وكان لقادة عصر النهضة، على العموم، رءوس صغيرة وأنوف كبيرة وأفواه شهوانية، وكان كل شيء لدى مكيافلي مقرنا رقيقا، حتى إن فمه كان مضغوطا، ولم يكن لدى الإسباني إسكندر بورجيا ما هو إسباني غير ولده، ويذكر رأس ليون العاشر المديسيسي الرزين بجده كوم، وينم يوليوس الثاني، الذي رسمه رفائيل أميرا محاربا، على ملامح قليلة لعالم ولجامع آثار فنية. ومن حظ هؤلاء أن خلدوا من قبل أعظم مصوري العصور، وهم أهل لذلك، فقد أعانوا هم وأجدادهم، كحماة للعلم والفن، على نشوء هؤلاء النوابغ معدين السبيل لهم بتوصياتهم، ولم يدفع شيء إلى ميكل أنجلو، وقد غر برامانت حاميه، وقد اضطر رفائيل، الذي أسعده الحظ، إلى المطالبة مرات كثيرة بدفع ثمن الألواح التي رسمها لحساب أناس من ذوي المقام الرفيع، ومع ذلك لم يكن هذا ذا أهمية كبيرة، فلم يكن المال في الحقيقة ليفتن متفنني ذلك الدور وأمراءه، وما كان من عدم عبادة المال في ذلك الزمن الذي انهمك الناس فيه بأطايب النعم ظل من أسرار عصر النهضة. وبهذا يتجلى الفرق الأعظم بين ذلك العصر وعصرنا ضمن النطاق الذي نجل فيه مثل دور النهضة العليا، ومع ذلك فإن مستوى حياة هؤلاء المتفننين ينم على رغائب أعظم مما كانت قبلهم ما صار المتفنن سيد نفسه نتيجة لإظهار عصر النهضة جمال الأغارقة، وكان جميع الناس يصبون إلى العز والمجد، ولم تكن النساء وحدهن هن اللاتي يضحين بمالهن تخليدا لجمالهن.
وكان الفن والذهن في إيطالية عصر النهضة، كما في أثينة الكلاسية،
33
يشغلان المكان الأول، وهذا يوضح ما نيل من نتائج خالدة نتيجة لبحث عالم ذلك الحين عن المتفننين واحتياجه إليهم، لا نتيجة لظهور بعض المتفننين ظهورا مفاجئا، وتميز هذه الحال الروحية دور النهضة من عهد الإمبراطورية الرومانية الثقيل الخانق حين كان الأباطرة والإمبراطورات يشعرون بلذة خاصة في مخادعة بطائنهم مبدين من المناظر ما هو لا خلقي غير تاركين للأعقاب من التراث ما هو ذو قيمة.
وكيف كان عدم غدو أية امرأة من نساء تلك القرون الرومانية نموذجا أو مثلا عاليا يحتذى؟ إن عصر النهضة وحده هو الذي تطلب منذ عهد الأغارقة أناسا موهوبين أو قادرين جعلوا من حياتهم أثرا فنيا صالحا ليكون منظرا لمعاصريهم ومثالا للذراري. أجل، إن أعمال أعاظم الرجال أنجزت بوحي من الخلود، غير أنهم لم يروا الخلود من خلال الجنة النصرانية، وقد شغل إنشاء كنيسة القديس بطرس في ذلك الحين بال الناس أكثر مما شغله فتح فرنسة لمملكة نابل أو إضاعتها لها، فكنيسة القديس بطرس كانت أثرا فنيا ورمزا، ولم يكن غزو نابل غير حادث عارض. وكان المعاصرون يبصرون ما نبصره بعد خمسين عاما، فنقابل معارك أنجو ونابل بعدم الاكتراث على حين تخاطب كنيسة القديس بطرس أفئدتنا على الدوام.
أولم يحق للمتفننين في ذلك العصر الزاهر أن ينحازوا إلى الذي يساعد على إنماء عبقريتهم؟ لقد هجروا كلهم، تقريبا، المولى أو الكريم الذي كان يخسر سلطانه أو يصبح عاجزا عن الإنفاق في سبيل جهودهم المبدعة، ومن قول مكيافلي «إن الحظ هو القدرة على رؤية الأمور كما هي»، ولم يكن مكيافلي نفسه من أصحاب الحظ وإن كان أكثر من جميع معاصريه بصيرة على العموم. ومع أن القرون القديمة كانت تخبر عن الآلهة الحاسدة التي كانت تطالب الآدميين بأن يقدموا إليها قرابين متطوعين ، كان رجل عصر النهضة هذا قابضا على كل ما يمكن أن يأتيه به النصر والحكمة والنجاح، ثم كان يسأل القدر منجما أو مفتئلا!
وكان القائد المنصور مع المتفنن سيد العصر؛ أي القائد، لا المولود أميرا، ومع ذلك فإن نظر الزمن لم يكن ليتوجه إلى رئيس الجيش الذي يختم موفقا حرب سنين كثيرة، بل كان صاحب الحظوة هو قائد المائة المرتزق الذي يكسب عدة معارك قصيرة ويغير رئيسه غير مرة. ومما كان يسهل أمر تغيير القائد اشتراك الجميع في حضارة واحدة وعدم احترابهم في سبيل مبادئ أو دين، وذلك إلى أن المتفننين هم الذين جعلوا هؤلاء الرجال من العظماء، ولا ريب في أن يوليوس قيصر كان يظل كما هو ولو لم ينته إلينا عنه تمثال نصفي ولو لم يجعل شكسبير منه بطل إحدى مآسيه، ولكن من ذا الذي كان يعرف، حتى في إيطالية، اسم غاتا ميلاتا أو اسم كوليوني لولا آثارهما؟
ولم يقاتل أحد من هؤلاء الرؤساء في معارك شهيرة، بل كانوا ملتزمي حرب فيؤجرون كتائبهم من الأكثر دفعا، بل كانوا تجارا يبيعون حظوظ الحرب، ومن ذلك أن نبيلا أعسر، وكان اسمه كوليوني، فصار عاشقا لإحدى الملكات بفضل قوامه الرائع، وكان له ما يحميه لهذه العلة، ثم حمل على مناهضة البندقية بفعل آل فيسكونتي بميلان، ويعتقله هؤلاء فيفر من سجنه، ويمثل دور الوسيط بين الخصمين، وينال أملاكا كبيرة مكافأة، ويقيم بالبندقية في مشيبه إقامة الأمراء معلما شبان الضباط مدعوا إلى موائد أكابر الناس، وينشئ وقفا لتجهيز الفتيات الفقيرات في برغام، ولا يزال هذا الوقف قائما حتى اليوم، وكان الأعقاب يجهلون هذا السري لو لم يقم له فروكيو أجمل تماثيل الفرسان بجانب جدار وعر من جدر كنيسة في البندقية.
وعمل آل فيسكونتي على رفع صيت آخر، وكان هؤلاء الآل مغامرين فتغلبوا، في بدء الأمر، على أسقفية ميلان، ثم على مدينة ميلان كلها محولين إياها إلى دوكية قوية عن طالع فصاروا سادتها المطلقين، وهم، وإن ملئوا ألقابا وامتيازات، لم يغدوا خالدين إلا لأنهم أخذوا ينشئون كنيسة ميلان التي هي من عجائب الدنيا، ويظل موجد هذا الأثر منقطع النظير كمؤسس دولة، ومع أن هذا البناء لم يتم إلا في أربعة قرون، كالإمبراطورية الرومانية، فإن مؤسسي كلا الأمرين، فيسكونتي وقيصر، كانا أول من تمثلا عملهما على نسب واسعة المدى. وقد كان للكنيسة، كما كان للإمبراطورية الرومانية، بناءون متفاوتون استعدادا، وكان هذا البناء أو ذلك يمزج الطرز، وما في الكنيسة من رخام وردي تنيره الشمس يلوح لنا أحيانا مثل حلم الحلواني الذي يتلهى بصنع أبراج صغيرة ونقوش وزخارف خيالية، وتظل الكنيسة، داخلا، أروع معابد الدنيا.
ويظن الإنسان دخوله في ظل غابة ذات أشجار قديمة تنتصب سوقها نبيلة متوازية على فواصل منتظمة على حين تتسع ذراها حتى يتصل بعضها ببعض، وتغمس ألوان النوافذ الزاهرة تلك الكنيسة في جو ذي أسرار فيذكر بكنيسة شارتر، ويجعل هذا من الغابة الرخامية مكانا لجمع الأفكار والحواس لا تجد مثله في كنيسة القديس بطرس ولا في أشبيلية، ولا في القسطنطينية أيضا. ومع أن الجدر العالية في كنيسة ستراسبرغ أو كنيسة نوتردام دوباري تفصل الصحن فإن النظر لا يؤذى من خلال هذه الأشجار الماردة نتيجة لتركيب الأثر أو للزخارف أو للصور أو للأعلام، وترانا ندهش ببساطة الداخل الأصيلة بعد الإسراف البنائي المزعج في الخارج، ومن لم يسطع أن يجد الرب في هذه الغابة الغسقية
صفحة غير معروفة