ذكر المؤرخون أسبابا كثيرة لترجيح المنصور هذه البقعة على غيرها، منها اقتصادية، ومنها عسكرية، ومنها صحية؛ فقالوا: «إن المادة تأتيها من الفرات ودجلة وجماعة الأنهار، وتحمل إليها طرائف الهند والسند والصين والبصرة والأهواز وواسط في دجلة، وتجيئها ميرة الموصل وديار بكر وربيعة في دجلة أيضا. وهي بين أنهار لا يصل إليها العدو إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسور ونسفت القناطر لم يصل إليها العدو، فهي قريبة من البر والبحر والجبل.» ثم هي في أقرب نقطة بين دجلة والفرات، ووسط بين بلاد العرب والعجم، ثم إن العباسيين الذين قامت دولتهم على سيوف الفرس يحلو لهم أن يجعلوا عاصمتهم على مقربة من المدائن عاصمة العجم القديمة.
البدء بالبناء
قال الشيخ أبو بكر الخطيب: «وبلغني أن المنصور لما عزم على بنائها أحضر المهندسين وأهل المعرفة بالبناء والعلم بالذرع والمساحة وقسمة الأرضين، فمثل لهم صفتها التي في نفسه، ثم أحضر الفعلة والصناع من النجارين والحفارين والحدادين وغيرهم، فأجرى عليهم الأرزاق، وكتب إلى كل بلد في حمل من فيه ممن يفهم شيئا من أمر البناء، ولم يبتدئ في البناء حتى تكامل بحضرته من أهل المهن والصناعات ألوف كثيرة، ثم اختطها وجعلها مدورة ...»
قال محمد بن جرير الطبري في تاريخه:
ذكر أن المنصور لما عزم على بنائها أحب أن ينظر إليها عيانا، فأمر أن تخط بالرماد، ثم أقبل يدخل من كل باب في فصلانها وطاقاتها ورحابها وهي مخطوطة بالرماد ... ثم أمر أن يجعل على تلك الخطوط حب القطن ويصب عليه النفط، فنظر إليها والنار تشتعل ففهمها وعرف رسمها، وأمر أن يحفر أساس ذلك على الرسم.
وعند ذاك ابتدئ بحفر الأساس، وكان ذلك سنة 145ه، فوضع بيده أول آجرة في بنائها، وقال: «بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.» ثم قال: «ابنوا على بركة الله.»
وأقيم لها في أول الأمر سوران، قطر دائرة السور الداخلي 1200 ذراع، وارتفاعه 35 ذراعا، وعرضه من أسفله 20 ذراعا، أما السور الخارجي فعرضه من أسفله خمسون ذراعا، ومن أعلاه عشرون، وعرض ما بين السورين مائة وستون ذراعا، وفي كل سور أربعة أبواب، بين كل باب وآخر ميل، وعلى كل باب قبة ذاهبة في السماء سمكها خمسون ذراعا، وعلى رأس كل قبة منها تمثال يتجه إلى حيث تأتي الريح، وبين كل قبتين 28 برجا.
وبنى المنصور قصره المعروف بقصر الذهب في وسطها، وأقام في صدر القصر إيوانا شامخا وفوقه إيوانا مثله، وفوقه القبة الشهيرة المعروفة بالقبة الخضراء، وكان ما بين الأرض وأعلى القبة 80 ذراعا. وفي أعلى القبة فارس بيده رمح يتجه إلى حيث تأتي الريح، وهو شبيه بما يسميه المعاصرون «ديك الريح». قالوا: كانت هذه القبة تاج بغداد، وعلم البلد، ومأثرة من مآثر بني العباس عظيمة، بنيت أول ملكهم وبقيت إلى آخر أمر الواثق، فكان ما بين بنائها وسقوطها مائة وثمانون سنة ونيف، وكان سقوطها سنة 329 في ليلة كثر مطرها واشتد برقها ورعدها.
ثم إن المنصور أقام حول مركز المدينة سورا داخليا ثالثا، فيتألف من مجموع الأسوار الثلاثة دوائر ذات مركز واحد وهو قصر الذهب. وكان العمل في بناء بغداد قد توقف قليلا في بادئ الأمر عندما ظهرت ثورة العلويين في مكة ثم في البصرة، فاضطر المنصور إلى توقيف العمل ريثما تمكن من التغلب على الثورتين، ثم استأنف البناء. وفي سنة 146 نزلها مع جنده، ونقل إليها الخزائن وبيوت الأموال والدواوين، ثم استمر العمل في البناء من غير عائق، حتى تجاوز عدد العمال المشتغلين فيها مائة ألف عامل. وفي سنة 149 تم بناؤها وجميع مرافقها، وكان في جملة من يشرف على العمل الإمام أبو حنيفة، فقد كان ينظر في أمر تسلم الآجر. قالوا: وكان يعد اللبن بالذرع بعد أن يأمر برصفه رصفا معينا. قيل: وهو أول من فعل ذلك واستفاده الناس منه.
ثم أمر المنصور بإجراء الماء إليها من قناتين؛ إحداهما: من نهر دجيل الآخذ من دجلة، والثانية: من نهر كرخايا الآخذ من نهر عيسى الآخذ من الفرات. وكانت تلك المياه تجري في مجار من خشب الساج. فعل كل ذلك؛ لئلا تدخل دواب السقائين المدينة فتلوثها.
صفحة غير معروفة