165

البحر المتوسط: مصاير بحر

تصانيف

وعلى العكس كان الطراز الذي شيدت به مباني ذلك الدور تمجيدا لله على خلاف طراز القرون القديمة، وتعد كنيسة شارتر مع تسنم أرسطو رتاجها أجمل من جميع المباني القوطية الصرفة، وتنهض أعمدتها الهيف خفيفة، هوائية تقريبا، وذلك نحو أقواس حادة، ويلوح الصحن المركزي مسيطرا عليها سيطرة منسجمة، وتظهر الرتائج الرائعة وزخارف الوسط المرسومة على شكل الورد أنها تصهر الجميع على صورة شبكة، ومع ذلك فإن لها بالأبراج الثخينة متانة قلعة ليكون هذا رمزا لاستقرار الدين الصحيح بهذا المكان، وقد أقيمت كنيسة شارتر وكنيسة نوتردام حوالي سنة 1200، ثم أقيمت كنيستا رنس وأميان بعدهما بقرن.

وما سمي بعدئذ طرازا قوطيا؛ أي طراز البرابرة، هو من أصل فرنسي مع مزيج من عناصر جرمانية، ولم يبلغ هذا الطراز درجة الكمال غير مرة واحدة في شمال جبال الألب، وقل مثل هذا عن خط ذلك الدور المدعو بالقوطي، ويأتي هذا الخط من الشمال فيبدو شكلا متبلرا لمنحنيات الحروف اللاتينية المألوفة كما لو كانت هذه الحروف قد جمدت فجأة، وتبتدع أقواس حادة مصنوعة من حجر أو مخطوطة بمداد، فتبدو منسجمة مع صور الملوك المنقوشة في شارتر ومع أول موسيقى قوطية.

ومن الطبيعي أن شيدت أروع الكنائس في فرنسة؛ وذلك لأن فرنسة كانت تمثل في ذلك الدور أوج الحضارة النصرانية، ولم يقم أساقفة رومة (البابوات) بسلطانهم خارج إيطالية في غير قرن واحد من ثمانية عشر قرنا، في غير القرن الرابع عشر، وقد كان فرارهم إلى البروفنس وعهدهم في أفينيون (1309-1408) نتيجة عوامل مختلفة؛ أي نتيجة الخوف والبحث عن السلطان والحساب، وقد زاد حس السلطة وحب الملاذ لدى البابوات في أثناء هذا النفي بدلا من ضياعهما، ولا غرو، فبما أن البابوات كانوا في ذلك الوقت موضع حماية دولة قوية، بعيدين من منازعات أباطرة الألمان وفرسان الرومان المستمرة، ناجين من أزمات إيطالية الداخلية فإنهم عاشوا فيه بين المناظر الرائعة والكروم الجميلة وأغاني الشعراء الجائلين، وهم إذ كانوا ملكيين أكثر من جميع الملوك فقد هيمنوا سرا على سلطان من كانوا ضيوفا عندهم، والحق أن تاريخ البابوات في أفينيون رواية طويلة اهتزت قلوب أبطالها دوما بالحب والحسد والدسائس والصراع الخفي.

وبينما كانت الدول القومية الكبرى تتألف تحت سلطان ملوك مطلقين، كان البابا، كان ضيف فرنسة الفار هذا، سائرا على الدرب الذي يصير به العاهل الأول في التاريخ الحديث، وقد انقطعت المؤتمرات الدينية والمجامع الروحية عن الوجود، وقد غدا البابا طاغية. وقد كانت الأبرشيات

17

والأسقفيات ومجامع الكتدرائيات تعين قساوستها وتدير أموالها حتى ذلك الحين فحرمت هذه الحقوق، فقد أخذ سيدها ومولاها في منفاه يعين موظفي دولته العالمية المترجحين بين الكرادلة وخوارنة القرى، وبين رؤساء المنظمات الدينية والأساتذة، وبين أكابر رجال البلاط وغاسلي قمصانه في الرون السريع عند أسفل قصره.

وقد استطاعت البابوية في منفاها المزعوم بأفينيون الذي كان اختياريا كهجرة محمد في الحقيقة، والذي كان أداة إدارية حديثة، وبنكا للدولة على الخصوص، أن تنال للمرة الأولى سلطانا ماليا قادرا على إدارة رءوس الأموال لدى جميع الأمم النصرانية في العالم. وكان الزبن والمتلمسون من الجنسين والمحاجون والطامحون والطامعون يتدفقون فيملئون أروقة القصر وساحاته راجين نيل شذور من كنز البابوات الذهبي الأسطوري ذاكرين أقتم أدوار الإمبراطورية الرومانية، ولكن الجو المعتاد هنا كان يفسد بسلطان أدبي لمعهد يستطيع أن يبارك أو يلعن وأن يسلب مالا من المؤمنين عن وعيد بالعقاب في الآخرة، وكان مبدأ بيع الغفران ينطوي على خفر لأفكار القديس بولس النبيلة ومشاعر يسوع السامية، ولم يخترع هذا المبدأ في إيطالية حوالي سنة 1500، بل ابتدع في فرنسة قبل لوثر بقرن ونصف قرن.

وكان يدعى بالسجن الواسع قصر البابوات الجليل؛ أي ذلك الحصن القوي ذو الشرف الكثيرة والمسيطر على المدينة القديمة وعلى الرون، وتسوغ هذه الأبراج الجبارة، وهذه الأسوار الواسعة العابسة التي هي من بناء عدة أجيال، بظاهرها، تعبير «إسارة بابل الكنيسة» الذي اخترعه قساوسة العصر المتعصبون المشاغبون. والرجل إذا ما جاوز القصر لم يجد سجنا، مع ذلك، بل بلاط يفوق جميع البلاطات الأخرى بغناه وسناه، وما جبي من فقراء العالم بأسره من الصدقات البابوية أو من زكاة الحروب الصليبية، التي يعدل ما جمع منها خمسة عشر مليون دولار ذهبي، انتهى إلى تلك الرداه المزخرفة الزاهية وأقيمت به الولائم الفاخرة وأنفق على الاستقبالات والألعاب والأغاني، وقد بلغ ما أنفقه البابا كليمان الرابع في حفلة تتويجه وحدها 120000 دولار من ذهب، ولم تؤد عزوبة الأساقفة إلى غير زيادة ملاذ حياتهم الغرامية، ومن المؤسف، مع ذلك، أنه لم ينتج أي أثر فني بأفينيون في ذلك العصر.

وقد أصلح البابا يوحنا الثاني والعشرون، الذي هو أقدر صيرفي بين جميع البابوات، نظام الضرائب في جميع دواوين العدل، وقد كان مشهورا في اكتشاف الوثائق غير المجهزة بطوابع، وقد أثارت أعماله وأعمال خلفائه القائمة على الربا حيرة العالم، ولما ارتفعت أصوات لبيان فقر الحواريين قالت السدة الرسولية بإلحاد هذا المذهب، وبما أن نحو نصف الدخل الرسولي كان يذهب إلى الكرادلة فقد كان يثور قليل حسد بين الأساقفة، ويجتنب خزي الاختلاس بأعمال محكمة، وذلك بأن يحول المال المركوم إلى قرض مصرفي فينال رضاء البنوك الكبيرة بمعدل مئوي مرتفع، حتى إن ملك فرنسة شمل أعمال الكنيسة الموفقة هذه بعين رعايته واستفاد منها ما دام البابا قد وافق على حل منظمة الفرسان الهيكليين الذين أتوا إلى فرنسة من جزيرة رودس فاتهموا بتعاطي عادات مخالفة للطبيعة وبعبادة الشيطان، والواقع أن ملك فرنسة أمكنه بهذا الحل أن يستولي على خزائنهم الواسعة.

وكان ذلك اللعب الكلبي يتم وفق مآرب سياسية، أجل، انقضى الزمن الذي أمسك إمبراطور ألمانية فيه زمام حصان البابا الأبيض مجاوزا ميدان سان مارك في البندقية فقبل رجل الحبر الأعظم، غير أن البابا كان من القوة الكافية ما يستطيع به أن يضمن لفرنسة أعظم الفوائد، ومن ذلك أن جعل حكما في حرب مائة السنة فألقى حكمه على تاريخ أوروبة مع مراعاة مصلحة فرنسة جهد المستطيع، ومن ذلك أن ود البابوات نقل التاج الإمبراطوري من الألمان إلى الفرنسيين بعد مكافحتهم آل هوهنشتاوفن، وقد حبطت هذه الخطة؛ وذلك لأن كل سعي في سبيل السيادة العالمية صار عقيما؛ ولأن تجمع الأمم حول مركزها الطبيعي كان يزيد؛ ولأن روح الزمن كانت مخالفة لكل سلطة عالمية ومنها سلطة الكنيسة؛ ولأن كل ملك عاد راغبا عن نيل بلاده من أسقف رومة كإقطاعة وصار يأخذها من الله أو بقوة سيفه.

صفحة غير معروفة