4
في هذا المزاج الذي جمع بين الذكاء الفطري والمعرفة المكتسبة والخبرة الواسعة، بين جد رجل القانون ودقة الأديب الطروب يتكون الاحتياج الشديد إلى الإصلاح. لأننا إذا أردنا إصلاحا في التعليم مثلا فلا ننتظره ممن لا يحسنون القراءة، وإذا أردنا تعديل القانون وتنقية الأحكام فلا نطلبه من مستبد قانونه أنانيته. وإذا شئنا تصفية الذوق وتلطيف الشعور فلا نلجأ إلى الطبائع الخشنة والشعائر الضخمة، بل نأمل في الفكر المصقول والعقل الراجح والنفس المتقدة عواطف، لتسوق بالناس إلى حب التحسن والرفعة المعنوية. ورقيق القلب نافذ الفكر يتعذب بمعاشرة من لا يشبهه، ولا يميل إلا إلى من تفاهم معه، فينتخب أصدقاءه انتخابا لا يجعله متساهلا فيه احتياجه المؤلم إلى خل وفي. اقرأ كيف يصور قاسم الصديقين:
تأمل في مسامرة صديقين تجد أنها كنز سرور لا يفنى. متى تلاقيا يفرغ كل منهما روحه في روح الآخر فيسري عقلهما من موضوع إلى موضوع وينتقل من الجزئيات إلى الكليات ويمر على الآمال والآلام والقبيح والحسن والناقص والكامل. كل عمل أو فكر أو حادث أو اختراع يكسب عقلهما غذاء جديدا ويفيد نفسيهما لذة جديدة. كل مظهر من مظاهر حياة أحدهما العقلية والوجدانية وكل ما تحلت به نفسه من علم وأدب وذوق وعاطفة تنعكس منه على نفس الآخر فيكسبه لذة جديدة ويزيد في رابطة الألفة بينهما عقدة جديدة.
5
فإذا كان هذا ما يطلبه من صديقه فماذا تراه يطلب من تلك التي هي زوجته، وقد قيل إن العاقل ينتخب لنفسه امرأة جامعة لكل الصفات التي يريدها في الصديق؟ ماذا يطلب من المخلوقة التي ينفعل الرجل مرغما بتأثيرها في كل أدواره، وفي كل خطوة يخطوها سواء شاء أم لم يشأ، ينفعل بتأثيرها غريبة وقريبة، عابرة في سبيله أو شريكة له في حياته؟ ماذا يطلب، وهل عنده ما هو طالب بحق؟ هو يجيب عن هذا السؤال:
وكل منا يذوق حلاوة الساعات التي تمر به بدون أن يشعر حينما يطول الحديث بينه وبين صديق له وتختلط نفساهما ببعض حتى يذهل كل عن أيهما يتكلم وأيهما يسمع. فهذا السرور يتضاعف بلا شك، إذا وجد هذا التوافق بين رجل وأمه وأخته أو زوجته. ولكن يحول الآن بيننا وبينهن عدم التوافق بين عقولنا وعقولهن ونفوسنا ونفوسهن؛ ولهذا فإنا نشفق عليهن ونحن إليهن ونعذرهن، ولكن لا تكمل محبتنا لهن؛ لأن الحب التام هو ذلك التوافق، وهو معدوم.
6
هو يعرف المرأة لأنه يعرف الرجل، ويعرفهما معا لأنه يعرف الطبيعة البشرية. ترى من يستطيع أن يكتب كلمة كهذه إن لم يكن قد خبر أحوال الناس، ونقدهم ثمن كل حرف من حروفها نقطة من أثمن دماء قلبه : «كلما قدرت على أن أقوم بخدمة طلبها مني صديق أسفت على خسارته وعددته عدوا جديدا.» فلا عجب من أن هذا الذي ينفذ بنظره إلى أقاصي الوجدان طائفا بين ألغاز الميل والنفور يتمكن من لمس تفتت المرائر وإحصاء نبضات القلوب. وأي حدس متيقظ مصيب في هذا البيان: «يوجد أناس متى رأيتهم أو سمعتهم تشعر بنقص في خلقهم كأنهم صنعوا بغاية السرعة فلم ينالوا حظهم من الإتقان المعهود.»
7
وإذا حاولت إجمال شخصيته ووضع عنوان لها ما وجدت أفضل من سطوره الآتية:
صفحة غير معروفة