ثم وقف برهة يحفر الأرض بسرعة زائدة؛ لتكون علامة وصوله تلك الجهة، وبعد أن أتم عمله انعطف نحو التل يريد الرجوع مسرعا، إلا أن كثرة المشي وشدة الحر أنهكتا قواه، فصار يمشي بصعوبة ويتهادى في مشيته كالشيخ الضعيف بعد أن كان يهرول، أما قدماه فقد تشققتا وسالت الدماء منهما؛ لكثرة ما اصطدم أثناء مشيه بالحجارة والحصى وهو لا يعي، وتخاذلت ساقاه وضعفتا عن حمله؛ إذ كان في حاجة شديدة إلى بعض الراحة، ولكن أنى له ذلك والشمس آخذة في الغروب شيئا فشيئا؟! وكان ما عليه من الحمل يضايقه كثيرا، فرمى حقيبته أولا، ثم نعليه، وخلع بعد ذلك صدرته، وهكذا صار يرمي ما عليه من الملابس حتى لم يبق عليه سوى القميص والسروال.
وأمسك بيده الفأس ليتوكأ عليه، وسار يعدو بكل قواه، واستمر مدة على هذه الوتيرة، ثم نظر إلى الشمس فعلم أنها لا تلبث أن تغرب، ففزع لذلك كل الفزع وقال في نفسه: «رباه، ماذا العمل؟ يخيل لي أن الطمع سيفسد علي كل آمالي.» غير أنه ما لبث أن تشجع قائلا: «عار علي أن أرجع عن عزمي فأتقاعد عن السير بعد أن قطعت هذه الشقة الطويلة.» فجمع نفسه وسار يمشي بكل قوته حتى قارب التل فسمع صياح القوم من بعد؛ فتشجع ثانية وأخذ يعدو بكل ما فيه من قوة وعزم.
وكانت الشمس قد قاربت الغروب فلا تمضي بضع دقائق حتى تختفي عن الأنظار إلى ما وراء الشفق الأحمر، إلا أن باهوم كان في ذلك الوقت على مسيرة بضع خطوات من سفح التل يسمع صياح القوم ويميز أصواتهم ويرى قبعة الرئيس، عند ذلك تذكر ما رآه في الحلم، فقال في نفسه: «حقا إن الأرض التي قطعتها فسيحة الأرجاء بعيدة المدى، ولكن هل كتب لي في لوح المقدور أن أعيش عليها؟!» ثم عاد فتذكر أنه على قيد خطوات من مبدأ مسيره، وأنه ما عليه إلا أن يجمع عزيمته ثانية فيصل إليها ويملك الأرض.
فجددت هذه الأماني في نفسه ميت الأمل، فسار طورا يتهادى كالشيخ الضعيف، وتارة يحبو كالطفل الرضيع حتى وصل سفح التل، عند ذلك نظر وإذا بالشمس قد غربت وأصبح السهل في ظلام حالك، فتقطعت نياط قلبه وصاح يقول: «أواه قد ذهبت أتعابي أدراج الرياح.» إلا أن القوم لم ينقطعوا عن صياحهم وندائهم، فتذكر أن مكانهم أعلى من مكانه؛ لأنه ما زال في سفح التل، وأن الشمس لا تزال ظاهرة لديهم، فتنفس الصعداء، وجمع كل ما لديه من قوة وعزم، وأخذ يصعد التل، فوصل القمة وكانت الشمس لا تزال ظاهرة لديهم، ثم عاد فتذكر ما رآه في الحلم، فصرخ صرخة مزعجة وارتمى على الأرض بالقرب من قبعة الرئيس وقد وضع يده عليها.
فقال الرئيس: «إنه سعيد الحظ؛ فقد أصاب قطعة كبيرة من الأرض.» ثم أسرع خادم باهوم ليرفعه عن الأرض، ولكنه ما كاد يرفعه قليلا حتى سال الدم من فمه وارتمى على الأرض جثة هامدة، فوجم القوم وأطرقوا برءوسهم إلى الأرض وقد ارتسمت على وجوههم أمارات الكآبة والحزن.
وقام خادم باهوم فحفر لسيده قبرا يبلغ طوله ستة أقدام، وكان ذلك كل نصيبه من الأرض.
الحكاية الرابعة
ابن العراب
بسم الدهر ذات صباح لقروي فقير فرزق طفلا فرح به فرحا شديدا وعلق عليه آمالا كبيرة، وأسرع لوقته نحو جاره العزيز مستبشرا فأخبره بالأمر، وطلب منه أن يكون عرابا للطفل، ولكن جاره العزيز أنف من ذلك، ورده خائبا، فانصرف المسكين يتعثر بأذيال الخيبة والفشل، وقصد جاره الثاني، فالثالث، ثم الرابع، وهكذا، حتى طرق أبواب القرية على غير جدوى، لا لذنب أتاه أو لجرم اقترفه سوى أنه فقير معدم.
أظلمت الدنيا في وجهه أثر هذه الصدمة الشديدة، فسخط على الدهر وتبرم من جده العاثر، ثم خرج من قريته موليا وجهه شطر القرية المجاورة؛ بغية أن يجد فيها من لا يأنف من أن يكون عرابا لمولود فقير، فسار المسكين (في طريقه) تتناوبه الأحزان، وتتقاسمه الهموم والأشجان، لا يلوي في طريقه على شيء.
صفحة غير معروفة