قلت: هذه مبالغة عظيمة في نفي الرؤية لله تعالى يوم القيامة، والله سبحانه أعظم من أن تحويه الحجب والسواتر، ولكن هذا مبالغة في تحقق المعرفة بالله تعالى ضرورة والخضوع له، وتحقق ما يصدر من لديه تعالى من أحكام أهل الجنة وأهل المحشر، وقد قال الله سبحانه:[ ] {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله}(1) فالواجب إذا اختلف الناس في شيء أن يردوه إلى الله تعالى؛ والرد إليه تعالى هو الرد إلى محكم كتابه وسنة نبيه المحكمة المتواترة القطعية أو الآحادية المعروضة، فقد حكم الله سبحانه وامتدح أنه تعالى لا يراه ولا يجده مخلوق من خلقه في دنيا ولا في آخره بقوله تعالى: [ ] {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير}(2) وبقوله تعالى: [ ] {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}(3) يعني تعالى: يعلم المبصر والمسموع، وبقوله تعالى لنبيه موسى عليه السلام حين طلب أن يريه نفسه للإلحاح من قومه عليه في ذلك عليه السلام وإلا فموسى عليه السلام من أعرف الناس أنه تعالى لا يرى[ ] {لن تراني}(4) فمتدح تعالى بنفي الرؤية كما تمدح بنفي الصاحبة والولد واللهو والشهوات والعبث عن نفسه تعالى ولم يفصل تعالى في ذلك بين الدنيا والآخرة، وذلك لجلالة قدره تعالى وعظمته أن يمنع ذاته تعالى عن تكييف المخلوقين وألا يجعل لهم إلى ذلك سبيلا البتة، ويكلهم في معرفته تعالى إلى ما اخترع من العدم المحض الذي لا تأثير له إجماعا بين العقلاء من صنعه تعالى وذلك كاف في معرفته تعالى والاعتراف له تعالى وامتثال أوامره ونواهيه تعالى وسئل الحسن بن يحيى(1) هل رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربه حين عرج به إلى السماء؟ قال: رأى ربه بقلبه كما يرى الإنسان بقلبه في المنام.
قلت: مقصده العلم بالله سبحانه ضرورة.
قلت والصحيح أن الله تعالى كلم النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم من غير حيز جهة فسمع صلى الله عليه وآله وسلم تكليم الله -سبحانه- له بغير واسطة كما كلم سبحانه موسى بغير واسطة، وأطلع الله -سبحانه وتعالى- رسوله محمدا [11ب] إلى رتبة الكرامة في أيام الدنيا وإلى مواضع ملائكته المقربين في المنزلة، وأراه -سبحانه- من عجائب ملكوته في السبع السموات أحسن من فعل المكرم المشاهد بالرؤية لمن يكرمه، فعرفه صلى الله عليه وآله وسلم بقلبه ضرورة وتعالى الله أن يكون جسما فيرى بحاسة العين، أو يدرك بغيرها من الحواس، وعن بعضهم: يرى في الآخرة وليس كرؤية المخلوقين للشيء الذي تحويه أبصارهم، ولكن لله خفايا ولطائف يلطف فيها لمن يشاء كما يشاء.
قلت: وقد تقدم الجواب عن هذا بما هو كاف مع أنه لا فرق بين المكلفين في الدنيا فيما لا يجوز على الله سبحانه ويمتنع عليه في الآخرة، وهذه الردية التي على تكييف لا يعقل وما لا يعقل كالمتوسط بين الوجود والعدم والنفي والإثبات لا يصح، تنويه ولا يثبت عليه دليل؛ إذ هو محال.
صفحة ٤٥