وما يتصف به البحر المتوسط من طبع عصبي يتجلى في المضايق على الخصوص، وفي هذا البحر الذي يكاد يكون داخليا تماما تبصر تقلصا في المد الطبيعي الذي يرى في البحار المحيطة عادة، وذلك من غير أن يغيب تماما، ولا يشعر بالمد والجزر هناك إلا في أماكن قليلة، وما يظهر من تنفس البحار المحيطة العجيب، الذي يربطها بحياة القمر على ذلك الوجه، يرفع العنصر البحري فوق نمطية القارة العبوس ، وفي البحر المتوسط تبلغ هذه الظاهرة من الارتخاء ما تكون معه غير محسوسة، ما تكون معه مماثلة لموسيقى الغرفة تجاه جوقة البحار المحيطة الكبرى. وفي البحر المتوسط لا يكاد يشعر بالجزر مع أن الجزر يقف النظر في المضايق، والجزر ما يلاحظه الملاحون في كل مكان، حتى إنهم يقولون في لفورن: «هو مملوء بالقمر»، والجزر يؤثر في الملاحة حتى قعر أهم الخلجان، والجزر مما نشاهده بأعيننا في البندقية وخليج كورنث وسرت، وترى في كثير من الفرض العوج ارتفاع الجزر من جهة وانخفاضه من جهة أخرى دائما، فيؤدي اختلاف المستوى إلى مجار خطرة، وتجد جميع ذلك مسجلا في كتب قدماء العلماء.
وإذا ما استشهدنا بالأغارقة، غالبا، فيما يأتي فذلك لما يبهرنا من إلهام هؤلاء القوم، من نبوغ هؤلاء القوم، الذين استطاعوا أن يمزجوا الملاحظة بالفكر مزجا نافعا غير مستعينين بآلات فأصبحوا الشعب الفيلسوف حقا، وهكذا نعت أوميرس الأقيانوس ب «الذي يجري وئيدا»، وأبصر صخرا يبرز من البحر ثم يستر به، وعند أفلاطون أن البحر يدفق من مغاور الأرض بشدة حينا ويرتد إليها حينا آخر، ويسمي هيرودوتس حتى اسم حكيم ساموس الذي أغرقته الآلهة في اليم
21
فكان أول شاهد على الجزر، ثم يعين قيصر القمر كسبب للجزر الاعتدالي الأكبر، ويسبق بليني في نبوءاته كيبلر ونيوتن في نصف اكتشافاتهما.
وفي الفيزياء الحديثة تفاسير أخرى لتلك الظاهرات، فهي تعزوها إلى ضيق مضيق جبل طارق وإلى وضعه الغربي الذي يواجه ما بين جزر الأطلنطي الصاعد والبحر المتوسط، وكثيرا ما يفقد ضباط البحرية صبرهم إزاء أهواء هذا العنصر، ومن ذلك أن أميرالا إنكليزيا كان يقود في سنة 1810 سفينة مدفعية أمام قادس فاشتاط غيظا لما وقع من ارتفاع الجزر قبل الوقت المعين في جداوله بساعتين.
وينشأ عن المضايق، بحكم الضرورة، مجار من كل نوع مستقلة عن الجزر. وكان مضيق مسينة، الذي كاد يقضي على حياة أوليس، مسرح كثير من الغرق بين سيلا وكاربد، ويرى أن هذا المضيق معاصر لمضيق جبل طارق والدردنيل إذا ما صدق القدماء الذين يعزون هذه الثغرة بين إيطالية وصقلية إلى فرع أوريون بن نبتون، ويرى علماء الأرض في ذلك فورانا سابقا للأوان ثار من إتنه فأوجب فتح المضيق بغتة. وإذا كان الأساتذة قد فسروا إحدى الأساطير بمثل هذه السهولة جاز لنا أن نأمل صدور قصص في يوم بعيد عن واقعيتنا المبتدعة وعن جداول أرقام الرياضيين يعرض فيها مهندسونا مثل أنصاف الآلهة الذين ورد ذكرهم في الأساطير.
ويمكن عاصفة كاربد، فيما وراء رأس مسينة، ومع عرض ثلاثين مترا وطول ثلاثمائة متر وانخفاض جزر، أن تحمل السفن على القيام بنصف دوران. وإذا كانت الأرض في أقرب نقطة من الشمس والقمر، وحين الاقتران في اليوم الحادي والعشرين من مارس، فإن الجزر العالي يبلغ عشرين قيراطا. وكانت مباغتات تلك العاصفة معروفة عند قدماء الربابنة فينتفع بها في المعارك البحرية، فمن الأساطير إذن كون نلسن أول من دخل هذا المضيق.
ولا تستطيع السفن أن تخوض في المضيق بين جزيرة أوبه والإغريق القاري؛ حيث لا يزيد عرض البحر على خمسة وثلاثين مترا، إلا في أثناء السكون القصير عند انعكاس الجريانات. وإذا كانت الرياح الكبرى لا تدوي في البحر المتوسط كما في الأقيانوس فإن الزوابع والجريانات والدورانات المفاجئة كثيرة فيه، وإذا كان من الممكن أن يبلغ ارتفاع الموج في الأطلنطي خمسة عشر مترا فإنه لا يبلغ في البحر المتوسط أكثر من خمسة أمتار، ولكن مع كون ارتداد الأمواج في البحر المتوسط التابع لهواه أعنف مما هنالك. والأمواج في هذا البحر، وإن لم تكن منتظمة طويلة، تبدو قصيرة مفاجئة هائجة، وإذا مرت سفينة بين الجزائر الكثيرة وأخذت الريح في الهبوب من السواحل الجبلية وسارت صافرة بين صخور الفرض أحس الملاح دوارا بأسرع مما يحس في البحار المحيطة. وقد تبلغ الرياح الشرقية في مصاب بعض الأنهار، في جنوب صقلية على الخصوص، من سوط البحر ما تقذف معه الأسماك والآدميين إلى الشاطئ.
4
من المحتمل أنك لا تجد شيئا أعان على ذيوع صيت البحر المتوسط كلونه، وللبحر المتوسط زرق عميق، والبحر المتوسط يسحر بصر من يبحث في البحار المحيطة، عبثا، عن ذلك اللون النادر في الطبيعة ندر الأخضر، والحق أن السماء الزرقاء تنعكس سمنجونية
صفحة غير معروفة