169

البحر المتوسط: مصاير بحر

تصانيف

22

في السنوات ال 120 التي دام إنشاؤها فيها، فقد انطوى البناء على طموح البابوات وتنافس المتفننين وتبدل الأذواق وسلطان المال قبل كل شيء. وقد تنازع أعظم متفنني عصر النهضة، رفائيل وبرامانت والإخوة سانغالو، مدة أربعين سنة حول الشكل الذي يكون عليه البناء فلم يحققوا شيئا عمليا، ثم يدعى ميكل أنجلو فيبدي رأيين رائعين أحدهما متم للآخر، وذلك أن تكون القبة والبناء على شكل الصليب الإغريقي، ويحيط خياله بمعبد ذي نسب منسجمة وطول وعرض متساويين، وذلك مع مركز مشرف على ضريح بطرس، مع قبة ذات ارتفاع وقاعدة لا تمكن مجاوزتهما فتلوح أنها سابحة في الهواء. أجل، إنه وضع التصاميم، غير أن مائة دسيسة حالت دون تنفيذها، ولم يزل مشغول البال حول رمز هذه القبة حتى آخر حياته، فلما مات لم يكن قد بدئ بشيء.

وبعد خمسين سنة من تنفيذ التصاميم وخمس وعشرين سنة من وفاته، أقام بول الخامس القبة، التي تعد أعظم تراث لميكل أنجلو، وفق التصميم تقريبا، ومع ذلك فإن روحا شريرة استحوذت - كما يلوح - على خرائط البابا بعد قرن من ازدهار دور النهضة فصارت كلاسية الأشكال تورث ذعرا، ففرض البابا صحنا للكنيسة مستطيلا مذكرا بالصليب اللاتيني، وقد حمل على مطل القسم فأكسب البناء بذلك ما لمائة كنيسة أخرى من شكل معتاد، وعادت القبة العظيمة لا تبدو في مكانها المناسب.

واليوم، أيضا، لا تزال كنيسة القديس بطرس تبدو، خارجا، مجردة مما توحي به القباب القوطية من الروح الدينية، كما تبدو في داخلها عاطلة من الروحانية التي تنبعث من الزجاج الملون المتميز بعضه من بعض بقطع، وهي مكان محفل رسمي حيث يلتقي في أيام العيد أربعون ألفا من أهل رومة الهيف الظرفاء. وتلقي كنيسة القديس بطرس، كما تلقي نصرانية القديس بولس، حس السلطان في النفس أكثر من أن تثير روح الاحترام، ولا يكشف رمز الخلود إلا عند الاقتراب من المدينة وحين تبرز القبة المهيمنة عليها من مسافة بعيدة.

وللفاتيكان، الذي يصل البابا منه إلى كتدرائيته بدهليز، تأثير أكثر تنوعا وفتونا، وإذا عدوت بعض الفواصل وجدت البابوات قد أقاموا به منذ أربعة عشر قرنا، وتدلنا مبانيه المشتبكة على أنه أقدم من كنيسة القديس بطرس بألف سنة، وهو يشتمل على كثير من الأسوار والمعاقل والمتاريس والسراديب والساحات المحصنة، واليوم لا يقبل الزائر إلا راجلا فيتاح له بذلك أن ينعم النظر في أعجب قلاع العالم. وقد أدى عدم وجود تصميم إنشائي شامل إلى سير كل من روح بعض البابوات الحربية، ومن الروح الشعرية الرعائية لدى آخرين منهم، ومن الروح الإنسانية عند زمرة ثالثة منهم، طليقة في مجراها، وتقوم قصور ذات أبراج بجانب حدائق أنيقة كما ترتفع مكتبات داعية إلى البحث.

وعاد البابا في زماننا لا يكون أميرا زمنيا على الرغم من مدينة الفاتيكان المرتوقة، ويلوح أن هذه المباني قد خرجت من سحر أساطير الأولين، وقد ظل كل شيء في مكانه، وذلك كالحصون المتهدمة التي ترى في غير محل بأوروبة، وذلك كالشوارع والمتنزهات القائمة في مكان الأسوار التي اختفت من باريس، ويرفع الرأس منكرا حين التفكير في أن جميع هذه الحصون ووسائل الدفاع كانت قد أقيمت لحماية قس معتزل.

ومن المؤثرات الغريبة ما نشعر به في رداه الاستقبال قبل مواجهة البابا، ويكون أول ما نبصر في الأسفل، وأمام الدرج، كتيبة الحرس المؤلفة من سويسريين ضخام لابسين ثياب المشاة المرتزقة الصفر والسود، وهم ما فتئوا منذ أربعمائة سنة يحملون بأيديهم حرابا من غير أن يحاربوا بها منذ قرنين على الأقل، وهم يتكلمون كلمات ذات مقاطع واحدة مبدين من الصمت البارد ما يميز به السويسريون.

وتجد في الأعلى خمس رداه أو ست رداه ذوات سقف متساوية ارتفاعا واتساعا وفضاء، وكل شيء مزخرف بالحرير، وتبصر هنالك كراسي مصفوفة على جوانب الكثيف من الزرابي كما لو كانت غلمانا، ولا ترى هنالك منضدة، وتجمع الأبواب العريضة المزدوجة جميع تلك القاعات في رواق واحد، وتسدل الستائر، وتقوم المصابيح ذوات النور المنتشر مقام ضياء البحر المتوسط ذي الشمس الجنوبية، وتتجلى أسطورة من ألف ليلة وليلة في علبة مسحورة، ويأتي ويذهب من غير ضوضاء ضباط الحرس البابوي الذين هم من أبناء طبقة الأشراف الرومانية القديمة والذين هم مزوقون بالذهب والديباج، وذلك على حين يظهر قسيسون ويتوارون متسارين.

وإيوانات البابا مفتحة، فإذا ما دعيتم في آخر الأمر أمكنكم، في بعض الأحيان، أن تسمعوه يكلم زائريه في الغرفة المجاورة على مهل، وقد نقص السلام بالركوع ولثم الخاتم إلى أصغر مدة، ويكون البابا واقفا وحده غير جالس على العموم، وتبصر بعد المقدمة، وبعد انتظار الأسطورة، أن الاستقبال الأصلي أقل أبهة وأكثر بساطة مما كان عليه الاستقبال في البلاط الإمبراطوري القديم، وبينا ينصت لكلام البابا يسمع وراءه صليل خفيف لسيوف فضية لم تستل قط، كما يسمع طنين المهاميز الذهبية، وذلك مع نشر شعاع للأسطورة في عصرنا الموطأ، ولا يجد الزائر نفسه داخل قلعة كانت تهتز بصوت المدافع فيما مضى.

وعلى العكس لا يزال جميع فن إيطالية قائما في كل مكان من هذا القصر، ولا يستطيع متحف أن يباري كل ما أبدع هنا، بين سنة 1450 وسنة 1650 على الخصوص؛ وذلك لأن الذي ترى هنا ليس متحفا، بل تعبير عن الحياة والتقوى اللتين أنعشتا مناوبة، وفي آن واحد أحيانا، ذلك القصر وفق روح الأزمان المتقلبة. أجل، قد يكون بعض المتاحف أغنى من رداه الصور والمنقوشات في الفاتيكان كمتحف فلورنسة ومتحف مدريد مثلا، غير أنك لا تجد في مكان آخر مثلما تجد هنا من الإنتاج الفني، حتى إن قصر دوكال في البندقية يأتي في الدرجة الثانية، وإننا نستند في هذا إلى تحقيقنا الخاص.

صفحة غير معروفة