الأدب
وكانوا يريدون به كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل، وهذه الرياضة تكون بالأقوال الحكيمة التي تتضمنها اللغة، كما تكون بالمحاكاة وحسن النظر في الأمور، والأخير يسمى أدب النفس، كما أن الأول يسمى أدب الدرس، وهو موضوع بحثنا هذا.
وأحسن مثال لهذا العلم، وأوله كتاب البيان والتبيين للجاحظ، وأول كتاب وضع في بغداد على هذا النمط هو كتاب المنظوم والمنثور لأحمد بن طيفور المتوفى سنة 280، صاحب تاريخ بغداد، قالوا: إنه بلغ أربعة عشر جزءا، ولم يبق منه اليوم إلا أجزاء قليلة مفرقة في مكاتب شتى. وكتب أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، المتوفى سنة 276، كتبا كثيرة في الأدب، يأتي في مقدمتها كتاب «عيون الأخبار»، ويعد من أقدم كتب الأدب التي أخرجتها بغداد بعد كتاب ابن طيفور، وكتاب أدب الكاتب، والكتابان مطبوعان متداولان.
ثم جاء محمد بن يزيد المبرد المتوفى سنة 285، وأملى في بغداد كتبه الكثيرة في الأدب في طليعتها كتابه «الكامل» الذي «يجمع ضروبا من الآداب بين منثور ومنظوم»، وهو من الكتب الممتعة في بابه، ولقدامة بن جعفر المتوفى 310 كتب قيمة في هذا الباب، منها كتاباه نقد الشعر ونقد النثر، وهما من أقدم الكتب في بابها، وأبو علي البغدادي القالي المتوفى سنة 356 كان من خير رسل الثقافة بين بغداد في الشرق وقرطبة في الغرب، وأماليه التي أملاها في جامع الزهراء بقرطبة لم تكن إلا ثمرة دراسته في بغداد نحوا من ربع قرن.
ثم جاء أبو الفرج الأصفهاني المتوفى سنة 356، فأخرج للناس كتاب الأغاني في عشرين مجلدا ونيف، وقد وقع الاتفاق على أنه لم يصنف مثله في بابه، وهو مطبوع متداول فلا حاجة لإطالة وصفه.
ولأبي علي المحسن التنوخي المتوفى سنة 384، كتاب أسماه نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة، جمعه من المنقولات اللسانية التي لم تدون في كتاب في زمانه، وقد طبعت بعض أجزائه، وهو جامع بين الإمتاع واللذة.
ولأبي حيان التوحيدي المتوفى في أواخر القرن الرابع كتب قيمة في هذا الباب، من أمتعها كتاب المقابسات وكتاب الإمتاع والمؤانسة، وفيه من ألوان الأدب وضروب الفلسفة ما يبهج النفس ويغذي العقل، وفي ثبت كتبه كتاب اسمه «المحاضرات والمناظرات»، ولعله من قبيل المقابسات لم نقف عليه، ثم جاء الشريف المرتضى علي بن الطاهر المتوفى سنة 436، نقيب الطالبيين في بغداد، فأملى كتابه «الغرر والدرر» المعروف اليوم بأمالي المرتضى، وهي مجالس أملاها تشتمل على فنون من معاني الأدب، تكلم فيها على تفسير بعض الآيات المتشابهات من القرآن الكريم، ثم أعقب ذلك ببعض روائع الشعر والنثر، شارحا ذلك كله ومعرفا بقائله، وفي ضمن ذلك كثير من الدقائق اللغوية والمباحث النحوية والنكات الأدبية. قال ابن خلكان: «وهو كتاب ممتع يدل على فضل كثير وتوسع في الاطلاع على العلوم ...»
هذا، ولا حاجة بنا للإسهاب في هذا الباب؛ لأن الثروة الأدبية التي أنتجتها بغداد أكثر من أن تحصى عدا. وإذا نحن نظرنا إلى ما نقله ابن خلدون عن أشياخه من «أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين؛ وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي. وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها.» وجدنا أن لبغداد الحظ الأوفر من أصول هذا الفن، ولا سيما إذا أضفنا إلى هذه الأصول الأربعة أصلا خامسا وهو «كتاب الأغاني» للقاضي أبي الفرج الأصفهاني.
ولما أنشئت المدرسة النظامية في بغداد أنشئ فيها كرسي لتدريس الأدب، عهد به إلى أبي زكريا الخطيب التبريزي المتوفى سنة 502، وخلفه على ذلك علي بن أبي زيد الفصيحي، وتلاه أبو منصور الجواليقي شارح أدب الكاتب.
وفي أوائل العصر السادس الهجري اتسع مفهوم الأدب عند العلماء، فأطلقوا على العلوم اللسانية من النحو واللغة وغيرها اسم: علوم الأدب. قال الزمخشري المتوفى سنة 538: «علوم الأدب يحترز بها عن الخلل في كلام العرب لفظا وكتابة.»
صفحة غير معروفة