الأمر الثاني قال تاج الدين السبكى : احتجوا أيضا بالقياس على الفرار من الأسد والعدو الذى لا يقدر على دفعه، فإن الكفار وقطاع الطرق إذا قصدوا من لا طاقة له بهم ، جاز التنحى من بين أيديهم . ونقل فيه أبو الحسن الكيا الهراسى - من الشافعية - الاتفاق فقال : لا تعلم خلافا في الجوان ، وإن كانت الأجال لا تزيد ولا تنقص والجواب: أن القياس على الفرار من الأسد والعدو ضعيف فإن السلامة منهما نادرة والهلاك معهما كالمتيقن، فصار كإلقاء الإنسان نفسه فى النار: بخلاف الفرار من البلد الذى يقع به الطاعون ، فإن السلامة منه كثيرة وإن لم تكن غالبة.
قلت : وعلى تقدير تسليم القياس المذكور ، فهو قياس مع وجود الفارق ، فإن مسالة الوقوف للأسد إلى أن يفترسه ، داخلة فى النهي عن الإلقاء إلى الهلاك، ومسالة الفرار جاء النهي الصريح عنها ، فكيف يستويان .
الأمر الثالث .
القياس على الخروج من الأرض المستوخمة كقصة العرنيين والجواب: أن ذلك من بابب التداوى ، وترك ما لا يوافق المريض من الأغذية ، إذ لا فرق بين الأغدية والأهوية في تأثير المرض ، فكان الخروج من الأرض التى لا توافق مزاج المريض من باب التداوى قال القاضى تاج الدين : وعندى في هذا الجواب نظر قلت.
كأن وجهه أن لقائل أن يقول : إن الطاعون أيضا ينشا من فساد الأهوية ، فالخروج من البلد، التى يقع بها ينبغى أن يكون جائزا مطلقا أكما جاز للعرنيين ، وهذا لا ريتمشى على ما تقدم تحقيقه أن الطاعون من طعن الجن والحق أن خروج العربيين لم يكن لقصد الفرار أصلا، وإنما كان لمحض التدادى ، كما تقدم عن الطحاوى . وكان خروجهم من ضرورة الواقع لأن الإبل ما كان يتهيا إقامتها فى البلد ، وإنما كانت فى مراعيها، ودواؤهم كان بأبوالها وألبانها واستنشاق تلك الروائح، فكان الخروج عن البلد ضمنا لأمر محقق الوجود، بخلاف الخروج من البلد الذى يقع فيه الطاعون إلى بلد أخرء فإنه خروج إليه بالقصد لأمر مظنون، إذ لا يؤمن وقع الطاعون في البلد الأخر ويؤيد الفرق أيضاء أن من جملة أصول التداوى الرجوع إلى المألوف والعادة ، وكان القوم أهل بادية وريف ، كما وقع صريحا في بعض طرق خبرهم ، ولم يوافق بلد الحضر أمزجتهم ، فأرشدهم الشارع إلى التداوى بما الفوة من الكون فى البدو
ومن هنا يؤخذ توجيه أمر عمر أبا عبيدة ، بالانتقال بجنده، إلى مكان أخر أوفق لأمزجتهم من المكان الذى كان نزل به أولا . ويدخل في هذا ما أخرجه أبو داود والحاكم ، من حديث فروة بن مسبك قال : قلت : يا رسول الله ، إن أرضا عندنا يقال لها أرض ابين ، وهى أرض ريقنا وميرتنا، ، وهى وبينة - أو قال : وباؤها شديد - قال: دعها عنك، فإن من القرف التلفت قال ابن قتببة : القرف ،: مداناة الوباء . وقال الخطابى : ليس هذا من باب العدوى، وإنما هو من باب التداوى، فإن استصلاح الأهوية من أعود الأشياء على البدن بالصحة ، وفسادها من أضرها وأسرعها إلى سقمه عند الأطباء ، فكل ذلك بإذن الله تعالى ومشيتته سبحانه وتعالى الأمر الرايع : قال الزركشى : احتجوا أيضا بالقياس على الفرار من المجذوم يعنى ما أخرجه البخارى من طريق سعيد بن مينا قال: سمعت أبا هريرة رضى الله عنه يقول : قال رسول الله لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا ضقر ، وفر من المجذوم كما تقر من الأسد .
وفي صحيح مسلم من طريق عمروبن الشريد الثففى ، عن
أبيه قال : كان في وقد تقيف رجل مجذوم ، فأرسل إلنه النبي : وأنا قد بأيعناك فارجع : وفى سنن أبى داود ، من حديث ابن عباس رضى الله عنهما ، : عن النبي قال : . ولا تديموا النظر إلى المجذمين . وصححه أبن خزيمة والجواب عن هذا من وجهين أحدهما قالة ابن الصلاح ، تبعا لغيرهة جامعا بين ما ظأهره التعارض من حديث أبى هريرة ، وهو حديثه : ولا يورد ممرض على مصح ، وحديثه : أفر من المجدوم فرارك من الأسده ، مع حديث إلا عدوى.
قال : وجه الجمع بينهما : أن هذه الأمراض لا تعدى بطبعها ، ولكن الله تبارك وتعالى جعل مخالطة المريض بها للصحيح سببا لإعدائه مرضه ، ثم قد يتخلف ذلك عن لم سببه ، كما فى سائر الإسباب . ففى حديث : إلا عذوىى نفى ما كان يعتقده أهل الجاهلية ، من أن ذلك يعدى بطبعه ، ولهذا قال : وفمن أعدى الأول؟ . وفى
الثاني أعلم بأن الله سبحانه وتعالى جعل ذلك سببا لذلك ، وحذر من الضرر الذى يغلب وجوده عند وجوده بفعل الله سبحانه وتعالى ، انتهى كلامه .
صفحة غير معروفة