ويوضح ذلك قلة حس الطبيعة لدى موسى ومحمد وفيض الأخيلة التي كان يوحي بها البحر إلى أفلاطون وعيسى، وتجد موسى ومحمدا متماثلين مزاجا كرئيسين بدويين، وذلك من حيث كونهما عمليين، صائلين، حاكمين مطلقين، زعيمين، نبيين، يحفزهما الغضب والانتقام، وعلى العكس كان أفلاطون وعيسى المخاطران بالنفس يحبان التحذير والإقناع، فكانا أدنى إلى الفلسفة مما إلى النبوة.
وتلك الصفات هي رموز الأخلاق القومية، والواقع أن جواب اليهود والمسلمين عن الحياة كان إيجابيا على الدوام، منكرين النسك بشدة إنكارا واضحا مادحين الخصب، وكان كلا النبيين يعرف النساء، حتى إن موسى عاش مع أجنبية، وكان لمحمد ما طاب من الأزواج، وعلى العكس كان النصارى الأولون والأغارقة المتأخرون يقولون بالزهد، فسار نبياهم وفق مذاهبهم، فمن جهة تبصر بحثا عن الدنيا ومن جهة أخرى تبصر زهدا في الدنيا، ويجد المؤمنون هنا جنة معمورة بالنساء الجميلات، ويجد المؤمنون هنالك جنة مملوءة بالأجواق الفخمة.
ويميز اليهود والمسلمون من النصارى الأولين والأغارقة المتأخرين، الذين ابتعدوا كثيرا عن العالم حتى يختصموا، باعتقاد الربانيين وسفسطتهم مع علماء العرب الذين هم في خصام مستمر حول تفسير الأسفار، ولما قرب الحقد والحب بعض أولئك من بعض أثر كل من النصارى والعرب في بعضهما بعضا مقدارا فمقدارا.
ويرجع القرآن إلى التوراة والإنجيل باستمرار على أنهما أثر وحي سابق من الله، وليس مما يخالف العقائد الإسلامية إذن أن يقتبس العرفان من المصادر الأجنبية، ولم يصنع اليهود والنصارى الذين اعتنقوا الإسلام في أوائل القرون الوسطى عن قناعة أو عن منفعة ولم يصنع ألوف العرب الذين صاروا يهود أو نصارى، غير تقليد ما فعله الرومان واليونان من تبادل خصيب، وأولئك المسلمون المهتدون هم الذين وفقوا بين دينهم الصحراوي المنفرد وحضارات البحر المتوسط، ومع ذلك فإن بعض أتباع الأديان الوثيقة القربى قد انقض على بعض في حروب دامية فأدى هذا إلى قتل ملايين من الآدميين باسم الرمز حين كانت القرون الوسطى تمثل حضارة موحدة في الغرب.
وقد أثار حادث فاجع هزلي، كرر في التاريخ كثيرا، حقد التلميذ النشيط على أستاذه، وذلك أن الراعي الفتي محمدا كان يألف العرافين وشعراء العرب مع الحجارة الساحرة وعبادة الشجر والنار، وأنه استنبط معارفه من أحاديث اليهود المنتشرة في بلاد العرب الغربية أكثر من تعاليم عيسى وزرادشت، من أحاديث اليهود الذين كانت توجد جماعة منهم في المدينة، وأن المبدأ اليهودي القديم قد أوحى إلى ذلك التاجر المكي الذي كان غنيا في الأربعين من عمره والذي كان سعيدا في حياته المنزلية، فكان الإله اليهودي الذي هو قاضي الدنيا ذلك الرب الواحد الذي قام عنده مقام الأصنام البدوية، ويا للسهولة التي يحول بها مثل هذا الإلهام إلى وحي في الحس النبوي الذي اختير صاحبه لينقل إلى العالم ما تلقى من رسالة!
وكان ذلك الوحي يجعل حديث الهداية، المحاط بحلقة صغيرة من المستمعين، متصلا اتصالا وثيقا باليهود، والحق أن الهجرة لم تكن فرارا، بل كانت معدة في سنتين ومعجلة عن تهديد، وهي قد أتت بمحمد إلى يهود المدينة الذين سألوه أن يكون حكمهم في خصام مع ملاحدة، وما كان من ادعاء محمد أنه خليفة لموسى أثار سخرية اليهود، لا ريب، كما أوجب حقدا على الغريب.
ولو رضي يهود المدينة بهذا الرجل المجهول تقريبا؛ أي بمحمد الذي دعوه إلى المدينة، رئيسا سياسيا ما عرفه التاريخ غير منظم نقل العرب من الإشراك إلى اليهودية في القرن السابع، ولكن بما أن اليهود سخروا منه ونبذوه فإنه، وهو تلميذ لليهودية، تحول إلى أعظم لاسامي في التاريخ، ويسلك مثل سبيل زعماء الشعوب المعاصرين فيكدر المنبع الذي كان قد شرب منه، ويصف كل ما لا يروقه في اليهودية بالمزور. ومن عادته في البداءة أن كان يستشهد بالتوراة والإنجيل لما فيهما ما يؤيد تعاليمه، ثم زاد رغبة في السلطان، واغتم من الوضع العنجهي الذي اتخذه اليهود برفضهم الاعتراف به كما اغتم من اعتزال النصارى، وهو إذ كان يرى أن الفوز يكون حليف النبي بحكم الضرورة فقد صرح بأن صلب عيسى من اختلاق اليهود.
ويصبح النبي فاتحا في السنوات العشر الحاسمة الأخيرة من حياته، ويصبح رسول الله الواحد سياسيا عاملا بين الزمر، وهو في ذلك كرؤساء أحزابنا المعاصرين الذين لا يترددون في تغيير مراسيمهم عند الضرورة، ومع أن الإسلام كان في بدء الأمر معادلا «للتسليم إلى مشيئة الله» عرفه محمد بعد حين «بالتسليم إلى مشيئة الله ورسوله». وقد صار محمد قائدا وحاكما ودبلميا وزعيم حزب وغنيا مع نعيم في الغزوات التي وجهها إلى الأعراب واليهود وفي منظمات أتباعه الذين كانوا يزيدون عددا وفي أثناء مفاوضات السلم التي تتابعت في سني نصره العشر سريعا، وهو؛ لأنه عميق الحسية، كان يطيل الفكر في مسائل الطعام والشراب وغيرها من الاحتياجات البدنية، وهو قد سن دساتير ومحظورات بالغة الحكمة ملائمة لمبادئنا في التناسل وعلم الصحة. والواقع أن القرآن كتاب عملي للحياة يطفح حيوية وتنوعا فينظم الحياة اليومية في جميع جزئياتها المترجحة بين وضع الشعر واستعمال السواك. وتنم أحكامه حول الأسرة والميراث، في بعض الأحيان، على عدل البدوي الطبيعي المغيار، ويعنى كثيرا في مسألة المرأة كنبي ومجاهد، ولكن من غير أن يصنع أكثر مما صنعت النصرانية في سبيل حلها.
وكان ابن الصحراء محمد يحب الأسرة والقبيلة، فيرى أن «ريح الولد من ريح الجنة»، وأن اثنتين من صلوات المتزوج خير من سبعين من صلوات العزب. وبينا ترى النصرانية الأولى قائلة بالزهد سائرة إلى تسوية مكتفية بطهر القسوس في نهاية الأمر، تبصر محمدا مرتابا في أمره حول الوفاء الزوجي، وقد أثبت هذا الشك في كثير من الأحاديث، كقوله: «اطلعت على النار فإذا أكثر أهلها النساء»، و«مثل المرأة الصالحة في النساء كمثل الغراب الأغصم من مائة غراب.»
ثم يأمر بالتسامح نحو المرأة في مثل قوله الجامع الرائع: «استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا.» وهو مع سماحه للرجال بأن يضربوا نساءهم غير الوفيات بالسير،
صفحة غير معروفة