الجزء الثالث
إلى المنار
لا يرجع الحارس إلى كتابه إلا عند الصباح، وكانت الضباب قد غمرت الليل، وكان شعور الحارس بما ألقي عليه من مسئولية قد بلغ من التأصل ما حال معه دون دوامه على مطالعته، وكان يلوح أنه لا يسمع صوت الصفارة التي تصفر مرة في كل خمس ثوان، وفي ساعات، صفيرا طويلا فيعد في الخارج أنينا أكثر من أن يعد تحذيرا، وما كان أحد في الجزيرة لينتبه إلى ذلك النداء، فقد صار أمرا عاديا لدى أسر الحراس ولدى سكان البيوت الصغيرة التي تحيط بها الكروم، وقد عاد لا يلاحظ أكثر من أن تلاحظ الشمس في رائعة النهار. وكان حارس المصلحة يعرف كل صخرة وكل أرض نائتة على بعد خمسين ميلا من شمال جزر إيرس الشرقي نحو سان رفائيل ومن الجنوب الشرقي نحو قورسقة، وقد سأل: ما هو الزمن الذي مر منذ صدم ذلك المركب الصغير الشاطئ وغرق هنالك؟ ولم ينقطع نظره عن جهاز اللاسلكي كما لو كان ينتظر صوت استغاثة، ثم يصعد في السلم الحديدي الحلزوني ليختبر الصفارة أكثر من أن يصحح المصباح، وكان المصباح، الذي أصبح اليوم غير ذي نفع، يدور وفق نسق ثلاثي مع انتظام نمطي كما في النفس المعبدة.
ولم يكد هواء تلك الليلة الصيفية المضب
1
يحرك بنسيم مدار، ويلطم الهواء الحار الندي وجه الحارس، ويلون الزجاج الأحمر والأخضر الذي يناوب الأبيض تلك الضباب الرمادية المشربة برسوم شبحية فينير من فوره جزءا غير منتظم من كتلة، كما لو وقع الأمر بقوة ساحر، وكما لو أثار عبقري جمهورا ببضع كلمات.
وكانت أذن الحارس مرهفة في تلك الليلة، وصار الحارس لا يبصر شيئا، ولم يأل الحارس جهدا في ميزه وسط الصمت الغريب صوت صفارة بعيدة كان من المحتمل أن تخبر عن مراكب أخرى ضمن نطاقه فتظهر هذه المراكب للمنار إذا ما كانت قريبة منه بعض القرب، ويعرف الحارس أن المصباح ينشر نوره من فوق البرج البالغ من الارتفاع مائة قدم فقط، لمسافة ثلاثة عشر ميلا، غير أن مدى أثر الصفارة كان غير ثابت لتوقفه على كثافة الضباب، وحس الواجب في الأزمنة الأخيرة يغم ذلك الرجل فيسأل في نفسه أحيانا عن وجود نقص في سمعه، حتى إنه طلب من ابنه ذات يوم أن يجوب الحديقة وأن يذهب إلى صخرة بحرية متذرعا بضرورة بحثه عن شيء هنالك قاصدا في الحقيقة سؤال ابنه عن أمر بصوت عال طمعا في سماع جوابه، كلا، إنه كان حسن السمع، وهو إذا ما شك في ذلك فلما يقضيه من حياة عزلة تجعل الإنسان كثير الحس تارة وغير مكترث تارة أخرى.
ويظل كل شيء صامتا، وترتفع الضباب في أول النهار سمطا عريضة من الجنوب ومن الجنوب الشرقي، ويعود الحارس إلى قاعة عمله التي هي غرفة انتظار تقريبا، وتساوره مشاعر مؤمن ثابت الإيمان بأدعيته الحارة التي يتلوها في كنيسة دجناء، وهو، كنوتي أفنى حياته في الملاحة، يخشى كل شيء دوما، وهو لم يغفل عن عادته ليلة واحدة، وهو قد داوم على المطالعة في الليلتين الماضيتين، فأنجز قراءة الجزء الثاني من الكتاب في ساعات الصباح الأخيرة، وهو، حين وجوب نهوضه، قد طلب من زميله صارخا أن يصبر بضع دقائق ليتم قراءة الفصل.
ويحب الحارس أن يقضي وقتا قصيرا في حديقته بعد النوم وقبل الغداء وهو يتنزه بخطا رزينة خلف زوجه الجادة في قلع الأعشاء الرديئة من حديقة لوبياء وفي جمعها داخل سلة، ثم يفرغ السلة على كومة زبل يدوسها، ويرجع بالسلة، ويعود إلى تنومه،
2
صفحة غير معروفة