سريع البديهة، فما مر ثلاثة أيام إلا وكان يباشر العمل كأنه به منذ سنين عديدة، وبعد الانتهاء من شغله كان يجلس وعيناه للسماء لا يتكلم إلا عند الحاجة، ولا يميل قط إلى المجون والمزاح، قليل الابتسام، فلم يروه يبتسم إلا مرة واحدة، عندما قدمت إليه ماتروينا العشاء في أول ليلة من ليالي حياته الجديدة!
كرت الأيام ومرت الأعوام وميكائيل يثابر على العمل مواصلا ليله بنهاره، حتى ذاع صيته وعلت شهرته بين القرى والربوع المجاورة، وفي ذات يوم بينما هم جالسون في كوخهم وإذا بعربة يجرها ثلاثة من الصافنات الجياد تنهب الأرض نهبا وتتقدم نحو كوخهم الحقير، وما هي إلا بضع ثوان حتى رأوا العربة قد وقفت أمام الكوخ، وقفز منها سيد تلوح عليه أمارات الشرف، ومخايل النبل، ضخم الجسم، أحمر الوجه، طويل القامة، فقام سيمون لوقته وفتح باب كوخه على سعته، ثم وقف محييا ذلك الزائر العظيم منحنيا أمامه بكل تؤدة واحترام.
فقال السيد بكبر: «من رئيس العمل في هذا الكوخ؟» فأجابه سيمون: «أنا يا صاحب العظمة.» ثم أمر الشريف خادمه أن يحضر الجلد، فأتى به ووضعه على خوان في وسط الكوخ، وبعدئذ وجه السيد كلامه إلى سيمون قائلا: «ألا ترى هذا الجلد؟» فأجاب: «نعم يا صاحب الشرف، إنه في غاية الجودة.» فقال الشريف بحدة: «يا لك من أبله أحمق! أوتشك في ذلك؟! إنه ذو قيمة عالية وأريد أن تصنع لي منه حذاء على شرط أن يمكث حولا كاملا حافظا لرونقه وشكله، أتقدر؟» فاضطرب سيمون قائلا: «نعم يمكنني يا صاحب النبل.» فصاح في وجهه ذلك السيد: «يمكنك؟ تدبر! يجب أن تعلم لمن ستصنع الحذاء؛ فإن لم يكن كما أمرت فسأودعك غيابة السجن!» فانتفض سيمون فرقا وخوفا وتلعثم لسانه وهمس إلى ميكائيل يطلب مساعدته في ذلك المأزق فأومأ إليه برأسه علامة للرضاء ؛ فقبل سيمون العمل، ثم هم الشريف بالانصراف فودعه سيمون بمثل ما قابله به من التجلة والاحترام، ومما يجدر بالذكر ما لاحظه سيمون أثناء وجود الشريف بالكوخ من أن وجه ميكائيل كان يتهلل بشرا وعينيه تتطلعان إلى ما وراء السيد، شاخصتين كأن أمامه شبحا أو طيف خيال، فكان ذلك موضع دهشة سيمون وعجب ماتروينا!
ثم قال سيمون لصديقه: «هيا ابدأ في العمل أيها الصديق، وحذار من الوقوع في الخطأ فإن السيد كما رأيت سريع الغضب.» فبدأ ميكائيل في صنع الحذاء، ولكنه أدهش بعمله ماتروينا؛ إذ رأته يهيئ الجلد ويخيطه لا على شكل باقي الأحذية، ولكنه على شكل خفاف رقيقة، فأسرت ذلك لزوجها الذي ما كاد يراه حتى استولى عليه الذهول وابتدره قائلا: «ماذا تصنع أيها الرفيق؟! أنت يا من مكثت معي حولا كاملا بدون أن تزل أو تخطئ، أتقترف في دقيقة واحدة أعظم الأغلاط؟!» وأراد أن يستمر في تأنيبه، وإذا به يسمع وقع حوافر جواد، فصمت ورأى القادم فإذا هو خادم السيد يقول: «عموا صباحا أيها الرفاق، إني أتيت لأجل الحذاء.» فدهش سيمون واستمر الخادم في حديثه: «نعم الحذاء! فإن سيدي ما كاد يفارقكم حتى فارقته الحياة وأخرجناه من العربة جثة هامدة، والآن فقد جئت لأعلمكم أن تصنعوا هذا الجلد خفافا للسيدة.» فبهت سيمون، ثم تهلل وجهه، وأقبل على ميكائيل يقبله فرحا مسرورا، ثم أعطياه الخفاف فانصرف.
مر العام إثر العام وميكائيل عائش الآن في السنة السادسة من حياته الجديدة لا ينطق إلا عند الضرورة، ولم تعل الابتسامة شفتيه إلا مرتين في خلال هذه المدة الطويلة، وفي ذات يوم بينما هم قعود يشتغلون، كل في عمله، وإذا بأحد أولاد سيمون صرخ مخاطبا ميكائيل: «عماه! هيا انظر فإن امرأة معها طفلتان مقبلة نحونا.» فنظر ميكائيل من إحدى شرفات الكوخ فرأى سيدة معتدلة القوام حسنة الهندام يرافقها طفلتان - تتقدم نحو الكوخ.
دخلت السيدة فقام سيمون مستقبلا إياها ومرحبا بها، ثم سألها الجلوس ففعلت، وقال لها: «إن السرور ليشملني إذا أمكنني القيام بما تأمرينني به .» فأمرت بعمل حذاءين للطفلتين، فأجابها سيمون إلى طلبها، وفي تلك الآونة نظر سيمون إلى ميكائيل فرأى عينيه محدقتين بالطفلتين لا يحول عنهما نظره كأنه يعرفهما من قبل؛ فدهش، ولكنه لزم الصمت.
ثم ابتدأت ماتروينا تسأل تلك السيدة قائلة: «يظهر أن ابنتيك توأمتان.» فأجابتها: «أجل إنهما لكذلك، ولكنهما ليستا طفلتي، ولا يربطني بهما رباط صلة أو قرابة.» فتعجبت ماتروينا وقالت: «عجبا! إنهما ليستا طفلتيك، ثم مع ذلك تشفقين عليهما هذه الشفقة وتظللينهما بأجنحة عطفك وحنانك؟!» فقالت السيدة: «وكيف لا أشفق عليهما وقد أرضعتهما من ثديي؟!» ثم استمرت المرأة في الحديث وأخذت تسرد مجمل حكاية هاتين الطفلتين فقالت: «لقد اختطفت يد المنون روح والديهما منذ ست سنين في أسبوع واحد، فأودع الأب رمسه يوم الثلاثاء، وعلى أثره بثلاثة أيام فاضت روح تلك الأم وانتقلت إلى دار الخلود، أما هاتان الطفلتان فقد ولدتا يوم الخميس الموافق لليوم الثالث من موت والدهما، ولليوم الأول من أيام الأسبوع الذي تركتهما فيه أمهما وديعة عند رب العالمين، مسكينة أمهما! فقد كانت فقيرة وحيدة ليس لها في الحياة من يأخذ بناصرها، ويقاسمها عزلتها وشقاءها، ومن ذلك اليوم - يوم الخميس - أصبحت هاتان الطفلتان اليتيمتان غريبتين عن العالم أجمع لا تربطهما بأهله أواصر الصلة أو القرابة.
لقد كنت أنا وزوجي مقيمين في ذلك الحين في القرية، وكانت تربطنا بوالدي الطفلتين رابطة الجوار، وقد ذهبت لأزور تلك المسكينة في صباح أحد الأيام، فما كدت أخطو بضع خطوات حتى وجمت ذعرا وهالني ما رأيت، نعم إنها لساعة رهيبة مخيفة! رأيت الأم ملقاة على الأرض، فدنوت منها، فإذا هي جثة هامدة تعلو وجهها صفرة الموت، وحولها طفلتان في المهد تصيحان وتعولان كأنهما علمتا برزئهما، فأخذتا تناديان أمهما النداء الأخير، وتسمعانها صوت بكائهما قبل فراقها الأبدي ... وهكذا في ساعة ولدتهما، وفي ساعة فقداها.
بعد ذلك انتشر الخبر فتقاطر القرويون إلى ذلك الكوخ المشئوم، وعنوا بجثة الفقيدة ووضعوها في الكفن، ثم واروها في التراب؛ وعيونهم دامعة، وقلوبهم يدميها الحزن والأسى - إنهم لقوم محسنون .
لم يكن للطفلتين نصير كما ذكرت، فتكفلت بهما وتعهدت بتربيتهما، ولم يكن لي في الحياة سوى طفل صغير اعتبطه الموت، فكم كنت أشعر بالوحدة لو لم يكن هاتان الطفلتان بجانبي! وكم يزداد حبي لهما! فهما زهرة حياتي ونضرتها.»
صفحة غير معروفة