لا يعرفها الشمال ولا البلاد الحارة.
ومن هناك تأتي مرونة ابن البحر المتوسط اللبقة والنشاط في سيره وذكائه وأدبه وحركاته وفن خطابته. ومن هناك أيضا يأتي الزهو والشغب والحياة العامة المعدودة لعبا والمحاباة وفت المشاريع القومية إلى مائة تركيب ومقاومة السلطة وتعذر سيطرة الزعيم على الجمهور عندما يصبح عاجزا عن إلهائه. وذلك هو أمر جميع أبناء البحر المتوسط، وذلك لكون الفرنسي من أهل مرسيلية أكثر مشابهة للإيطالي من أهل مسينة أو الإغريقي من أهل بتراس من مشابهته لأهل الهافر أو من مشابهة كل واحد منهما لأبناء وطنه من أهل ميلانو أو لاريسة، فجميعهم متقاربون بفضل البحر الذي تمسه منازلهم أكثر مما بالبر الذي أنشئت عليه.
10
ترى الحيوانات أكثر تجردا من الحيل بين جميع المهاجرين الذين اجتذبهم البحر المتوسط أو الذين تركهم يغادرونه، وهي تدل على أن البحر يفصل مرة ويصل مرة أخرى. وكانت الأسود والضباع تطوف في البلقان في زمن غير قريب من تاريخنا، ولكن مع بقاء ابن آوى هنالك، وقد أقام القرد بجبل طارق، وقد استقر الدلدل
82
بإيطالية.
وقد اقتسمت القارات هذه الحيوانات المجترة الدوارة، غير أن الوعول والغزلان ظلت في أفريقية، ويلوح أن الجمل الذي كان يعرفه الفنيقيون لم يأت إلى الغرب إلا في زمن قيصر، وكانت مراكش في ذلك الحين لا تشتمل على جمال بل على فيول، ويمسك القرطاجيون بالفيلة لاستخدامها في الحرب، وكان الملك جوبا يتلهى بالكركدن والتماسيح.
وأنس الحمار قبل الفرس، وكان الحمار يحمل صاحبه في مصر وأقريطش بصبر لم يقدره الناس إلا بعد أن فرغ، وأول ما استخدمت الحصن المصرية الصغيرة كان في جر العجال الحربية، ثم اتخذت مطيا، وقد ألقت الرعب في أثناء مغازي البرابرة الجريئة، وذلك كالغرمان الذين كانوا يجوسون خلال سهول إسبانية فرقا رباعية، وقد نقصت قاماتها فصارت خيلا صغيرة الجسم قصيرة القد في العصر نفسه وفي بعض الجزائر الإغريقية؛ حيث كانت تعيش هذه الأفراس وحشية.
وتغدو الحياة غير موجودة في بقاع البحر المتوسط الواسعة بلا بغال، حتى في هذه الأيام، وذلك لعدم قدرة السيارة على تسلق هذه المنحدرات وهذه الصخور، والبغال نادرة غالية لعدم تناسلها، وعلى البغل أن يثبت أفضلية أبيه لعالم جن بمسألة العروق ما دام وليد حصان وأتان.
83
صفحة غير معروفة