والمرأة القوية القادرة بإرثها النسائي ضعيفة جدا إزاء نفسها. وفي ذلك ما يستدعي الإشفاق والإجلال معا. وليس الإشفاق بقاتل الاحترام وملاشيه، بل قد يجتمعان متساندين متعاضدين. فكم تشفق المرأة الضعيفة على الرجل القوي! وكم تكون قوته ذاتها موضوع عطفها! وذلك لا يقلل من إعجابها به، بل كثيرا ما ينتبه حبها وينمو ساعة الشعور باحتياجه إلى مساعدتها. فلماذا لا ينمو كذلك حب الرجل تحت فعل الإشفاق، وكم كان الإشفاق مقدمة الحب، وهل في القلب المغلق في وجه الرحمة العذبة مكان للحب الأكيد؟!
ولكن لا يجفلن القارئ لهذه الوثبة الكلامية من الباحثة! إنه سيسمعها بعد حين عائدة إلى الابتهال. •••
لن أحاول وضع رسم معنوي لها؛ لأن كل رسم يظل واهي الخطوط إزاء الصورة التي جمعت فيها نفسها بيدها في السطور الآتية:
لماذا يا مي تدعين علي بالعذاب المعنوي؟ ألا إنما العذاب البدني أخف منه وطأة وأعفى أثرا. على أني جربت كليهما وذقت الأمرين معا. تقولين: «لأنه النار المقدسة.» نعم لقد أعطاني من القداسة مقدارا أكثر مما يجب لمثلي، حتى جعل البون بعيدا جدا بيني وبين هذا العالم غير القديس. تقولين: إنه «النار التي تطهر.» حقيقة. إنه تلقى وجداني بالتطهير منذ أن كان لي وجدان حتى صيره شفافا يظهر كل شيء ويتأثر لأقل شيء، وهذا فيه من الضنى ما فيه. تقررين أنه «النار التي تحيي.» نعم إنه أحيا روحي حتى أحرقها؛ لأنه كان كمصباح سيال كهربائه شديد، ولكن فتيلته لا تحتمل، «هو النار التي تلين.» هذا ما أبديت، ولكن ألا تعتقدين أن اللين يؤذي، خصوصا في هذه الدنيا التي كلها صدام وعراك، وأنه لا يفل الحديد إلا الحديد. إنه ألانني حتى صيرني ماء، وما أشد عبث الطبيعة والناس بالماء مع أنه أصل الحياة! وختمت حسن تعليلك لعذابي بقولك إنه «النار التي ترفع النفس على أجنحة اللهيب إلى سماء المعاني السامية.» نعم إنني الآن على أجنحة اللهيب، ولكني لم أصل بعد إلى السماء، وإذا وصلتها فلن يعود العالم يراني.
9
يومئذ حسبت هذه الجملة الأخيرة زهرة من زهرات البيان، ولم أكن أدري أنها نبوءة، فما تلقيتها إلا اليوم بالتصديق، فجاء تصديقي متأخرا! لقد وصلت الآن إلى «السماء» فماذا وجدت هنالك حيث احتجبت عن أبصار البشر متفرغة لاستقبال وجه البقاء؟ إنها أردفت الفقرة السابقة بهذه الجملة: «فهل يا ترى ستعجبني السماء؟ إني أشك في ذلك.»
أما أنا، فأعلم أنها هي التي كانت ذات قابلية للتكيف بقالب الأحوال المارة لم تكن راضية عن «الأرض»، وسخطها على هذه الكرة هو الذي جعلها تشك في هل «ستعجبها السماء»، لقد كانت كجميع ذوي المزاج العصبي، والعصبي الصفراوي، المستسلمين للكآبة، شديدة الشعور مع ميل إلى الحزن. وقد قوى ذلك فيها تأثير المطالعة، واعترفت به حيث قالت: «أول ما حفظت من الشعر المراثي وأولها رثاء الأندلس، وكنت في حداثتي أقرأ كثيرا ديوان المتنبي وأعجب بنفسه الكبيرة وأظنه هو الذي عداني في ذلك وسمم آرائي. رحمه الله، إني ألذ كثيرا بهذه العدوى.»
10
وقد تكون مدينة له كذلك ببعض الحكم المنشورة في فصولها، كهذه مثلا: «فالتجربة أرشد معلم، والليل والنهار كفيلان بتأديب من لا مؤدب له.»
11 •••
صفحة غير معروفة