كان المجتمع العربي القديم يعيش في ظل حكومة استبدادية لم تعرف قط معنى البرلمان أو المجلس البلدي؛ ولذلك نحن نحمل عبء الكلمات العربية التي خدمت هذا المجتمع الاستبدادي ونحاول تحميلها المعاني الديمقراطية الجديدة، أو نصطنع الكلمات الجديدة مثل «برلمان» لكي تؤدي معنى لم تعرفه الثقافة العربية القديمة.
لم يكن المجتمع العربي القديم يعيش على المعارف والمنطق إلا في أقله وكان يعيش على العقائد والغيبيات في أكثره؛ ولذلك يشق علينا في مجتمعنا أن نؤدي المعاني للمعارف المادية؛ لأن لغتنا حافلة بكلمات الغيبيات والعقائد دون كلمات العلوم الجديدة.
والنتيجة لهذه الحالة أننا نجد صعوبات لغوية خطيرة كلما حاولنا معالجة المعارف العصرية؛ لأن لغتنا قضت شبابها وهي تلابس مجتمعا أرستقراطيا حربيا عقديا؛ فكثرت مصادرها اللونية التي تعبر عن حاجات هذا المجتمع، فكانت لغة الخطابة والشعر والغيبيات بل لغة اللهو والأغاني والقتال، ولكنا نحن نختلف عن العباسيين والأمويين من حيث إن حضارتنا قد صارت تنشد الديمقراطية وتنهض على الصناعة وتعتمد على المعارف والماديات دون العقائد والغيبيات، ومن هنا صارت البلاغة القديمة بلاغة الإدارة تعبر عن شهوات ورغبات وليست بلاغة المنطق التي تعبر عن العقل والذكاء كما حفلت اللغة برواسب من الكلمات التي لا ننتفع بل نستضر بها كلما حاولنا تحريك المجتمع؛ لأن التحريك يعد هنا تعكيرا.
الفصل الخامس عشر
الكلاسية داء الأدب العربي
كل لغة تحتاج إلى شيء من الكلاسية نعني النزعة التليدية، حين يتصل الأديب بأسلافه من الأدباء يتذوق مؤلفاتهم وينغمس في أمانيهم ومثلياتهم، ويقتني بذلك التراث الذهني السابق، وفي كل عصر نجد الكاتب الذي ينزع إلى تليده والكاتب الذي ينزع إلى طريفه ، وهما ليسا خصمين ولكنهما متعارضان، وقد ينتفع أحدهما بالآخر؛ إذا لم يكن الفرق بين الطارف والتليد عظيما كما يكون أحيانا أيام الثورات والانفجارات الاجتماعية، ففي هذه الأيام تتقهقر النزعة التقليدية وتبرز النزعة التجديدية، ويحدث العكس أيام الاستقرار حين تقنع الأمة بالكلاسية وتطمئن إلى التقاليد بل تتعلق بها وتخشى التجديد والتغيير، وبدهي - لهذا السبب - أن الكاتب الذي ينغمس في الكلاسية؛ إنما يفعل ذلك لأنه يعيش في بيئة أدبية راضية عن التقاليد كارهة للتجديد والكلاسية ليست في الواقع شيئا أكبر أو أصغر من التقاليد الفكرية والأدبية.
لما كان «فولتير» في إنجلترا ذكر له أحد الناقدين الإنجليز قول «شكسبير» في رواية هاملت: «فما تحرك فأر»، واستحسن الناقد هذا التعبير؛ لما فيه من بساطة، ولكن «فولتير» أجابه بقوله: ماذا تقول؟ إن الجندي يستطيع أن يجيب هذه الإجابة في ثكنته، ولكن لا يجوز هذا على المسرح أمام أسمى الأشخاص في الأمة أولئك الذين يتحدثون بلغة شريفة؛ ولذلك يجب ألا يجدوا مثل هذه اللغة عندما يستمعون.
وكان «فولتير» هنا كلاسيا تليديا ينشد الفخامة والروعة في الكلمات وكان قد ترك فرنسا الملوكية الرجعية التي يتلألأ فيها عرش «لويس الرابع عشر» أو الخامس عشر تحيط به نجوم من النبلاء والأمراء والسيدات المزينات بالآلي التي جمعت أثمانها من أقوات الملايين من الشعب.
عاش «فولتير» في هذا الوسط ومع أنه ثار عليه بعد ذلك فإنه كان قد تلبس بمزاجه ونزع نزعته، فكان الكاتب التليدي كما كان «جان جاك روسو» الكاتب الطريفي وأوروبا لا تزال إلى الآن في مشكلاتها ومثلياتها تستنير بضوء روسو، فهي ثائرة متغيرة لم تستقر.
ولكن إنجلترا التي زارها «فولتير» والتي ألف فيها «شكسبير» ولم يأنف من ذكر الفأر في درامة عالية مثل: «هاملت»، إنجلترا هذه لم تكن رجعية؛ إذ لم يكن فيها عرش مستبد كالعرش الفرنسي، وكانت قد استقرت فيها الحرية والبرلمانية بعد قطع رأس «تشارلس الأول» ثم كانت الحركة التجارية قد أوجدت فيها طبقة متوسطة طريفية يحضر أفرادها دور التمثيل وكل هذا جعل الوسط الأوروبي غير تليدي .
صفحة غير معروفة