إثارة الغريزة الجنسية فليست من عمل الأدب، ومثل هذا اللون من القول، مثل الصور الخليعة الماجنة، لا يعدان من الفنون الرفيعة.
علوم البلاغة والنقد الأدبى
اصطلح الباحثون على عد علوم البلاغة ثلاثة: المعانى والبيان والبديع، يريدون بعلم المعانى ذلك العلم الذى يبحث في أسرار تركيب الجملة، والمعانى التى تفهم من تكوينها على نحو مخصوص، وذلك ما عناه عبد القاهر بمعانى النحو (١)، أى معانى نهج العرب في تكوينهم الجملة، ولذلك وقف بحث هذا العلم عند تأمل الفروق بين الجملة الاسمية والفعلية، وتدبر أحوال المسند والمسند إليه، ومتعلقات الفعل، من ذكر، وحذف، وتقديم، وتأخير، وإيثار معرفة على أخرى، أو صيغة من صيغ الفعل على غيرها، إلى ما سوى ذلك من بحث أسرار الجمال فى نظم الجملة العربية.
أما علم البيان، فموضوعه ذلك التصوير، الذى يهب الفكرة وضوحا وقوة فيزيد تأثيرها في نفس المخاطب، أو القارئ، بالالتجاء إلى الخيال المصور، ومن أجل هذا كان موضوع درسه التشبيه، والاستعارة، والكناية، والمجاز، وهى صور توحى بالتجربة الشعورية أتم إيحاء.
ويتناول علم البديع تلك المحسنات المعنوية حينا، واللفظية حينا آخر، مما يزيد في جمال اللفظ وقوة تأثيره، ووضوح المعنى.
_________
(١) راجع ص ٦٣ - ٩٦ من كتاب دلائل الإعجاز.
1 / 21
ولقد باعد بين هذه العلوم وبين ما كان يرجى لها من نهوض، أن كتب دراستها قد امتزجت بدراسات فلسفية، نأت بها عن تقدير الفن الأدبى، وآلت الكتابة فيها إلى عبارات موجزة مركزة، يسودها الغموض، وتحتاج إلى الشروح والحواشى، واعتمد مؤلفوها على أمثلة تطبيقية، بعيدة عن روح الفن، ولا أثر للبلاغة فيها. هذا فضلا عن الحاجة إلى مراجعة ما قرره العلماء من قبل، ووضعوه كأنه قواعد ثابتة، فهو في حاجة إلى التصحيح والتقويم من جديد، لخطئه في بعض الأحيان.
ولا أريد أن أطيل في بيان ما عليه علوم البلاغة الحالية، من قصور، وجفاف، مما يحتاج إلى جهود متضافرة في دأب، لإنقاذ هذه العلوم، والأخذ بيدها، حتى تعود دراستها فنية أدبية، فتقوم بدورها في إمداد النقد بالقواعد الصالحة، التى تدرس أسباب الجمال المودع في الجملة، وليس الشعور بالنقص في علوم البلاغة حديثا، بل قد شعر القدماء أنفسهم به، فقالوا إنها علوم لم تنضج بعد.
أما صلة هذه العلوم بالنقد الأدبى، فهى من علوم الأدب الاثنى عشر، التى تحدث عنها القدماء، ومن الخير أن نتبسط قليلا في الحديث عن هذه العلوم، لنرى مدى اعتماد النقد الأدبى عليها.
فمن تلك العلوم ما يعود إلى دراسة الكلمة المنفردة حينا، من حيث مادتها، وهو ما دعوه علم اللغة، وحينا من حيث انتساب بعض الكلمات إلى بعض بالأصلية والفرعية، وسموا ذلك علم الاشتقاق، وحينا آخر من حيث صورة الكلمة وهيئتها مما يدرس في علم الصرف.
ومن تلك العلوم ما يعود إلى الجملة، من حيث أداؤها للمعنى الأصلى، ويعنى بذلك علم النحو، أو من حيث إنها تفيد بنظمها معانى أخرى غير منطوق بها، كالمعانى التى تستفيدها من تقديم الكلمة حينا، أو تعريفها حينا، إلى غير ذلك مما يبحث عنه علم المعانى، أو من حيث إن الجملة تؤدى معناها بطريق الحقيقة، أو مستعينة بالخيال، وهو ما يبحث عنه علم البيان، ويلحقون بهذين العلمين علم البديع، الذى يعمد إلى التأثير في النفس، من حيث الصناعة اللفظية أو المعنوية.
ومن تلك العلوم ما يعود إلى الشعر، فيبحث فيه من حيث وزنه، وذلك علم العروض، أو من حيث قوافيه، وما يعتورها من الصحة والسقم، وهو علم القوافى.
كل هذه العلوم التى ذكرناها تدرس المفرد، أو الجملة والجملتين، أما النظر
1 / 22
إلى النص النثرى برمته، وإلى القصيدة كلها، فقد وضع له الأقدمون علمين هما علم الشعر، وعلم النثر.
وقل من كتب من العلماء في هذين العلمين. ولعلنا نستطيع أن ندخل في علم النثر دراسة الأساليب وألوانها، وما يجب أن يكون هناك من صلة بين الأسلوب والموضوع، وندخل فيه كذلك دراسة خصائص كل فن من فنونه، فندرس المقالة، والقصة، والرواية، والرسالة، والخطبة، مبينين ميزة كل لون من هذه الألوان، لا من الناحية اللفظية فحسب، ولكن من الناحية المعنوية كذلك، فنرسم منهج كل نوع في تناول معانيه.
ونستطيع أن ندخل في علم الشعر تنوع بحوره، ومناسبة كل بحر لعاطفة خاصة، وموضوع خاص، وندخل فيه أيضا حديثا عن القافية ووحدتها أو تعددها، وأثرها الموسيقى، وحديثا عن ألوان الشعر، من عاطفى، وروائى، وقصصى، وما يمتاز به كل لون من خصائص وسمات، مع العناية التامة بناحية المعانى وطرق تناولها، كما ندرس كذلك معنى العاطفة وأنواعها، وألوان الخيال، وقيمة الحقائق في النصوص الأدبية. وقد ألم القدماء ببعض هذه النواحى ولكنهم لم يوفوها حقها من البحث والتحليل.
ولم ينس القدماء أن الأدب يعتمد على المعرفة، وأن الأديب محتاج إلى أن يلم بخلاصة وافية لمختلف الثقافات، فذكروا من بين علوم الأدب، علم المحاضرات، يريدون ما
يعبرون عنه، بأن على الأديب أن يأخذ من كل فن بطرف، وهذه المعارف هى التى يتكئ عليها الأديب في تصوير شعوره بالجمال أو بالقبح، ولذا ترى الأديب في حاجة إلى علم النفس، والتاريخ، والاجتماع، مثلا عند ما يضع رواية تمثيلية، يحلل فيها نفوس الشخصيات، أو يصف عصرا من عصور التاريخ، أو يتناول مشكلة من مشاكل الاجتماع، وهو محتاج إلى تلك العلوم وغيرها، عند ما يضع قصة، أو أقصوصة، أو عند ما يضمن إنتاجه حقيقة من حقائق الحياة.
وهنا يجدر بنا أن نبين أن الشاعر أو الكاتب، قد يوحى إليه شعوره تفسيرا لمظهر من مظاهر الكون يخالف تفسير العلم له، فيوزن الأديب حينئذ بمقدار طبيعة هذا الشعور وصدقه، لا بمقدار ما فيه من الحقائق. خذ مثلا لذلك قول شوقى يناجى النيل:
من أى عهد في القرى تتدفق ... وبأى كف في المدائن تغدق؟!
ومن السماء نزلت، أم فجرت من ... عليا الجنان جداولا تترقرق؟!
1 / 23
فالحقيقة الجغرافية لمنابع النيل معروفة، ولكن عظمة النيل وجلال ما له من أياد، حتى لكأنه يفيض سلسبيلا من عليا الجنان، أوحيا إلى شوقى بهذا التساؤل الشعرى البارع.
تلك هى علوم الأدب، أما الأدب نفسه: شعره ونثره، ففن من الفنون الجميلة، وهو لذلك ينبع من الموهبة، ويفيض من الفطرة، ثم تسدده هذه العلوم وتهدى خطاه، وإن نظرة إلى تلك العلوم نفسها، تجعلنا نؤمن بأن الناقد حين ينقد، فى حاجة إلى تلك العلوم نفسها، عند تقدير النص الأدبى وتقويمه، ومن أجل هذا صح لنا القول بأن تلك علوم الأدب: إنتاجا ونقدا، فالناقد، فضلا عن حاجته إلى العلوم اللغوية، فى حاجة- كالأديب- إلى الإلمام بمختلف الثقافات، حتى يستطيع أن يحكم على النص حكما صادقا خالصا.
أما النقد نفسه فكالأدب، فن من الفنون، يعتمد على الموهبة والفطرة، ويتكئ على ما قدمنا من العلوم، لبيان وجه جمال الجميل، وقبح القبيح.
وقد طال الحديث عن صلة النقد بالذوق، حتى لقد قيل إن النقد يعتمد على الذوق وحده، وهذا صحيح إلى حد كبير، فهذا الذوق هو الملكة الموهوبة، التى يستطاع بها تقدير الأدب الإنشائى، وإننا إذا تدبرنا حقيقة الأمر، رأينا أن كل تعليل بلاغى، هو تفسير لهذا الذوق السليم، وتعليل عقلى له، فليس تعليلك لجمال النص بأن فيه إيجازا، أو إطنابا، أو حذفا، أو تقديما، سوى تفسير عقلى لذوقك الذى أحس بجمال النص.
وإذا كانت الملكات في النفوس كالبذور، تحتاج إلى التربة الصالحة، والغذاء والماء فكذلك ملكة الأدب ونقده، فى حاجة إلى الرى، والغذاء، وذلك إنما يكون بدراسة ما أسلفناه من علوم، وبالتملؤ من الأدب القوى، وبالقراءة الأدبية الفاحصة، والمران على تقويم النصوص، والبحث عن أسرار جمالها، ومناحى لونها، وبذلك يقوّم الذوق ويستقيم حكمه.
غير أن هذه التربة الصالحة التى يجب أن يغتذى الذوق منها، تحتاج إلى جهد جهيد، وتضافر قوى الباحثين والدارسين، حتى تصبح صالحة، لإنتاج أبرك الثمرات، ذلك أن من علوم النقد ما تم نضجه، فلم يعد في حاجة لغير تنظيمه، حتى يصبح الانتفاع به ميسورا كعلم النحو، والصرف، والعروض، والقافية، ومنها ما لم ينضج بعد، بل هو في حاجة إلى معاودة النظرة، لتخليصه مما علق به مما ليس منه، ولتصحيح أخطاء مضى عليها الزمن، حتى استقرت صحتها في
1 / 24