وخفة الروح، ثم عذوبة الصوت المنطلق من الصدر؛ لأن كل صوت ينحدر من الرأس إلى الأنف يكون ذا نغمة شائكة مزعجة فيفقد قوة التأثير. وإن لم يكن الخطيب مؤثرا فلماذا يتكلم؟ ثم وضوح اللفظ وبلاغة النطق، وأخيرا الشجاعة الأدبية اللازمة لإبداء الرأي بكرامة وسذاجة.
كثير من مقالاتها مكتوب بكيفية خطابية، وهي كيفية فعالة، غير أنها في خطبها تتبع خطة المحدث البسيط؛ لأن خطبها لم تكن في الواقع إلا محاضرات، وهذه تشغل الدرجة الواقعة بين الحديث المألوف والخطابة الصرفة. وقد تركت بعض المنظومات لأنها كانت تحب الكلام الموزون، وكل ما نثرت موزون منسق. ولا أعرف في كل ما كتبت نبذة أبدع من هذه التي تبدو فيها مقدرة مزدوجة كتابية وخطابية يختلط بها شيء من الشجن الشعري وكآبة المرأة الغزيرة العواطف الدامية الشعور:
يصبونه (الماء) فينصب، ويريقونه فيختفي في الأرض، ويضعونه في كل آنية معوجة وملونة فيأخذ كل شكل ويصطبغ بكل ما يراد به من الألوان. تبخره الطبيعة زارية هازئة فتارة ترفعه إلى السحاب وطورا تقذف به إلى الأرض، وآونة تعاكسه بصقيعها فيتحول بردا وآونة تحمي عليه براكينها فيخرج ملتهبا، وحينا تخبث رائحته بكبريتها وزرنيخها فيلعنه الناس إذا أحسوا منه غير ما يريدون وهو بريء، ثم أليس هو رمز الطاعة والامتثال؛ يضعون فيه سكرا فيحلو ويذيبون به الحنظل فيمر. وهم مع ذلك لا يقيمون له وزنا ولا يعترفون له بجميل. وهو بلا ثمن في أكثر بقاع الأرض وأرخص الأشياء في أقلها. إنه مثلي يا مي؛ يذهب ضياعا.
12
ما أوجع هذه الكلمة وأوجع المرارة التي أملتها! لقد فعل الحزن هنا ما يفعله في كل نفس صالحة، فكان اليد المنبهة الخصب الجانية الخيرات. إن لهف أيام ولواعج عمر أنتجت أبحاثا قليلة ولكنها فريدة من نوعها في الآداب العربية. وسنقف على زبدة هذه الأبحاث في الفصلين المقبلين إذ نعالج الباحثة ناقدة ومصلحة، فنجد ثمة أكثر الآراء تعقلا ورزانة. لو لم يكن للحزن من منفعة سوى انتباه ضحيته إلى ضرورة الإصلاح وعثورها على مواطن الضعف والسقام من بيئتها، ولو لم يكن له من منفعة سوى تمزيق حجب الزهو والغرور عن محيا الرصانة والحكمة، لكفى به قوة تسكب عليها البركات على كر الدهور!
كلا، لم تمض أتراحك جزافا، يا روح العزيزة؛ إذ لا يتلاشى شيء في هذا الوجود العظيم، ولا ذهبت منك القدرة ضياعا؛ لأن الحياة والموت ألعوبتان في يد النظام المطلق: نظام التحول الشامل، وما كان قومك بذلك التحول فيك إلا القوم الرابحين!
الفصل السادس
الناقدة
أليس النقد من تلكم الملكات الفطرية المتسلسلة أدوارها في الطفل وفي الرجل على نمط واحد؟ فتكون في دورها الأول نظرا بسيطا يعقبه انتباه إيجابي أو سلبي؛ أي الانتباه لوجود شيء أو لعدم وجوده. ثم يجيء دور المقابلة بين ما هو كائن وما يجب أن يكون. حتى إذا اكتمل فعل التمييز والمقابلة، وحكم الذوق بأفضلية أحد الوجهين وأنقصية الآخر، كان ذلك الحكم ما نسميه نقدا.
كان الجمهور بالأمس يتخيل وجود نصوص ثابتة مترفعة عن التحوير هي سلاح الناقد، فردا كان أو أقلية قادرة. فإذا أثبت الناقد أو نفى احتضنت رأيه الأكثرية بلا تمحيص ولا ارتياب في أنها ماثلة أمام الحقيقة بعينها. ويا لهول روعة تجمد المفكر إزاء ما قاساه الأنام من جراء هذا الاعتقاد الفاسد والاستسلام الذليل! وفي ماض ما أكثر ما أورث الحاضر من الحفائظ والضغائن! أما الآن فالرأي العام - كالرأي الخاص - لا ينقاد إلا إلى من شاء الانقياد إليهم، حافظا لنفسه حرية النقض والتأييد والمناقشة. والحقيقة أن عصرنا عصر انتقاد بلا نقدة؛ لأن النقد أصبح جزءا مدركا من شخصية كل فرد، وانحصاره في أفراد دون غيرهم ينافي الروح النقدية وينافي الواقع؛ إذ أي الناس لا يحب أشياء ويكره أشياء؟
صفحة غير معروفة