ليالي الاعتقال
حضرة الأخ أنيس أفندي ميخائيل
وصل خطابك البديع، بعد عشرين يوما قضاها تحت أثقال الرقابة، ولم يصلني قبله في معتقل «سيدي بشر» غير خطاب الأخ الشيخ عبد المجيد زهران، فما أوفاه يا صديقي وما أوفاك.
سأضرب صفحا عن الدمعة التي سكبتها على القرطاس؛ لأن مثلي لا يبكى له، ولا يبكى عليه، وإنما خلقت لأكون مثلا في الشمم والإباء. ولو كان بي حب الدعة والطمأنينة لما مكثت في المعتقل هذه الشهور الطوال، فقد فكر القوم في مساومتي لأول لحظة وطئت فيها ثكنة قصر النيل، ولكني أقذيت عيونهم؛ حين أريتهم كيف يطيب الشقاء في سبيل البلاد، وأقسم لو سلم المصريون جميعا وخرج مصطفى كامل من قبره فصافح الإنجليز؛ لما كان في ذلك ما يزحزحني قيد أنملة عن معاداتهم حتى يكون الجلاء وأعيذك أن تحسب أن جلاءهم عن مصر إن تم ونحن أحياء ينسينا ما فعلوا بنا وبأهلينا منذ كان الاحتلال.
أترك ذلك، وأحدثك عما يجول بصدري في هذه الظلمات، أنا حزين يا أنيس، وكيف لا أحزن وفي المعتقلين أنفسهم أنصار لمشروع ملنر الذي يعرضه الآن أعضاء الوفد بين التصفيق والهتاف، يا ويلتاه! حتى المعتقلين المعذبين يصدقون بأن إنجلترة منحتهم الاستقلال! متى تتم هذه الألعوبة فأخرج من بين هذه الأسلاك لأساعد الحزب الوطني في الغارة الشعواء التي شنها علي أولئك الشياطين الذي مكنتهم الليالي من ناصية هذا الشعب الوديع.
ليست إنجلتره هي العدو الوحيد للأمة المصرية، بل هناك عدو آخر لا يزال يبطش بالأمة غير وان ولا راحم، ألا وهو الجهل، هذا هو العدو اللدود الذي تستعين به إنجلتره لاغتصاب وادي النيل، ولولاه لما رحب المرحبون بأعضاء الوفد حين جاءوا لعرض مشروع ملنر، بل لولاه لحقت على هؤلاء كلمة العذاب، وسأعرف ما أصنع حين أعود إلى القاهرة - ولو بعد حين - سأعرف كيف أحارب الجهل، وكيف أصب الصواعق على رءوس من يستغلون جهل الأمة فينالون به ما لهم من سيئ الأغراض، ومنكر الشهوات، والله بصير بما يعملون.
تسألني عن ليالي الاعتقال، وأجيبك بأنها ليال سوداء، لا فرق بين أنصافها والسرار، ويكفي أن أذكر لك أن هذه الليلة ليلة العيد، ومنذ لحظة كان الأستاذ الشيخ عبد الباقي سرور يبتسم ويقول: لقد استرحت هذه الليلة من أولادي، فما يفك عمامتي أحد، ولا يضحك من صلاتي إنسان.
وكان الشيخ محمد يوسف يرفأ قميصه وهو ينشد قول ابن الأحنف:
رحمتا للغريب بالبلد النا
زح ماذا بنفسه صنعا
صفحة غير معروفة