من انحراف خفيف إلى نفوذ رأسه وذراعيه في فضاء داخل القفص الزجاجي الذي رفع في وسطه، وفوق حلق من النحاس الأصفر، مصباح كهربي عظيم كامد فاتر منتظر قيامه بخدمة، ولو ترك هذا المصباح وشأنه ما كان له نور أقوى من نور مصباح سيارة على قارعة الطريق، ولكنه يبلغ بما يعلل به من المواشير
5
قوة 150000 شمعة فيرى من بعيد، يرى من نحو عشرة فراسخ.
ومع ذلك يظهر النهار غير راغب في ترك حقوقه، ومع ذلك يظهر النهار راغبا في جعل نوره مائة ضعف، وتضيء الوجوه الألف للعدسة الضخمة وجه الحارس بأشعتها المحرقة الملونة بألوان قوس قزح، وتتحول يده إلى طيف سحري كثير الألوان حينما يرفعها لفحص حلقة تحت المصباح، والآن يخرج رأسه من القفص البلوري حذرا، وهو يحقق، بنظرات يلقيها، جلاء الألواح الزجاجية المجوفة وسطحها السليم، وهو ينفخ في موضع دفعا لخيط، ثم يقوم بجولة أخرى حول الجسر الضيق بين المصباح والنوافذ الخارجية.
ويشعر الرجل الذي يرفعه بمجيئه منذ زمن طويل، وهو يقابل بين مذكراته وأدوات النور والأدلاء والصفارة البخارية واللاسلكي، وهو يفحص الجهاز الطنان الذي يتصل المصباح به آليا عند وقوفه أو انكساره فجأة.
وترانا في المنار الكبير القائم بإحدى جزر إيرس والذي يرقب ساحل البحر المتوسط الفرنسي من وسطه في جنوب طولون الشرقي، وذلك منظر جاف روائي، واليوم، في شهر أغسطس، يبدأ عمل الليل في الساعة السابعة، حتى في النهار، حين لا يشعل المصباح، لا بد من وجود حارس هنا لتسجيل الضباب والزوابع وللإجابة عن الاستعلامات باللاسلكي، والآن يأخذ الحارس خويذته قبل أن ينصرف كما يأخذ من المنضدة كتابه الذي كان يمسكه في ساعات العمل.
وينظر الحارس الجديد إلى الساعة الدقاقة، ويفحص الألواح الأربعة أو الخمسة الموضوعة على المنضدة، ويلقي نظرة على العتلة والإبر والساعات الدقاقة والهاتف واللاسلكي، ثم يسجل في دفتر وقت بدئه العمل؛ أي الساعة السابعة والدقيقة الثالثة والعشرين، وكون الجو جليا وكون سرعة الريح ضعيفة، فيلوح سكون الليالي على البحر المتوسط في أول الأمر، وتلك مصلحة لا تتطلب غير حضور الرجل المسئول وسهره في ذلك المكان بين الأجهزة التي تعمل بلا ضوضاء.
ويلقي نظرة أخرى على جميع الأجهزة، ثم يذهب إلى المكتب الكبير، ويدير عاكس التيار الصغير، فبعد هنيهة تبصر شعاعا قويا من النور يلقى، بحركات بطيئة مستديرة، على المنظر الذي لا يزال ينيره النهار إنارة ضعيفة، وتسفر ضغطة يد عن إضاءة المصباح في الأعلى، ويدور شعاع النور الثاقب المصنوع حول نفسه أحمر أبيض أزرق في فترات قصيرة، في كل أربع ثوان، وذلك هو فنار
6
الجزيرة الذي تعرفه جميع السفن من الخارج أو تسجل أمره في يوميتها حينما تبحث عن مكان لها، ويكفي مصباح واحد كذلك ينعكس نوره بوجوه العدسة العظيمة ليرى الملاحون ألوانها المتقلبة على مسافة عشرة فراسخ من جميع الأطراف، وهذا اختراع فرنسي تم في أواخر القرن التاسع عشر، واليوم لا تزال فرنسة تنتج تلك العدسات حتى من أجل مناور كاليفورنية.
صفحة غير معروفة