ما تفوهت المرأة بهذا الحديث حتى التفت كل من الجالسين إلى الآخر التفاتة دلت على ما داخلهم من الاندهاش، إلا أنها استمرت في حديثها بكل تؤدة وهدوء: «مكثنا نصف قرن كاملا ونحن نفتش عن السعادة بين رياش الغنى، وفي قصور الثراء، فلم نعثر عليها إلا الآن؛ حيث ولت هاتيك الأيام كالأشباح، وانصرمت تلك الأوقات المشعشعة بأنوار الثروة.» فسألها الضيف: «كيف ذلك؟! وماذا تعنين بالسعادة؟!»
فأجابته: «ما أشرقت علينا شمس الغنى حتى ظهرت من ورائها المتاعب الجمة، وتوالت علينا الهموم العديدة، كنا نجلس لنفكر في الاهتمام بأمر أنفسنا قليلا، ونود لو تفرغنا لتأدية الصلاة، ولكن هيهات! كنا نحاول النوم ولكن من أين لنا ذلك وجيوش الأفكار تتقفانا؛ فتطرد عن أعيننا الكرى، وأشباح المخاوف والوساوس تتأثرنا فتبعث بنا في ظلمة الليل وسكونه إلى حيث نخاف أن يفترس الذئب فلوا أو عجلا، أو يسرق اللصوص بعض خيولنا ونعاجنا، وهكذا كلما خامر فؤادنا الريب، ولعبت بنا الهواجس؛ دفعنا الحذر إلى الاستيقاظ عدة مرات.
كان يقصدنا الضيوف على اختلاف مشاربهم وتباين طبقاتهم، فكنا نضطر إلى تضييفهم بما نقدمه لهم من أنواع الطعام ومختلف الشراب، وما نتحفهم به من الهدايا الفاخرة؛ حتى نحبس ألسنتهم فلا نكون هدفا لسهام لعنهم، ونسد أفواههم فلا ينزلون علينا وابلا من قذائف اللوم والتقريع.
وفضلا عن ذلك لم يكن هناك توفيق بيني وبين زوجي، فكنا على تباين تام، وكان هذا مبعثا لاضطرام نار الشحناء التي كانت تتأجج ساعات وأياما، هذه كانت حياتنا سلسلة شقاء متواصل، فمن أين إذن تطرق السعادة بابنا؟! وكيف نتمتع بالرخاء والهناء وهذه حالنا؟! أما الآن فنستيقظ من نومنا متبادلين تحية الصباح، ثم نتناول طعام الإفطار ونخرج إلى العمل؛ حيث نقضي سحابة نهارنا في هدوء شامل لا يكدر صفوه مكدر، وعند الأوبة من العمل نلقى أمامنا من الطعام ما نأكله مريئا، ومن الشراب ما نلذ به هنيئا، وأمامنا متسع من الوقت يمكننا من الاهتمام بأنفسنا وتأدية فرائض العبادة لله، وإذا دلفنا إلى فراشنا ننام ملء جفوننا لا تزعجنا الأحلام، ولا ترهبنا المخاوف والأوهام، فها هي السعادة التي نقبنا عنها نصف قرن ولم نعثر عليها إلا في هذه الأيام.»
ما أتمت المرأة حديثها حتى سخر منها الحاضرون، إلا أن إلياس استفزه الغضب فقال لهم: «لا تسترسلوا في ضحككم أيها الرفاق؛ فليس في الأمر ما يستوجب المجون والمزاح، وما هي إلا حقائق الحياة نسردها لكم، لقد تملكنا الجهل بادئ بدء؛ فانسجمت عبراتنا حزنا على ذلك العز الضائع، ولكنها الحقيقة أراد الله أن يرينا إياها ناصعة، فنحن الآن نقصها عليكم؛ لا لمنفعة نترقبها؛ أو فائدة ننشدها، إنما هي لفائدتكم، وذكرى لمن يذكر.»
فقال الملا: «إن هذه لموعظة بالغة، وقول إلياس الصدق؛ إذ هو موافق لما ورد في الأحاديث المأثورة.» فأمسكوا عن الضحك، وأطرقوا كلهم يفكرون فيما دار بينهم من الحديث.
هوامش
الحكاية الثامنة
قمحة في حجم بيض الدجاج
عثر بعض الصبية ذات يوم في أحد الأقبية على شيء يشابه في الشكل حبة القمح في وسطها شق ينتهي بنهايتها، ولكنها في الحجم تبلغ بمقدار بيضة الدجاج، فرآها بعض السابلة في أيدي الصبية واشتراها منهم ببنس واحد، ثم حملها إلى المدينة؛ حيث باعها للملك كعجيبة من عجائب الزمن.
صفحة غير معروفة