184

البحر المتوسط: مصاير بحر

تصانيف

ولم ينشأ دور النهضة عن اكتشاف بضع عشرات من التماثيل، وقد أفاقت هذه التماثيل، التي كانت راقدة في الأرض أو الأنهار أو البحر أيام القرون الوسطى النصرانية، في عالم مجهول وأنعمت على الإنسانية بقوة جديدة.

ومع ذلك لم تكن هذه القوة غير حيوية أعادت الناس إلى أثر الأغارقة وحفزتهم إلى اكتشاف تلك التماثيل، والطبيعة فيها هي ما أعجب به المتفننون، والعري هو الذي حفز هؤلاء المتفننين إلى استنساخ تمثال أبولون البلفديري وتمثال هركول النصفي وتمثال فينوس الفاتيكاني؛ أي التماثيل التي كانت أول ما وجد، وقد فضل البرونز على النماذج الحية حينا من الزمن.

ولسرعان ما حول أولئك المجددون، في الكنائس، فن القوط الفرنسي الذي لم ينل حظوة في الجنوب قط، وقد أخذت المباني تمتد، وصار مقدمها يتسع، وأصبحت الأعمدة عناصر للوصل الأفقي، وما أكثر مقدمات البناء التي انتحلها عالم العصر الحاضر، كبعض بنوك نيويورك مثلا، وفق طراز دور النهضة؛ أي هذا الطراز الذي اقتبس من الأغارقة، ولكن لم تكن التماثيل، ولا القباب، ذات أثر بالغ في العصر، بل الرجوع إلى حكمة الأغارقة وشعورهم حول الحياة، ومع ذلك لم يخلع قديسو الكنيسة لتحل الآلهة القديمة محلهم، فلم يلغ شيء إلغاء مطلقا غير تقديس الألم.

وقد رئي أن من الممكن أن يرأف فيحسن من غير أن يعد المريض رسولا للرب، وقد وجد في أفلاطون، الذي مال بعض الخيار إلى وضعه في مكان يسوع، رجل موحد. وقال لوران المديسيسي إن الأرض خلقت عن حب الرب، لا مقدمة لعالم آخر، ولم ينفك الرب يكون موجبا لنفسه كما أن روح الإنسان تستطيع أن تتسع فيه إلى ما لا حد له.

وقد عرف ذلك الدور رغبة جامحة في التمتع بالحياة وبالحب الدنيوي والمجد في هذا العالم، ولم توضع الآلهة القديمة، التي وجدت فاستنسخت في كل مكان، على الهيكل لتعبد، ومع ذلك فإن روحها سادت البحر المتوسط، الذي هو أصلها، ولا سيما إيطالية، وعاد الخشوع، الذي ظن تطبيق الصليبيين له، غير صالح ليكون مثلا عاليا ما دحرته الخيلاء، وإذا كانت القرون الوسطى قد شابهت خريفا خالدا فإن عصر النهضة يشابه صيفا ساطعا، والإنسان وحده، لا يسوع، ولا أبولون، هو الذي مجد في ذلك العصر، وصار صيت القدماء قدوة للشباب ، وقد التهم بلوتارك كشفا لأسرار عظماء الرجال الذين قص سيرتهم، وكان فتيان الرومان يلبسون ثيابا عصرية ويحملون أسلحة حديثة حوالي سنة 1500، ولكن مع روايتهم عن بروتوس وشيشرون باللغة اللاتينية، ومع حديثهم عن أفلاطون باللغة اليونانية، وأضحى التفوق في القتال والخطابة، وبالسيف والكلام، مثلا عاليا لجميع الشباب، لا لفتيان الأشراف وحدهم، قال سزار بورجيا: «أحب المعاش على الحصان والفراش.»

وقد ظهر في جميع طبقات المجتمع نوابغ فضلاء بغتة، وقد زاد هذا قيمة بعدم ثقافة الشعب، وقد عرف النغيل،

31

المزدرى سابقا، ممكنات جديدة ما دام أصله يوجه الأنظار إليه في هذا العالم المضطرب، ويكرم العصامي أيضا، ويجد شرف الأصل مكانه أيضا، ويتبارى رجال نشاط ألباء ونساء حسان أريبات في بلاط الأمراء بدلا من أن ينحل هؤلاء الرجال ويناضلوا في سبيل ألوان نسوتهم الناعمة، وكان ذوو الطموح من أبناء الولايات يجمعون في أملاكهم أناسا مبدعين من جميع الطبقات الاجتماعية، فلا يبدون محل سخرية لتقليدهم عظمة القرون القديمة، والحق أن هذا لم يكن مهزأة، بل ميل إلى إنماء الذهن والبدن، وما أصبح مثلا عاليا للنبيل في إنكلترة بعد زمن سعي إليه في عصر النهضة بأسطع من ذلك ما كان النساء يسهمن فيه.

وكان للنساء موقع جديد في دور النهضة، وما اكتسبنه من مراكز حول سنة 1500 يعد ثورة مشابهة للتي حولت مجتمعنا في السنين الثلاثين الأخيرة، والفارق هو في كون هذه الثورة النسوية قد تمت في عصر النهضة من غير أن يعين عليها الفتيات اللاتي كن يذبلن في الأديار حتى زواجهن.

وصارت النساء مترجلات صائدات، ولكن مع ظهورهن تلميذات لأفلاطون ونموذجات لأكابر المصورين وعاشقات لأقطاب الأصحاب من ذوي الصيت والسلطان في ذلك الزمان، وقد ظل نظام الأسرة على حاله مع عدم وفاء وثيق في الزواج، ومع ذلك أصبح من الممكن طلب الطلاق من غير إثارة لعذل الناس، ومن النادر أن كانت المرأة تجود بألطافها عن ميل إلى ثروة الراغبين، بل كانت تمن بها عن نظر إلى المقام الاجتماعي في بعض الأحيان، وكانت الرجولة والجمال والشجاعة ؛ أي ما يعرف اليوم بالروح الرياضية، أكثر شيء يجتذب النساء، ولم يتفق لامرأة السوء من مقام في زمن، حتى بأثينة في القرون القديمة، ما اتفق لها في ذلك العصر، ولم تكن القصائد والقصص التي دارت حول علاقات إنبرية الشهيرة بأحد البابوات لتصف هذه الباسلة وصفا ساخرا بل وصفتها مع الإعجاب.

صفحة غير معروفة