وإن كانت العطية مظلمة لا يعلم أربابها من الرعايا مع العلم أنها مغصوبة عليهم أو لا تنقسم بينهم لكثرتهم وجب قبضها ويصرفها في محلها ولو في نفسه وعياله لفقر أو مصلحة فيه، أو يصرفها في بعض المغصوب عليهم حيث كانوا مصرفا، وإن تكن من خالص مال الظالم جاز قبوله ما لم يعلم أن الظالم قصد به التوصل إلى استمالة المعطي إلى المعاونة له على ظلمه أو يمن عليه ذلك حيث لم يف للظالم بما يهوى؛ فإن علم حصول المنة منه أو علم أنه أراد استمالته إلى معاونته على ظلمه لم يجز له قبوله، وإن علم بعد القبول وجب الرد حيث كان باقيا لا لو كان قد أتلفه قبل العلم إذ ا أتلفه بطيبة نفس صاحبه في الظاهر، وإن قبل ولم يعلم بأي الصورتين لم يجز الرد لأن قد بذل الظالم ذلك بطيبة من نفسه، وفي رده إما معاونة له على ظلمه أو تنفيرا في الدين، وإيغارا لصدره بغير وجه في هذه الحادثة بسببها وهي إحسان لا يجوز أذية الظالم بسببها بل يمدح بها ويذم بغيرها من خصال الظلم وينسب إليه الإحسان فيها فقط دون غيرها من خصال الظلم، وقد قبل أهل بيت محمد المصطفى -صلى الله عليه وعليهم- من الظلمة كذلك، وكذلك قبل الأنبياء عطايا الظلمة على هذه الشرائط حيث لا منة للظلمة ولا علم أن قصد الظلمة المعاونة للظلمة على ظلمهم أو كان حقا واجبا على ما فصلنا، وكذلك إن قبلها غير أهل البيت [عليهم السلام] من المؤمنين كان الأمر على ما ذكرنا جاز ذلك وبشرط أن لا يعني الأخذ بأحقية الظلم لأجل الإحسان في بعض الأحوال ما بقيوا على ظلمهم؛ فإذا جمع الشرائط صح، وعلى ذلك الأنبياء والصالحون من ذراريهم وأتباعهم -عليهم الصلاة والسلام.
فصل
فإن خشي الأمر الناهي أنه إذا نهى عن المنكر أدى نفس النهي إلى فعل أنكر منه في محل واحد كأن ينهى عن قطع يد زيد فيؤدي [55ب] نهيه إلى أن يقتله {أي: زيدا) أو تقطع يديه معا، أو ينهى عن شرب الخمر فيؤدي إلى زيادة الزنا ونحو ذلك، أو ينهى عن سب فلان باللقب فيؤدي إلى قذفه بالفواحش، أو في الأمر بالمعروف إذا أدى الأمر مثلا بالصلاة إلى أن يقطع معها الزكاة، أو يضيف إلى تركها فعل الزنا ونحو ذلك.
والآمر الناهي في هذه الحال لا يقدر على إجبار المنهي المأمور على ما أمره به أو نهاه عنه ولا مما زاد عليه من المنكرات، فإن الدليل القرآني قد دل على قبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا علم الآمر الناهي بتجربة أحوال من نهاه أو غلب بظنه أنه يتزايد أو يفعل أنكر، فقد نهى الله تعالى عن الأمر والنهي في مثل هذه الحال فقال تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم}[الأنعام:108] فنهى تعالى عن سب الذين يعبدون الأصنام لأجلها وهو جائز بل واجب لما أدى إلى منكر أنكر منه وهو سب الله تعالى؛ فالتسبب للمنكر منكر إذا علم المنكر ذلك المسبب وهو أنكر.
صفحة ٢٧٣