ترجمة حياة مؤلف الكتاب
الحكاية الأولى
الحكاية الثانية
الحكاية الثالثة
الحكاية الرابعة
الحكاية الخامسة
الحكاية السادسة
الحكاية السابعة
الحكاية الثامنة
الحكاية التاسعة
الحكاية العاشرة
ترجمة حياة مؤلف الكتاب
الحكاية الأولى
الحكاية الثانية
الحكاية الثالثة
الحكاية الرابعة
الحكاية الخامسة
الحكاية السادسة
الحكاية السابعة
الحكاية الثامنة
الحكاية التاسعة
الحكاية العاشرة
بدائع الخيال
بدائع الخيال
عشر قصص ممتعة للفيلسوف الروسي ليو تولستوي
تأليف
ليو تولستوي
ترجمة
عبد العزيز أمين الخانجي
مقدمة
بقلم عبد العزيز أمين الخانجي
بسم الله الرحمن الرحيم
قارئي العزيز
أتقدم إليك شاكرا مغتبطا بالطبعة الثالثة من كتابي بدائع الخيال الذي يجمع بين دفتيه عشر قصص مختارة من مبتكرات الفيلسوف الروسي العظيم «ليو تولستوي» عربتها من كتاب بالإنجليزية عنوانه:
Twenty Three Tales From Tolostoy .
أما الشكر فللإقبال والتعضيد اللذين لقيهما الكتاب منذ إصدار طبعته الأولى في أواخر عام 1919، فطبعته الثانية في أوائل عام 1922.
وأما الاغتباط فلرواج الكتاب في زمن كثر فيه تهافت القراء على الغث من القصص الموضوعة أو المعربة، وفي زمن عمت فيه الشكوى من الفوضى السائدة في سوق الطباعة والنشر في مصر. وهذا الشعور يشاركني فيه أهل الغيرة من الراغبين في الإصلاح.
لقد تقدم الفن القصصي بين الأمم الغربية في يومنا هذا وأصبح من أعظم الوسائل التي يعتمد عليها رجال التفكير والإصلاح في بث آرائهم وأفكارهم وخلاصة أبحاثهم ونظراتهم في شئون الحياة. ولقد خرجت القصص بهذا التطور الجديد عن دائرة الغرض الذي وضعت من أجله؛ أي التسلية.
ولكن لمن الفضل في هذا التطور؟ الفضل بلا ريب عائد على القارئ ذاته، الذي أصبح لا يميل إلى قراءة الروايات التي تصور له الوقائع الدموية والمشاهدات العنيفة بين اللصوص ورجال الشرطة التي يدور عليهم محور القصة. أو التي تصور لهم مناقشات العذال ومجادلات الرقباء لحبيبين يجعلهما القصصي الشخصيتين اللتين يبني عليهما الحديث.
هذا النوع من القصص قد قضي عليه في أوروبا وجرفه تيار النوع الجديد الذي يجمع بين التسلية والإفادة، النوع الجديد الذي يرمي إلى بث الآراء الإصلاحية والأفكار والملاحظات الاجتماعية في الثوب القصصي.
قد يقول قائل : إن الفرق بيننا وبينهم ما زال واسعا، وإن ناشري الكتب يجارون في تلك البلاد عقلية آخذة في مدارج الكمال، عقلية تستطيع أن تتذوق هذا النوع الجديد وأن تتفهم ما فيه من فكر ومغزى. ولكنني أقول إن هذه حجة واهية؛ لأن القارئ في بلادنا إذا كان يقرأ القصة لمجرد التسلية فإنه يجد بغيته في النوع القصصي الجديد أيضا، لا سيما إذا كانت القصة مكتوبة بلغة سهلة. فاللوم إذن يقع على الناشرين الذين أحدثوا في أسواق المطابع تلك الفوضى التي يشكو الجميع منها. ولكن لا تنس - أي قارئي العزيز - أن عليك نصيبا من هذا اللوم؛ لأن الناشر والمعرب والمؤلف والطابع كل هؤلاء إنما يأتمرون بأمرك ويتمشون مع رغبتك، فإن أردت أن ترغمهم على تقديم النافع الصالح وعرض الجديد الطيب من مبتكرات القوم فأعرض عما يقدمونه لك من القصص التافهة والروايات الغثة أمثال (وقائع كارتر) و(الحلقات البوليسية) و(مجموعات جونسون) وذيولها ... وروكامبول وأم روكامبول وابن روكامبول ... وما إلى ذلك من القصص التي إثمها أعظم من نفعها.
عاهدني أن تفعل ذلك منذ اليوم وأن تنشر الفكرة بين إخوانك وبني عشيرتك فلا تلبث أن ترى ثمرات هذا العهد بعد زمن قصير.
لقد أطلت عليك الحديث، وخرجت بك عن موضوع المقدمة دون أن أحدثك عن محتويات الكتاب ومزاياه كما هي العادة في المقدمات، ولكن ما لي والتعرض لهذا الأمر؛ فالكتاب بين يديك - وقد نقدت ثمنه بلا ريب - فاقرأه وانقده ووازن بين ما دفعته من ثمن وبين ما استفدته من مطالعته، فإذا وجدت نفسك رابحا فاطلب من المولى أن يعينني على السير في هذا السبيل، أما إن كنت تجده تافها لا يستحق ما بذلته أنا من وقت في التعريب وما صرفته أنت من وقت في القراءة؛ فعاملني إذ ذاك بجميل صنعك، واعلم أن لي من حسن النية خير شفيع، والسلام.
شارع النزهة
20 أكتوبر سنة 1926
ترجمة حياة مؤلف الكتاب
تمهيد
قد يتوالى كر الجديدين، وتمر الأيام والأعوام مر السحاب، طامسة بأقدامها رسوم الأجيال الماضية، والناس على ما هم عليه من فطرتهم الأصلية، مستسلمون لما ورثوه عن آبائهم من التقاليد والعادات مذمومة كانت أم مرضية، فاسدة أم صحيحة، ويظلون كذلك لا يفقهون معنى لما يرونه من المرئيات، ولا يحركون ساكنا لما يمر عليهم من صنوف العظات، إلى أن يمن الله عليهم بمن يميط اللثام عن سر ما جهلوه، ويكشف لهم الستار عن كنه ما لم يتحققوه، فينبههم من رقدتهم، ويرشدهم إلى ما كانوا عنه غافلين.
أولئك هم أقطاب العلم، ورسل التهذيب، ومهبط المدنية، ونور العرفان، بهم تهتدي الأمم، وعلى يدهم يتم صلاح الجماعات ونظام الشعوب، غير أن الدهر - وهو بخيل بأمثال هؤلاء الأقطاب - لا يكاد يجود بفرد منهم على رأس كل جيل حتى تنصب عليه سهام اللعنات من كل صوب، وتتلقاه الناس بالعداوة والبغضاء، والسبب واضح جلي؛ فالناس إذا استسلمت مدة من الزمان إلى بعض العادات الفاسدة، وتوارثت طوال الأجيال العاهات والأمراض النفسية بعضها عن بعض، تصبح بينهم من الصفات اللازمة، ولا ينظرون إليها إذ ذاك كعاهات وأمراض، بل يعتبرونها كخلال طبيعية أنزلها الله على آدم، فإذا ظهر بينهم من هو خال منها غير متحل بما ظنوه ناقصا ناصبوه العداء، ونابذوه الألقاب.
نظرة إلى كل من اشتهر بفضل أو عرف بشيء من النبل نعلم مقدار ما عانى من الدهر، وقاسى من مناوأة الناس في سبيل الحق، فهذه أئمة المسلمين وهداتهم؛ مثل: مالك، والشافعي، وفلاسفة هذه الأمة، ودعاة الصلاح فيها؛ كالمعري وابن رشد وابن تيمية، ومن تقدمهم وجاء بعدهم من فلاسفة اليونان والرومان والفرس وغيرهم من علماء المعقول والمنقول ممن لا تزال أشخاصهم ماثلة في أذهاننا، ولا نزال نستضيء بنبراسهم، قد نغص الدهر عليهم عيشهم، وضيق عليهم مذاهبهم؛ لشذوذهم عن المألوف، وخروجهم عن المعروف، ولم يرجعهم ما هم فيه عن سبيل رأوه هو سبيل الحق، بل ما زالوا في عراك وكفاح حتى لقوا ربهم فرحين بما قضوا من واجب الإرشاد عليهم، غير مكترثين بما لقوا في سبيل الواجب.
والكونت تولستوي الذي أقدم إلى القراء ترجمة حياته (مقتضبة من دائرة المعارف البريطانية، ومجلة الهلال الغراء، وبعض المجلات التركية) هو أحد أولئك الأفراد القلائل الذين لا يكاد الدهر يجود بواحد منهم حتى يتفانى الناس في تمجيد خصاله، ويغرقوا في إجلال ذكره، وإكبار شأنه؛ إذ يعمل الفرد منهم على إسعاد نوع الإنسان، وترقية حال بني البشر أكثر مما يعمله المئات بل الألوف من معاصريه:
ولم أر أمثال الرجال تفاوتا
إلى الفضل حتى عد ألف بواحد
نشأته الأولى
تشغل حياة تولستوي ثلاثة أرباع القرن التاسع عشر وعشر سنين من فجر القرن العشرين؛ إذ كان ميلاده في الثامن والعشرين من شهر أغسطس عام 1828 في قرية (ياسنايا بوليانا) في ولاية طولا من أعمال روسيا، فأنت ترى أن شمس حياته بزغت في فجر القرن التاسع عشر، وعاش معاصرا لكثير من فحول العلماء والفلاسفة؛ مثل: هيجو، وغوته، وغيرهما من الذين ولدوا معه في فجر القرن، وغربت شموس حياتهم في أصيله.
وأسرته ألمانية الأصل، هاجرت في عهد بطرس الأكبر، واشتهر منها بطرس تولستوي الذي كان سفيرا لروسيا لدى الدولة العثمانية، وأدخل في مصاف الأشراف عام 1724، وكان لهذه الأسرة منزلة رفيعة بين الأسر الروسية؛ إذ اشتهر كثير من أبنائها بالسياسة، ونبغ آخرون منهم في فن الكتابة.
أما أمه فكانت من بيت مجد عريق في الحسب وشرف الأصل، يعرف بأسرة فولكون، وكانت القرية التي ولد فيها الفيلسوف ملكا لها؛ فأقامته فيها ليقضي أيام طفولته، ولكن وافاها القدر المحتوم وهو في إبان نشأته، فعهد بتربيته إلى سيدة من ذوات قرابته، وانتقل به والده إذ ذاك إلى مدينة موسكو، حيث عاجلته المنية قبل أن يبلغ الكونت العاشرة من عمره، فعهد بتربيته إلى سيدة أخرى من ذوات قرابته تدعى بوشكوفا؛ فعادت به إلى قرية ياسنايا مقر ولادته، وهناك تلقى دراسته الأولية.
تعليمه
وما كاد يبلغ الخامسة عشرة حتى انتقل إلى مدينة قازان، وانتظم في سلك جامعتها مدة عامين، توفر أثناءهما على دراسة بعض العلوم العالية، وفيها درس أيضا بعض اللغات الشرقية، غير أنه ما لبث أن عافت نفسه الجامعة ودروسها؛ لنفوره من أخلاق تلامذتها، فعاد إلى قريته ثانية، وأكب هناك على مطالعة كتب مشاهير المؤلفين والأدباء من الروسيين والفرنسيين والألمان؛ أمثال: روسو وهيجو وفولتير وديكنز وبوشكن وترجنيف وشيللر وغوطه، ولكنه كان أكثر تعلقا بمؤلفات روسو، فعاش عيشة مستقلة لا يحتاج فيها إلى مرشد ولا مؤدب إلا الدهر وحوادث الأيام وتتبعاته الشخصية.
أوائل شبابه
وقد أخذت الاعتبارات الفلسفية تشغل أفكاره في أوائل شبابه؛ فكان شغله الشاغل أيام صباه هو التفكير في (ما هو الإنسان؟) و(من أين أتى؟) و(إلى أين مصيره؟) و(ما هي السعادة؟) إلى غير ذلك من المسائل الفلسفية العويصة التي كانت ترد مخيلته تباعا؛ آخذة بعضها برقاب بعض، حتى نشأ عنده ميل خاص للمباحثات والمناظرات، فكان يقضي طوال الساعات والأيام في مجادلة أقرانه ومناقشتهم فيما يعرض له من الأفكار.
انتظامه في سلك الجندية
وبينما كان الفيلسوف الشاب على الحال التي وصفناها لك حائرا بين تأثيرات الطبيعة وموحيات الكتب والأسفار؛ إذ زاره شقيق له أكبر منه سنا في قرية (ياسنايا) وكان شقيقه هذا من ضباط الجند الروسي ببلاد القوقاز، فوصف له حالة الجند وما هم عليه من نضارة العيش ورفاهة الحال، وما زال به يحسن له حالته ويرغبه الانتظام بسلكهم حتى رضي وأطاع شقيقه فأصبح في عداد الضباط وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وعند نشوب حرب القرم انتقل إلى الطونة وانضم إلى أركان حرب البرنس غورتشاكوف، ثم انتقل إلى سباستبول؛ حيث عين قائدا لفرقة من المدفعية، وكان لانتقاله من بيئة لأخرى أثر كبير في إثارة قريحته، وتوسيع خياله، فتغيرت أطواره، وتحولت كليته، وتبطنت أعماق نفسه بانفعالات كثيرة ظهر على أثرها أهم مؤلفاته التي يصف فيها حالة الجند، وأهوال الحروب، وما يكابده الإنسان من فظائعها.
رحلته وزواجه
وفي العقد الرابع من سني حياته تطلع إلى السفر، فسافر سنة 1862 وساح في بعض أنحاء أوروبا، ثم رجع إلى قريته واقترن في العام الثاني بالسيدة صوفيا ابنة الدكتور بيرس الألماني الذي كان يقيم في موسكو؛ فاضطر تولستوي أن يداول السكنى بينها وبين قريته، وكانت قد نضجت مواهبه واتسعت معلوماته؛ لكثرة ما شاهده واختبره بنفسه، وكانت الحكومة قد عينته قاضيا في قريته، فبدأ بنشر تعاليمه، وأخذ يدعو الناس إلى السلام والفضيلة؛ سواء بالقدوة أو بالتعليم.
عيشته اليومية
وقد اشتهر بزهده في الحياة وتخليه عن مظاهر الوجاهة؛ فكان في قريته مع زوجته وأولاده في منزل بسيط محاط بغابة كثيفة ليس فيه من الأثاث إلا الضروري، فكان يقوم مبكرا فيلبس ثوبا بسيطا مثل أثواب الفلاحين، وهو عبارة عن سراويل واسعة فوقها كساء كالقميص يتمنطق حوله بسير من الجلد.
وكان يتناول طعام الإفطار، ثم يذهب إلى العمل في حرث الأرض، وتعهد أشجارها، وبذر الحبوب، ومساعدة ضعفاء الفلاحين في أعمالهم.
سيرته بين فلاحيه
كانوا يعجبون بتواضعه ويستأنسون بدعته ولطف شمائله، فإذا وقع بينهم خلاف تقاضوا إليه وارتضوا حكمه، وكان قد أنشأ في قريته مدرسة ينفق عليها من ماله الخاص لتعليم أبناء الفلاحين، وكان يتولى تعليمهم بنفسه؛ فاشتهرت المدرسة وقصدها أهل المدائن الأخرى المجاورة يلتمسون الاستفادة من آرائه وفلسفته، وأنشأ لهم أيضا مجلة تهذيبية تصدر باسم القرية، وقد بلغ من محبته لفلاحي قريته أنه أراد أن ينبذ فكرة الاستئثار بالملك الشخصي، وأحب أن يوزع أملاكه بينهم بالتساوي فيشتغل كواحد منهم، ولكن زوجته وذوي قرابته أبوا عليه ذلك، تلك كانت حاله بالصيف، أما في الشتاء فكان يقيم في موسكو؛ فينقطع عن الأعمال البدنية، ويتفرغ للتأليف والتحبير؛ فيؤلف ويراسل ويكاتب.
حياته العلمية
لا نكاد نذكر اسم تولستوي حتى يخطر على البال مؤلفاته العديدة ورسائله المتنوعة؛ وأشهرها: (الحرب والسلم) و(البعث) و(حنا كرانينا) و(القيامة) و(أين المخرج؟) و(الحب والزواج) و(بم يعيش الناس؟) و(ديانة المسيح) و(الحياة) و(مملكة الظلام)، غير أننا لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن لرواياته الثلاث الأولى؛ وهي: (الحرب والسلم) و(البعث) و(حنا كرانينا) القدح المعلى، والمكانة السامية في عالم الأدب والتأليف، لا فى الروسيا فقط؛ بل في جميع العالم الأوروبي، ولا مراء في أن هذه الروايات الثلاث هي الدرة اليتيمة وواسطة القلادة بين درر مؤلفاته وغوالي حكمه؛ فإن رواية (حنا كرانينا) تمتاز بدقة البحث في تصوير ما يحصل عادة في عالم الزواج من الآلام والاضطرابات التي منشؤها عدم التروي والمضي مع الأهواء النفسية، وفي روايته (البعث بعد الموت) وصف الأمراض الاجتماعية وصورها بكل ألوانها ومعانيها، مع ذكر كيف أن الناس في هذا العصر أصبحوا يتنشقون سموم الظلم والاستبداد، ويتجرعون كئوسا ملؤها الكذب والرياء بدل استنشاقهم الهواء وشربهم الماء، وفي هذه الرواية يقول الناقد الفرنسي المعروف جول لومتر: «كتب تولستوي روايتيه (الحرب والسلم) و(حنا كرانينا)، ثم خجل من الشهرة وبعد الصيت اللذين نالهما أثر ظهورهما فاحتجب في كسر داره، واختفى بين صحائف الإنجيل مدة خمسة عشر عاما، ثم ظهر في عالم الأدب ثانية وفي يده أعجوبة مؤلفاته «كتاب البعث بعد الموت».»
ولو أمعنا النظر في حياة تولستوي المعنوية نرى أنها بكل ألوانها ومظاهرها، سياسية كانت أم اجتماعية، دينية أم خلقية؛ عبارة عن سلسلة حروب شعواء كان يشنها ذلك الرجل العظيم ضد الظلم والاستبداد، ومفاسد المدنية الحاضرة ورذائلها، فكان يرى رأي روسو القائل بأن صلاح الناس أو فسادهم إنما يدخل عليهم من باب المعاشرة والمخالطة، ويسلك إليهم من طريق البيئة والجوار، ثم نظر إلى المدنية الحاضرة المشعشعة بالأنوار الكاذبة، وفطن إلى ما تحت تلك الأضواء من ظلمة المفاسد والرذائل، وعلم أن التبعة في فساد نظام الاجتماع واقع على الرئاسات الدينية والسياسية، فوقف حياته على إيقاظ إخوانه في الإنسانية، وقضى معظم حياته يدعو الناس إلى دينه الجديد (Religion de la bonté)
وأساسه إيجاد رابطة المحبة والشفقة بين الناس، وعدم مقابلة الشر بمثله؛ ولذا نرى أن روح هذا المبدأ تتجلى في أغلب كتبه وتعاليمه التي تكاد تنطق بلسان واحد هاتين الكلمتين؛ وهما: (1)
أحبوا بعضكم بعضا. (2)
لا تقابلوا الشر بمثله.
مقارنة بينه وبين أبي العلاء
ذهب بعض كتاب أوروبا إلى وجود الشبه بين تولستوي وبين روسو، وعزز رأيه بأدلة لا محل لذكرها في هذه المقدمة الوجيزة، وإنا نرى أنه من الظلم أن نختم مقدمتنا دون أن نذكر ما رأيناه من وجوه الشبه بين حياة صاحب الترجمة وحياة أبي العلاء المعري المولود سنة 973م، فكلا الرجلين عاش زاهدا في الحياة، وكلاهما ناله من اضطهاد رجال الدين ما نغص عليه عيشه، وضيق دونه المذاهب، ولكليهما آراء في الحياة، ونظرات في الاجتماع تتفق معنى ومبنى.
اشتهر تولستوي بزهده في الحياة وتخليه عن مظاهر الوجاهة على نحو ما مر بك في مقدمتنا هذه؛ كذلك كان أبو العلاء زاهدا في الحياة متخليا عن ملذاتها؛ يردد قوله:
أتتني من الأيام ستون حجة
وما أمسكت كفاي ثني عنان
ولا كان لي دار ولا ربع منزل
وما مسني من ذاك روع جنان
تذكرت أني هالك وابن هالك
فهانت علي الأرض والثقلان
إلا أنهما وإن زهدا في كل لذات الحياة، فقد رغبا في العلم والتأليف اللذين قد ملكاهما، واستأثرا بهما، ولا شك أن ذلك كلفهما معاشرة الناس ومجاملتهم إلى حد معلوم؛ فإن أبا العلاء كان مضطرا إلى عشرة الناس؛ لاحتياجه إلى من يقرأ له، ويكتب عنه، ولذلك لم يكد يستقر في المعرة حتى اشتغل بالتعليم؛ فالتف حوله الطلاب من جميع الأطراف، كذلك كان تولستوي مضطرا لمجاملة زواره العديدين الذين كانوا يقصدونه من أقاصي البلاد يلتمسون الاستفادة من فلسفته وآرائه.
وصف الرحالة ناصري خسرو أبا العلاء المعري بقوله: «ويحكمها (أي المعرة) رجل ضرير يعرف بأبي العلاء عظيم الثروة، يملك عددا ضخما من العبيد، وكان سكان المدينة كافة خدمه، أما هو فيحيا حياة خشنة، يلبس غليظ الصوف، ولا يغادر بيته، ولا يأكل إلا الشعير، وسمعت الناس يتحدثون بأن بابه لا يغلق وأن نوابه يعملون في تدبير المدينة، ولا يلجئون إليه إلا في مهام الأمور إلخ.» ولو صح هذا الوصف - وهو ما أثبت احتماله العلامة طه حسين في كتاب (ذكرى أبي العلاء) صحيفة 230 بقوله: «فمن الظلم للتاريخ أن نمر بهذا الخبر من غير أن نثبت هذا الاحتمال.» - لكان مشابها للمعيشة التي كان يعيشها الفيلسوف تولستوي في قريته بين فلاحيه ومريديه.
1
كان تولستوي يرى أن نظام الاجتماع فاسد يحتاج إلى إصلاح، وأن فساده ناجم عن الرئاسات الدينية والسياسية، كذلك كان يرى أبو العلاء وصرح بهذا الرأي غير مرة في اللزوميات وسقط الزند؛ فمن ذلك قوله:
ساس الأنام شياطين مسلطة
في كل مصر من الوالين شيطان
وكذلك قوله:
مل المقام فكم أعاشر أمة
أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
فعدوا مصالحها وهم أجراؤها
رأي تولستوي في المرأة قبيح؛ لأنه يسيء الظن بها في كل أطوارها، ويرى أن تقطع كل علاقة بينها وبين الحياة العامة؛ فمن ذلك قوله: «على الرجل أن يراقب سلوك امرأته ولا يطلق لها العنان، بل يحجبها في البيت، والبيت دائرة حرية واسعة للمرأة.» وقال في موضع آخر في الزواج: «إن الزواج أصبح في عصرنا هذا بيننا محض خداع وغش، ولكنه لا يزال يوجد عند أولئك الذين يرون فيه سرا من أسرار الدين؛ كالمسلمين، والصينيين، والهنود، أما نحن فلا نرى فيه غير تلك المقارنة الحيوانية.»
ولأبي العلاء رأي في المرأة كثير المطابقة لرأي تولستوي، فهو كثير الظن بها ويرى أن تعيش بمعزل عن الحياة العامة، وتشدد في طلب الحجاب كما أشار في قوله:
علموهن النسج والغزل والرد
ن وخلوا كتابة وقراءه
وكذلك قوله:
فحمل مغازل النسوان أولى
بهن من اليراع مقلمات
ومنه قوله في التائية:
ولا ترجع بإيماء سلاما
على بيض أشرن مسلمات
أولات الظلم جئن بشر ظلم
وقد واجهننا متظلمات
فوارس فتنة أعلام غي
لقينك بالأساور معلمات
ذكرنا آنفا كيف أن تولستوي نبذ الاعتقاد القائل بالاستئثار الشخصي، وأراد أن يقسم أملاكه بين فلاحيه ويشتغل كواحد منهم، فكأنه بذلك يعزز رأي أبي العلاء القائل:
كيف لا يشرك المضيقين في النع
مة قوم عليهم النعماء
وأقواله في هذا المعنى كثيرة يقف عليها القارئ في أكثر (لزومياته).
إلى هنا ننتهي من المقارنة بين أفكار بطلي القرن التاسع والقرن العشرين بعد الميلاد، وإلى هذا الحد نكون قد أنجزنا ما وعدنا به القارئ من ترجمة حياة فيلسوف روسيا العظيم (الكونت لاون تولستوي) الذي أفل نجم حياته في 20 نوفمبر عام 1910، ليكون على بينة من تاريخ حياة أحد رجال العالم العظماء الذين أفادوا النوع الإنساني بأفكارهم الصالحة، وسيرتهم المبرورة، وسريرتهم الطاهرة.
قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي بك في رثاء الفيلسوف (تولستوي) تجري آية العلم دمعها
عليك ويبكي بائس وفقير
وشعب ضعيف الركن زال نصيره
وما كل يوم للضعيف نصير
ويندب فلاحون أنت منارهم
وأنت سراج غيبوه منير
يعانون في الأكواخ ظلما وظلمة
ولا يملكون البث وهو يسير
تطوف كعيسى بالحنان وبالرضا
عليهم وتغشى دورهم وتزور
ويأسى عليك الدين إذ لك لبه
وللخادمين الناقمين قشور
أيكفر بالإنجيل من تلك كتبه
أناجيل منها منذر وبشير
تناول ناعيك البلاد كأنه
يراع له في راحتيك صرير
وقيل تولى (الشيخ) في الأرض هائما
وقيل بدير الراهبات أسير
وقيل قضى لم يغن عنه طبيبه
وللطب من بطش القضاء عذير
إذا أنت جاورت (المعري) في الثرى
وجاور (رضوى) في التراب ثبير
وأقبل جمع الخالدين عليكما
وغالى بمقدار النظير نظير
جماجم تحت الأرض عطرها شذى
خباهن مسك فوقها وعبير
بهن يباهي بطن (حواء) واحتوى
عليهن بطن الأرض وهو فخور
فقل يا حكيم الدهر حدث عن البلى
فأنت عليم بالأمور خبير
أحطت من الموتى قديما وحادثا
بما لم يحصل منكر ونكير
طوانا الذي يطوي السماوات في غد
وينشر بعد الطي وهو قدير
تقادم عهدانا على الموت واستوى
طويل زمان في البلى وقصير
وهل عالج الأحياء بؤسا وشقوة
وقل فساد بينهم وشرور
قم انظر وأنت المالئ الأرض حكمة
أأجدى نظيم أم أفاد نثير
أناس كما تدري ودنيا بحالها
ودهر رخي تارة وعسير
وأحوال خلق غابر متجدد
تشابه فيها أول وأخير
تمر تباعا في الحياة كأنها
ملاعب لا ترخى لهن ستور
وحرص على الدنيا وميل مع الهوى
وغش وإفك في الحياة وزور
وقام مقام الفرد في كل أمة
على الحكم جمع يستبد غفير
وحور قول الناس مولى وعبده
إلى قولهم مستأجر وأجير
وأضحى نفوذ المال لا أمر في الورى
ولا نهي إلا ما يرى ويشير
تساس حكومات به وممالك
ويذعن أقيال له وصدور
وعصر بنوه في السلاح وحرصه
على السلم يجري ذكرها ويدير
ومن عجب في ظلها وهو وارف
يصادف شعبا آمنا فيغير
ويأخذ من قوت الفقير وكسبه
ويؤوي جيوشا كالحصى ويمير
ولما استقل البر والبحر مذهبا
تعلق أسباب السماء يطير
هوامش
الحكاية الأولى
بم يعيش الناس؟
كان سيمون صانع أحذية لا يملك من الأرض قيد شبر، وكان يقطن كوخا لأحد الفلاحين ويعيش من كسب يده، لقد كان العمل إذ ذاك كاسدا وحركته خامدة، وزاد الطين بلة أن سبل العيش كانت مجهدة، ونار الغلاء متأججة في كل حاجيات الحياة؛ لذلك كان كل ما يقبضه سيمون ثمنا لعرق جبينه ينفقه في سبيل الحصول على قوت يتبلغان به هو وزوجه.
لم يكن لذلك الشيخ وزوجه إلا غطاء جلدي يتقاسمانه سويا؛ ليدفع عنهما قر الشتاء، ولقد استنهرت فتوق ذلك الغطاء فكان هذا هو العام الثاني الذي احتاجا فيه إلى شراء غطاء آخر، لذلك خرج سيمون متوكئا على عصاه موليا وجهه شطر القرية؛ حيث يمكنه أن يجمع من بعض القرويين ما هم مدينون به من النقود، فوفى له بعضهم، وأمهله البعض، ونقده أحدهم عشرين كوبكا،
1
فلم يكن ذلك المبلغ كافيا لشراء الغطاء، ولكنه كاف لأن يدفعه سيمون ثمنا لبعض كئوس من الفوتكا،
2
بعدئذ قفل راجعا إلى منزله كسير القلب، وأخذ يهذي في طريقه؛ تارة عن غضب زوجه وسخطها عليه، وآونة يخاطب القروي الذي أعطاه عشرين (كوبكا) قائلا: «قف قليلا! وانقدني كل ما أنت مدين به. إنك أعطيتني عشرين (كوبكا) فقط وادعيت الفاقة، ولكن ماذا يهمني؟ وماذا عساي أن أفعل بهذا المبلغ؟! إنك تملك دورا وماشية، وأما أنا فلا أملك إلا ما أسد به الرمق، إنك تملك الحقول الغنية بالحب والثمر، وأما أنا فأشتري كل حبة من قوت يومي، إنك تستزيد من كل شيء وأما أنا فأحتاج إلى أقل شيء؛ فأنت مترف ذو نعمة، وأنا شقي ذو متربة، إذن يجب أن تدفع، هلم لا تتردد.»
وما وصل من هذيانه إلى هذا الحد حتى كان قد انتهى إلى معبد مقام عند منعطف الطريق، فنظر وإذا به يرى شبحا أبيض يلوح وراء المعبد، فلم يتبينه تماما؛ لأن طلائع الليل أخذت تطرد جيوش النهار من تلك البطاح والوديان ثم أخذ يسائل نفسه: «ما عسى أن يكون هذا الشبح؟ إنه حجر أبيض، ولكني لم أشاهد هنا حجرا قبل الآن، ألا يكون نورا إذا؟ ولكن لا، فإن رأسه تماثل رأس الإنسان إلا أنها ناصعة البياض، وما عسى أن يفعل الإنسان هناك؟» ثم اقترب من الشبح قليلا قليلا حتى تجلت أمامه حقيقته، وزال ما خامر فؤاده من الريب.
ماذا رأى؟ رأى رجلا عاري الجسد جالسا بانحناء وراء المعبد لا حراك به، فتوجس سيمون من نفسه خيفة، وهاله ذلك المنظر، وظن أن أحد القرويين ظفر به فقتله ثم تركه في تلك البقعة، فأوسع خطاه، وسار من أمام المعبد حتى لا يمر بالشبح، ثم حانت منه التفاتة إلى الوراء فرأى الرجل يتبعه بنظراته فدب في قلبه دبيب من الرعب والإشفاق، وأخذ يفكر فيما إذا كان يرجع إليه ليستقصي خبره ويستفسر عن حاله، أو يستمر في طريقه، فآثر الأخرى، وظن أنه إن دنا منه فهو ليس بناج من شروره، وأيضا فهو غير قادر على إغاثة رجل عاري الجسد!
ما خطا سيمون بضع خطوات حتى شعر بتقريع الضمير، وأخذ يسائل نفسه: «ماذا أنت فاعل يا سيمون؟! أتهرب من إغاثة ملهوف ربما كان على شفا الموت؟! أتعدو خوفا من أن تساعد نفسا ربما كانت تلفظ آخر أنفاسها؟! إنه من العار أن يقال عن سيمون إنه مر في طريقه ببائس فلم ينجده، وملهوف فلم يغثه.» ثم قفل راجعا نحو ذلك الغريب المسكين واقترب منه فلم ينتبه إليه كأنما بلغ به الضعف إلى درجة لم يمكنه معها أن يرفع جفنيه أو يدير عينيه، وتأمله فرآه فتى في مقتبل العمر صحيح الجسم لا تشوبه الكلوم ولا تشوهه القروح، ثم اقترب منه ثانية فتحرك الغريب وأدار رأسه الأبيض وفتح عينيه الفاترتين وألقى نظرة على وجه سيمون فكانت كافية لأن تبعث في قلبه الرحمة على ذلك الغريب، وتملأ فؤاده رفقا وحنانا على هذا البائس المسكين.
ثم ألبسه بعض ثيابه وأمره بالحركة حتى يتمشى الدم بين أعضائه، وبدأ في المسير فأخذ سيمون يسأله: «من أين أنت؟ وما الذي حدا بك إلى هذا المكان؟ أطرقتك بوائق الأحداث، أم هل وصلت إليك أيدي المسيئين حتى دفنت حيا بين طبقات الجليد المتجمدة؟» فأجابه قائلا: «إني غريب عن هذه الديار، ولم يسئ إلي أحد ما، ولكنه عقاب الله حق علي.» فأجاب سيمون: «يجب أيها الصديق أن تقابل ذلك بالرضاء والتسليم؛ فالله رب الكل، بيده كل شيء، وهو على كل شيء قدير، والآن أي جهة تقصد؟» - «كل الجهات عندي سواء.»
فبدرت على سيمون علامات الاندهاش؛ لأن الرجل لم تكن هيئته تشف عن خبث، ولم يدل مظهره على أنه من السفلة. واستمر سيمون في حديثه قائلا: «هلم معي إذا إلى المنزل؛ ريثما تدفئ نفسك قليلا.» ثم سارا سويا وأخذ سيمون يهينم قائلا: «إني ذهبت لشراء الغطاء فعدت إلى منزلي بدونه؛ وزيادة على ذلك أحضرت معي رجلا عاري الجسد؛ إن ماتروينا
3
ليغلي مرجل حقدها عندما تعلم ذلك.» وكان كلما عاودته ذكرى زوجته يطرق برأسه عابسا، ولكنه كلما تذكر حالة ذلك المسكين ونظراته المؤلمة عاودته بشاشته، وطفح ثغره فرحا وسرورا.
أما (ماتروينا) فقد أنهت كل واجباتها المنزلية في ذلك الصباح، وجلست تفكر في زوجها، وما عسى أن يكون قد فعل، وإذا بها ترى رجلين مقبلين: أحدهما سيمون، والآخر غريب لم تعرفه، فدار بخلدها لأول وهلة أن زوجها احتسى بعض كئوس من الخمر، وما الآخر إلا من أعوانه السكيرين، ثم بدأت تصخب، ولكنها انتظرت ريثما ترى ماذا يصنعان. دخل سيمون منكس الرأس خجلا، ثم تبعه صديقه الذي ظل واقفا صامتا لا يبدي حراكا، فلم تتردد ماتروينا في أنه من السفلة الأشرار، أما سيمون فقد خلع قبعته واستوى جالسا على أحد المقاعد كأن المياه ما زالت جارية في مجاريها ولم يحدث شيء يثير غضب زوجه، ثم دعا صديقه ليجلس بقربه ففعل، ثم خاطبها قائلا: «الآن يا ماتروينا قدمي لنا ما عندك من العشاء.» فنظرت إليه شررا، وازداد حنقها وأجابته: «إني أعددت كل شيء، ولكن ليس للسكارى الذين تلعب برءوسهم الخمر فتخرجهم عن المألوف.» - «ماتروينا! لا تكثري من تهدجك، وضعي حدا لثرثرتك، يجب أن تعرفي أولا من هو هذا الرجل.»
فأجابته: «إني لا أشك في أنه من أبناء الشريرين.» فقال: «كلا، فأنت مخطئة.» فقاطعته قائلة: «وأين النقود؟» فصمت سيمون فكان ذلك برهانا زاد اعتقادها فيهما، وداعيا قويا حرك فيها عوامل السخط، فأخذت تقدح من عينيها شررا، وتلفظ من فيها كلمات كلها مقت وغضب، وحاولت الخروج، إلا أنها كانت تود أن تقف على حقيقة أمر الغريب، فخففت من حدتها قليلا وانتظرت ... ثم ابتدرته قائلة: «إذا لم يكن هذا الرجل كما أعتقد، فمن يكون؟!» - «هذا ما أردت أن أوقفك على حقيقته من بادئ الأمر، فاعلمي أنني عندما وصلت إلى المعبد في رجوعي من القرية رأيت هذا الرجل جالسا بين طبقات الجليد المتجمدة؛ لا ثوب يكسيه، ولا دثار يدفع عنه غائلة البرد، فأشفقت عليه ودثرته كما ترين ثم آويته إلى هنا، ولو لم يرسلني الله في تلك الآونة لكان قضى نحبه لوقته؛ فخففي من وطأة حدتك، واعلمي أنها خطيئة كبرى يا ماتروينا، وتذكري أننا سنموت جميعا يوما من الأيام.»
فتمتمت ماتروينا ببعض كلمات يشتم منها رائحة الغضب، وألقت نظرة على الغريب، وظلت صامتة. - «ماتروينا! ألا توجد في قلبك عاطفة المحبة - محبة الله؟!»
وما سمعت هذه الكلمات من زوجها حتى نظرت إلى ذلك الضيف الغريب ثانية فشعرت بعاطفة الرحمة نحوه، وقامت لوقتها وأحضرت البقية الباقية مما عندها من الطعام، وقدمته لذلك المسكين الذي دفع ثمنه نظرة فاترة وابتسامة لطيفة عبرت عما في نفسه من الشكر والثناء، وبعد الانتهاء من أكله أخذت ماتروينا تعيد إلى مسامعه نفس الأسئلة التي سأله إياها زوجها من قبل، فأجابها بمثل ما أجاب زوجها، وختم إجابته بقوله: «إن زوجك دثرني وآواني، وأنت أسقيتني وأطعمتني، فالله يؤتيكما خيرا.» ثم باتا وأصبحا فسأله سيمون: «ما الذي يمكنك أن تباشره من الأعمال؟» فأجابه: «ليس بيدي صنعة ما.» فاستمر سيمون في كلامه: «إن من يريد أن يعمل فليس من الصعب عليه ذلك.» فأجابه: «سأتعلم.» فبدأ سيمون يعلمه كل يوم درسا من صناعته، وكان ميكائيل
4
سريع البديهة، فما مر ثلاثة أيام إلا وكان يباشر العمل كأنه به منذ سنين عديدة، وبعد الانتهاء من شغله كان يجلس وعيناه للسماء لا يتكلم إلا عند الحاجة، ولا يميل قط إلى المجون والمزاح، قليل الابتسام، فلم يروه يبتسم إلا مرة واحدة، عندما قدمت إليه ماتروينا العشاء في أول ليلة من ليالي حياته الجديدة!
كرت الأيام ومرت الأعوام وميكائيل يثابر على العمل مواصلا ليله بنهاره، حتى ذاع صيته وعلت شهرته بين القرى والربوع المجاورة، وفي ذات يوم بينما هم جالسون في كوخهم وإذا بعربة يجرها ثلاثة من الصافنات الجياد تنهب الأرض نهبا وتتقدم نحو كوخهم الحقير، وما هي إلا بضع ثوان حتى رأوا العربة قد وقفت أمام الكوخ، وقفز منها سيد تلوح عليه أمارات الشرف، ومخايل النبل، ضخم الجسم، أحمر الوجه، طويل القامة، فقام سيمون لوقته وفتح باب كوخه على سعته، ثم وقف محييا ذلك الزائر العظيم منحنيا أمامه بكل تؤدة واحترام.
فقال السيد بكبر: «من رئيس العمل في هذا الكوخ؟» فأجابه سيمون: «أنا يا صاحب العظمة.» ثم أمر الشريف خادمه أن يحضر الجلد، فأتى به ووضعه على خوان في وسط الكوخ، وبعدئذ وجه السيد كلامه إلى سيمون قائلا: «ألا ترى هذا الجلد؟» فأجاب: «نعم يا صاحب الشرف، إنه في غاية الجودة.» فقال الشريف بحدة: «يا لك من أبله أحمق! أوتشك في ذلك؟! إنه ذو قيمة عالية وأريد أن تصنع لي منه حذاء على شرط أن يمكث حولا كاملا حافظا لرونقه وشكله، أتقدر؟» فاضطرب سيمون قائلا: «نعم يمكنني يا صاحب النبل.» فصاح في وجهه ذلك السيد: «يمكنك؟ تدبر! يجب أن تعلم لمن ستصنع الحذاء؛ فإن لم يكن كما أمرت فسأودعك غيابة السجن!» فانتفض سيمون فرقا وخوفا وتلعثم لسانه وهمس إلى ميكائيل يطلب مساعدته في ذلك المأزق فأومأ إليه برأسه علامة للرضاء ؛ فقبل سيمون العمل، ثم هم الشريف بالانصراف فودعه سيمون بمثل ما قابله به من التجلة والاحترام، ومما يجدر بالذكر ما لاحظه سيمون أثناء وجود الشريف بالكوخ من أن وجه ميكائيل كان يتهلل بشرا وعينيه تتطلعان إلى ما وراء السيد، شاخصتين كأن أمامه شبحا أو طيف خيال، فكان ذلك موضع دهشة سيمون وعجب ماتروينا!
ثم قال سيمون لصديقه: «هيا ابدأ في العمل أيها الصديق، وحذار من الوقوع في الخطأ فإن السيد كما رأيت سريع الغضب.» فبدأ ميكائيل في صنع الحذاء، ولكنه أدهش بعمله ماتروينا؛ إذ رأته يهيئ الجلد ويخيطه لا على شكل باقي الأحذية، ولكنه على شكل خفاف رقيقة، فأسرت ذلك لزوجها الذي ما كاد يراه حتى استولى عليه الذهول وابتدره قائلا: «ماذا تصنع أيها الرفيق؟! أنت يا من مكثت معي حولا كاملا بدون أن تزل أو تخطئ، أتقترف في دقيقة واحدة أعظم الأغلاط؟!» وأراد أن يستمر في تأنيبه، وإذا به يسمع وقع حوافر جواد، فصمت ورأى القادم فإذا هو خادم السيد يقول: «عموا صباحا أيها الرفاق، إني أتيت لأجل الحذاء.» فدهش سيمون واستمر الخادم في حديثه: «نعم الحذاء! فإن سيدي ما كاد يفارقكم حتى فارقته الحياة وأخرجناه من العربة جثة هامدة، والآن فقد جئت لأعلمكم أن تصنعوا هذا الجلد خفافا للسيدة.» فبهت سيمون، ثم تهلل وجهه، وأقبل على ميكائيل يقبله فرحا مسرورا، ثم أعطياه الخفاف فانصرف.
مر العام إثر العام وميكائيل عائش الآن في السنة السادسة من حياته الجديدة لا ينطق إلا عند الضرورة، ولم تعل الابتسامة شفتيه إلا مرتين في خلال هذه المدة الطويلة، وفي ذات يوم بينما هم قعود يشتغلون، كل في عمله، وإذا بأحد أولاد سيمون صرخ مخاطبا ميكائيل: «عماه! هيا انظر فإن امرأة معها طفلتان مقبلة نحونا.» فنظر ميكائيل من إحدى شرفات الكوخ فرأى سيدة معتدلة القوام حسنة الهندام يرافقها طفلتان - تتقدم نحو الكوخ.
دخلت السيدة فقام سيمون مستقبلا إياها ومرحبا بها، ثم سألها الجلوس ففعلت، وقال لها: «إن السرور ليشملني إذا أمكنني القيام بما تأمرينني به .» فأمرت بعمل حذاءين للطفلتين، فأجابها سيمون إلى طلبها، وفي تلك الآونة نظر سيمون إلى ميكائيل فرأى عينيه محدقتين بالطفلتين لا يحول عنهما نظره كأنه يعرفهما من قبل؛ فدهش، ولكنه لزم الصمت.
ثم ابتدأت ماتروينا تسأل تلك السيدة قائلة: «يظهر أن ابنتيك توأمتان.» فأجابتها: «أجل إنهما لكذلك، ولكنهما ليستا طفلتي، ولا يربطني بهما رباط صلة أو قرابة.» فتعجبت ماتروينا وقالت: «عجبا! إنهما ليستا طفلتيك، ثم مع ذلك تشفقين عليهما هذه الشفقة وتظللينهما بأجنحة عطفك وحنانك؟!» فقالت السيدة: «وكيف لا أشفق عليهما وقد أرضعتهما من ثديي؟!» ثم استمرت المرأة في الحديث وأخذت تسرد مجمل حكاية هاتين الطفلتين فقالت: «لقد اختطفت يد المنون روح والديهما منذ ست سنين في أسبوع واحد، فأودع الأب رمسه يوم الثلاثاء، وعلى أثره بثلاثة أيام فاضت روح تلك الأم وانتقلت إلى دار الخلود، أما هاتان الطفلتان فقد ولدتا يوم الخميس الموافق لليوم الثالث من موت والدهما، ولليوم الأول من أيام الأسبوع الذي تركتهما فيه أمهما وديعة عند رب العالمين، مسكينة أمهما! فقد كانت فقيرة وحيدة ليس لها في الحياة من يأخذ بناصرها، ويقاسمها عزلتها وشقاءها، ومن ذلك اليوم - يوم الخميس - أصبحت هاتان الطفلتان اليتيمتان غريبتين عن العالم أجمع لا تربطهما بأهله أواصر الصلة أو القرابة.
لقد كنت أنا وزوجي مقيمين في ذلك الحين في القرية، وكانت تربطنا بوالدي الطفلتين رابطة الجوار، وقد ذهبت لأزور تلك المسكينة في صباح أحد الأيام، فما كدت أخطو بضع خطوات حتى وجمت ذعرا وهالني ما رأيت، نعم إنها لساعة رهيبة مخيفة! رأيت الأم ملقاة على الأرض، فدنوت منها، فإذا هي جثة هامدة تعلو وجهها صفرة الموت، وحولها طفلتان في المهد تصيحان وتعولان كأنهما علمتا برزئهما، فأخذتا تناديان أمهما النداء الأخير، وتسمعانها صوت بكائهما قبل فراقها الأبدي ... وهكذا في ساعة ولدتهما، وفي ساعة فقداها.
بعد ذلك انتشر الخبر فتقاطر القرويون إلى ذلك الكوخ المشئوم، وعنوا بجثة الفقيدة ووضعوها في الكفن، ثم واروها في التراب؛ وعيونهم دامعة، وقلوبهم يدميها الحزن والأسى - إنهم لقوم محسنون .
لم يكن للطفلتين نصير كما ذكرت، فتكفلت بهما وتعهدت بتربيتهما، ولم يكن لي في الحياة سوى طفل صغير اعتبطه الموت، فكم كنت أشعر بالوحدة لو لم يكن هاتان الطفلتان بجانبي! وكم يزداد حبي لهما! فهما زهرة حياتي ونضرتها.»
وبعد أن انتهت من حديثها ضمت إليها بيمينها إحدى الطفلتين ومسحت بيسارها عبراتها المنسجمة، فتنهدت ماتروينا وقالت: «حقا؛ لقد صدق المثل القائل: «إن الإنسان يمكنه أن يعيش بلا أب أو أم، ولكنه لا يمكنه ذلك بدون رحمة الله».»
ثم ساد السكوت، وانبثق نور وضاء من الركن الذي كان فيه ميكائيل، وأنار كأنه ضوء الشمس القوي في الصيف، فنظروا إليه فإذا هو جالس، ويداه على منكبيه، وعيناه تتطلعان إلى السماء، ووجهه يتلألأ، وثغره يبتسم.
ما ذهبت المرأة بطفلتيها حتى قام ميكائيل وانحنى أمام سيمون وقال: «الوداع! الوداع! لقد غفر لي ربي، ولم يبق إلا أن أسألك عفوك إن كنت هفوت أو أذنبت.» ثم تلألأت غرته وعلا وجهه غطاء نوري فانحنى أمامه سيمون قائلا: «عفوا يا ميكائيل، فإنك لست بشرا سويا، وأنا ليس في قدرتي أن أرغمك على القيام عندي، أو أتجاسر أن أسألك أكثر مما أريد أن تجيبني عنه الآن، إنك ابتسمت ثلاث ابتسامات فأشرق النور من محياك، فخبرني أيها الصديق عن سر ذلك الابتسام، ومبعث هذا النور الوهاج.» فأجاب ميكائيل: «إن الله أرسلني لأتعلم ثلاث حقائق، وقد أتممتها؛ فابتساماتي الثلاث مظاهر الفرح الذي ملأ قلبي، أما النور فينبعث مني؛ لأن الله غفر ذنبي وسامحني.»
فقال سيمون: «ولم عاقبك الله؟ وما هي تلك الحقائق التي بعثت لمعرفتها؟!» فأجابه: «إني كنت ملكا في السماء فخالفت أمر ربي؛ إذ أرسلني لأقبض روح امرأة من عباده، فهبطت إلى الأرض وإذا بي أراها مسكينة هزيلة، قد وضعت لوقتها توأمتين؛ فلما رأتني فقهت كنه حقيقتي، وعرفت أنني أتيت في طلب روحها، فأجهشت بالبكاء، وبصوت تقطعه الغصات العميقة توسلت قائلة: «أيها الملاك الطاهر؛ رفقا بامرأة ضعيفة كسيرة القلب قتل زوجها وحرمت من كل نصير لها في الحياة، أنا غريبة عن العالم أجمع، فأمهلني ريثما تترعرع هاتان اليتيمتان، وبعدها أموت راضية مطمئنة، بربك لا تعجل ساعة يتمهما؛ فحياة الطفل بأمه.» فرجعت إلى ربي وبلغته رسالتها، فأمرني أن أهبط ثانية وأستل روحها، وبعد أن أديت ما أمرت به أردت الصعود، وإذا بأجنحتي تسقط، وريح شديدة تصدني، فوقعت بجانب الطريق.»
فعلم سيمون وماتروينا حقيقة هذا المخلوق الذي شملاه بعطفهما وحنانهما طول هذه المدة، ثم بكيا روعة وجلالا، أما الملك فأخذ يقص قصته وهو يقول: «لقد هبطت إلى الأرض وأنا لا أعرف ما يعتري الإنسان من حر وبرد، فكدت أموت جوعا، وكادت أعضائي تصير قطعة من الجليد، ولكني لم أدر ماذا أفعل؟ ذهبت إلى المعبد لآوي إليه فوجدته موصدا، فجلست بجانبه، واتكأت على جدرانه؛ اتقاء من العاصفة الشديدة، وبينا أنا كذلك أشعر بألم الجوع والبرد؛ إذ مر علي أول مخلوق أرضي وقعت عليه عيني منذ صرت رجلا أشعر وأتألم، تمثلت أمامي صورته فرأيت فيها قبح النظر متجسما، وظننت أن الله لم يخلق أفظع منه شكلا، فحولت بصري عنه، وأما الرجل فما كاد يراني حتى استولى عليه الرعب، وسار من طريق آخر حتى لا يمر بي، فملأ اليأس قلبي، ولكني ما لبثت أن رأيته راجعا نحوي، ونظراته تنم عن حب كامن وعطف مستتر، فدثرني بثيابه وآواني إلى منزله؛ حيث قابلتنا زوجته وعيناها تقدحان شررا وغضبا، ولكنها ما لبثت أن خففت من حدتها وعطفت علي فقدمت لي الطعام وكئوس الشراب، وإذ ذاك أتممت الدرس الأول من دروسي، وتعلمت إحدى الحقائق الثلاث؛ وهي: ماذا يكمن في الإنسان؟ فعلمت أنها «الرحمة» وحدها.
جاء السيد بعد ذلك بعام واحد فأمر بعمل حذاء لا يبلى قبل مرور حول كامل، ورأيت وراءه رفيقي ملك الموت، فعلمت أن الشمس لا تغرب حتى تغرب حياة ذلك السيد، وإذ ذاك وقفت على سر الحقيقة الثانية؛ وهي: «ما الذي لم يحط به الإنسان علما؟» فعلمت أنها «حاجيات نفسه» وهنا ابتسمت ابتسامتي الثانية؛ إذ لم يبق أمامي إلا الدرس الأخير، وليس بيني وبين ملكوت السموات إلا فرج الله النهائي، ظللت عائشا معكم أنتظر مشيئة الله إلى أن أتت التوأمتان فعرفت الطفلتين، ولما سمعت كيف عاشا إلى هذا الوقت وتذكرت قول أمهما: (إن الطفل لا يعيش بدون رحمة أمه وعطفها عليه) تحققت بطلان هذه الدعوى، ولما تساقطت الدموع من عيني تلك المرأة - دموع الرأفة والرحمة - وضمتهما إلى صدرها الممتلئ عطفا وحنانا عرفت أن في قلبها عاطفة سامية هي عاطفة (الرحمة) التي هي سر الحقيقة الأخيرة؛ وهي: (بم يعيش الناس؟)
إني لم أظل حيا لأني أخذت الحيطة لنفسي؛ بل لأن الله قيض لي إنسانا منحني بعض ما في نفسه من (الرحمة) فشملاني هو وزوجه بعطفهما وحنانهما، كذلك اليتيمتان بقيتا تستنشقان نسمات الحياة إلى هذا الوقت لا باعتناء أمهما، ولكن لأن عاطفة الرحمة تحركت في قلب امرأة غريبة عنهما؛ فعنيت بأمرهما، وبكت من أجلهما، فالعالم كله والناس أجمعون لا يعيشون في هذا الكون بمحض تدبيرهم وإرادتهم وبما يعملون لحفظ كيانهم فحسب، ولكنهم يعيشون بعاطفة الرحمة التي أودعها الله في الإنسان؛ فهي التي تحفظ فيهم حرارة الحياة، «إن من يرحم فقد تقرب إلى الله؛ لأنه هو الذي خلق فيه الرحمة».»
وبعد أن أتم ميكائيل قوله غنى أنشودة إلهية؛ فاضطرب الكوخ، وخر سيمون وأهله مغشيا عليهم، ثم فتح السقف من فوقهم، وظهرت الأجنحة على ذراعي الملك، ثم صعد عمود من الدخان إلى السماء، وهكذا ارتفع الملك إلى عرش ربه، ولما ثاب سيمون إلى رشده وجد كوخه كما كان، والتفت يمنة ويسرة فلم ير إلا أسرته الأولى.
هوامش
الحكاية الثانية
مشرب سورات
قد ترجم صديقنا أحمد أفندي شاكر الكرمي هذه القصة ونشرها في كتابه الكرميات تحت عنوان الفلسفة الشرقية، ونسب وضعها إلى برناردين دوسانت بيير، وقد غمط بذلك حق تولستوي؛ لأنها من وضع تولستوي، ولكنها مقتبسة من أصل فرنسي للكاتب المذكور وقد نقلها حضرته عن الإنجليزية من كتاب
Twenty three tales from tolostoy ، وهو نفس الكتاب الذي ننقل منه هذه القصص، وقد لاحظت عليه أنه ترك أسطرا منها بدون ترجمة فضلا عن أنه أهمل كثيرا في ترجمة كثير من الجمل، ولذلك لم نر بدا من إعادة ترجمتها في كتابنا هذا؛ خدمة للحقيقة. ***
عجبت لكسرى وأشياعه
وغسل الوجوه ببول البقر
وقول النصارى إله يضا
م ويظلم حيا ولا ينتصر
وقول اليهود إله يحب
رسيس النساء وريح القتر
وقوم أتوا من أقاصي البلا
د لرمي الجمار ولثم الحجر
فوا عجبا من مقالاتهم
أيعمى عن الحق كل البشر
المعري
كان في مدينة سورات في الهند مشرب يجتمع فيه الكثير من الغرباء السائحين وأهل الأسفار المتجولين من مختلف الأقطار للسمر والحديث، وقد اتفق أن رجلا فارسيا من علماء اللاهوت أم هذا المشرب في أحد الأيام، وكان قد صرف أيام حياته يدرس كنه الإله وحقيقته، غير تارك بحثا كتبه الأولون في ذلك الموضوع إلا قرأه وكتب عنه، وما زال هذا شأنه يفكر ويقرأ ويكتب حتى سلب عقله، واضطربت عقيدته، وانتهى به الأمر إلى إنكار وجود الخالق، ثم اتصل خبره بالشاه ملك فارس؛ فأمر بأن ينفى من مملكته.
لم يجن المسكين أي ثمرة من مجهود بحثه ودراسته في المسبب الأول، وبدل أن يفهم أنه فقد عقله سلك سبيل إنكار وجود إرادة عليا مسيطرة على عالمنا الأرضي.
كان لذلك العالم عبد أسود يتبعه حيثما سار، فلما ولج باب المشرب جلس العبد على حجر خارج الباب تحت أشعة الشمس، وأخذ يضرب أسراب الذباب التي كانت تطن حوله، أما سيده فجلس على أريكة مستطيلة داخل المشرب، وطلب فنجانا من الأفيون وتجرعه، وبعد أن دب مفعول المخدر في تلافيف دماغه، أخذ يحادث الخادم من خلال الباب المفتوح قائلا: «خبرني أيها العبد التعس، أتعتقد أن هنالك إلها أم لا؟»
فأجابه العبد بقوله: «لا ريب في أن هنالك إلها.»
ثم أخرج توا من منطقته صنما من خشب وهو يقول: «هذا هو الإله الذي حرسني منذ ولدت، كل إنسان في بلادنا يعبد الشجرة المقدسة التي من خشبها عمل هذا الإله.»
استرعت هذه المحاورة الدائرة بين اللاهوتي ومولاه انتباه ضيوف المشرب الآخرين، وقد أدهشهم سؤال العالم، وزادهم جواب مولاه دهشة ، فانبرى برهمي من الحاضرين عند سماعه كلمات العبد، وقال: «أيمكن أن تصدق أيها البائس الأبله أن الإله يحمل في منطقة رجل؟! ليس هناك إلا إله واحد؛ هو برهما، هو أكبر من العالم بأسره؛ لأنه خالقه، إن برهما هو الإله الأحد القدير، وباسمه العظيم بنيت المعابد على ضفاف نهر الكنج؛ حيث يعبده الكهنة البرهميون الذين يعرفون دون سواهم الإله الحق، لقد مضت عشرات الألوف من السنين، وتوالت الانقلابات تلو الانقلابات، وهؤلاء الكهنة محتفظون بنفوذهم؛ ذلك لأن برهما الإله الأحد الحق باسط عليهم جناح حمايته.»
نطق البرهمي بهذا القول وهو يظن أنه أقنع كل إنسان، إلا أن سمسارا يهوديا من الحاضرين رد عليه قائلا: «كلا إن معبد الإله الحق ليس في الهند، وما كان الله ليحمي طائفة البراهمة، إن الإله الحق ليس هو إله البراهمة، بل هو رب إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وهو لا يحمي سوى شعبه المختار؛ شعب إسرائيل، إن شعبنا وحده هو المحبوب عند الله منذ بدء الخليقة، وإذا كنا اليوم مشتتين في أنحاء الأرض، فما ذلك إلا لأن الله يريد أن يبلونا؛ لأنه وعد أنه سيجمع شمل شعبه في يوم من الأيام في أورشليم، ويرجع حينذاك إلى البيت المقدس، أعجوبة الزمن القديم، مجده السالف، وسيكون إسرائيل يومئذ حاكم كل الشعوب.»
وبعد أن أتم اليهودي قوله انخرط في البكاء، ثم أراد إعادة الحديث، لولا أن قاطعه مبشر إيطالي كان هناك بقوله: «إن ما تقوله غير صحيح، وإنك لتفتري على الله؛ لأنه يستحيل أن يحب قومك أكثر من حبه سائر الأقوام، ولو كان حقا أنه فضل بني إسرائيل قديما فإنه قد مضى تسعة عشر قرنا منذ أن أغضبوه وحملوه على تدميرهم وتفريقهم أيدي سبأ في مناكب الأرض، فلم يجلب لهم إيمانهم أدنى سعادة، هذا الإيمان طوته يد الفناء، اللهم إلا ما بقي منه حقيرا هنا وهناك، إن الله لا يفضل قوما على قوم، بل هو يدعو الجميع - من أراد منهم النجاة والفوز - للالتجاء إلى أحضان كنيسة روما الكاثوليكية التي لا يجد الخارجون عن حدودها خلاصا.»
كان في الحلقة قسيس بروتستانتي، لم يكد يطرق سمعه هذا القول حتى امتقع لونه، والتفت إلى المبشر الكاثوليكي، وقال له: «كيف تقول إن الخلاص مختص بمذهبكم؟! إن الناجين هم الذين يعبدون الله بروح العزم والإخلاص كما نص الإنجيل وكما أمرت كلمة المسيح.» عند ذلك التفت تركي من الموظفين في جمرك سورات كان جالسا يدخن قصبته، وقال بروح الأنفة للمسيحيين: «إن إيمانكما بدينكما باطل؛ لأن الدين المسيحي قد نسخ منذ اثني عشر قرنا بدين محمد الحق. إنكما تعرفان - ولا شك - أن دين محمد الحق ما زال آخذا في الانتشار في كلتا القارتين: أوروبا وآسيا، حتى في بلاد الصين المتأخرة المظلمة، وقد قلتما نفساكما: إن الله نبذ اليهود، واستشهدتما على بطلان ديانتهم بذلتهم، وعدم انتشار دينهم، فاعترفا إذن بصحة الدين المحمدي؛ لأنه منتشر متفوق، سوف لا ينجو أحد سوى أتباع محمد خاتم النبيين، وينجو من أتباعه أشياع عمر
1
فقط! أما أشياع علي فلا؛ لأن إيمانهم باطل.»
هنا أراد اللاهوتي الفارسي الذي كان من شيعة علي أن يعترض، لولا أن ارتفع إذ ذاك ضجيج الحاضرين من مختلفي العقائد ومتبايني الأديان، فقد كان فيهم - عدا من ذكرنا - مسيحيون من الحبشة، ولاميون من التيبت، وإسماعيليون، وعباد نار، فتناقشوا كلهم في حقيقة الإله الحق، وكيف يجب أن يعبد، فتجادلوا واشتدت حدتهم؛ فكان كل واحد منهم يؤكد أن الإله الحق لم يعرف ولم يعبد كما يجب في غير بلاده، إلا رجل صيني من أتباع كونفوشيوس كان جالسا جلسة هادئة في زاوية من زوايا النادي يحتسي كئوس الشاي وهو مصغ لما يقوله الآخرون، ولا ينبس ببنت شفة، فلاحظه التركي جالسا هنالك، فتقدم إليه يقول: «إنك تستطيع أن تثبت ما قلته أيها الصيني الصالح، إنك تحافظ على هدوئك وسكينتك، ولكن أعلم أنك ستؤيد رأيي. إن تجارا من مواطنيك الذين يأتون إلي ملتمسين مني المساعدة أخبروني أن بالصين أديانا كثيرة، إلا أنكم - معاشر الصينيين - تعدون دين محمد خيرها جميعا وتقبلون على اعتناقه باشتياق زائد، تفضل إذن وأيد قولي ، بين لنا ما اعتقادك في الإله الحق وفي رسوله.»
فقال الباقون: «نعم، نعم.» ملتفتين إلى الرجل الصيني قائلين له: «ماذا ترى؟ دعنا نسمع رأيك في هذه المسألة.»
عند ذلك أطبق الرجل الصيني عينه وفكر برهة، ثم فتحها ثانية وقال بصوت هادئ رزين بعد أن أخرج يديه من كميه الواسعين وربعهما على صدره: «سادتي يخيل إلي أن الكبرياء خاصة هي التي تقف حجر عثرة في سبيل الاتفاق على مسائل الأديان، وإذا تفضلتم علي بالإصغاء فسأقص عليكم حكاية تشرح مسألة هذا الاختلاف.
لقد جئت هنا من الصين على ظهر سفينة إنكليزية طافت العالم، وقد اتفق أن فرغ الماء منا فاضطررنا أن نرسو في سواحل سومطرا الشرقية؛ لنتزود ماء، فاغتنم بعضنا هذه الفرصة ونزل إلى اليابسة، وكان الوقت ظهرا، جلسنا تحت ظلال صف من أشجار جوز الهند على بعد من إحدى قرى الجزيرة، وقد كنا من أجناس مختلفة، ولم يكد يستقر بنا المقام حتى أبصرنا رجلا أعمى يقترب منا، وعلمنا بعد ذلك أنه فقد باصرتيه من كثرة تحديقه بالشمس وهو يحاول أن يعرف ما هي؛ لأجل أن يقبض على نورها، وقد صرف وقتا طويلا لتحقيق هذه الأمنية بتحديقه المستمر في الشمس، ولكنه لم يجن من ذلك أي نتيجة سوى إصابة عينيه من شدة الضوء حتى أصبح ضريرا، فقال حينئذ يخاطب نفسه: إن نور الشمس ليس سائلا؛ لأنه لو كان كذلك لأمكن صبه من إناء لآخر، ولوجب أن يحركه الهواء كما يحرك الماء، وليس هو نارا؛ لأنه لو كان كذلك لوجب أن يطفئه الماء، وليس هو روحا؛ لأنه يرى بالعين، ولا مادة؛ لأنه لا يمكن تحريكه، وما دام نور الشمس غير سائل، ولا نار، ولا روح، ولا مادة، فهو لا شيء.
على هذا المنوال أخذ في القياس والجدل، وكانت النتيجة التي جناها من كثرة إحداقه بالشمس وتفكيره في ماهيتها أن فقد بصره ثم عقله، وقد ازداد رسوخا في عقيدته بعد عماه.
وكان مع ذلك الأعمى عبد يقوده، فلما وصل به إلى الظل أجلسه في مكان ثم التقط جوزة كانت ملقاة على الأرض وشرع في عمل سراج منها، فلف فتيلة من أليافها، ثم عصر منها زيتا في قشرتها، وغمسها فيه، وبينما كان العبد عاكفا على عمله تنهد الأعمى وقال له: ألم أك محقا عندما أخبرتك أنه لا توجد شمس، ألا ترى ما أشد الظلام، ومع ذلك فإن الناس ما زالوا يقولون: إن هناك شمسا! إذا كان ما يقولونه حقا؛ فليقولوا لي ما هي تلك الشمس؟ فقال له عبده: «أنا لا أعرف الشمس، ولا يعنيني أن أعرفها، ولكن أعلم ما هو النور، وها قد صنعت لنفسي سراجا أستطيع بواسطته أن أخدمك، وأن أجد ما أريده في كوخنا.» ثم رفع العبد قشرة الجوز قائلا: «هذه شمسي.»
فضحك لهذا القول رجل أعرج له عكازان كان جالسا على مقربة منهما وقال: «إنك على ما يظهر قضيت كل حياتك ضريرا، لا تعرف ما هي الشمس، إني سأخبرك عن ماهيتها، إنها كرة من نار تطلع كل صباح من جوف البحر، وتغيب بين جبال جزيرتنا في كل مساء، وكلنا نشاهد ذلك ونراه، ولو كنت بصيرا لرأيته أيضا.»
فقال صياد كان يستمع حوارهما: «يظهر أنك لم تخرج من هذه الجزيرة قط، فلو كنت غير أعرج، ولو كنت خرجت إلى ما وراء الجزيرة كما أخرج أنا في قارب الصيد؛ لعلمت أن الشمس لا تغرب بين جبال جزيرتنا، ولكنها كما تشرق من المحيط كل صباح، تغرب كذلك في البحر كل مساء، إن ما أقوله لك حق؛ لأنني أراه كل يوم بعيني رأسي.» فقاطعه حينذاك هندي من جماعتنا قائلا: «إنه ليدهشني أن يقول رجل عاقل مثلك نظير هذه الترهات، قل لي كيف يمكن أن تنزل كرة من النار في الماء ولا تنطفئ؟! إن الشمس ليست كرة من نار، بل هي الإله (ديفا) الذي يركب مركبة تدور حول الجبل الذهبي (مرد) أبد الدهر، وقد يحدث في بعض الأحايين أن الثعبانين الشريرين (راغو) و(كتو) يهاجمان ديفا ويبتلعانه فتظلم الأرض إذ ذاك، ولكن كهنتنا يصلون لأجل خلاصه فيخلص ، إن الجهال الذين على شاكلتك، والذين لم يتجاوزوا حدود جزيرتهم يتصورون أن الشمس تشرق في بلادهم فقط.»
وجاء الدور لربان مركب مصري كان حاضرا فقال: «لا. إنك أنت أيضا مخطئ، فإن الشمس ليست إلها، ولا تدور حول الهند فقط وحول جبلها الذهبي، إنني ركبت كثيرا من البحار فطفت البحر الأسود، وسواحل جزيرة العرب، وزرت مدغشقر والفلبين، فرأيت الشمس تضيء الأرض كلها، لا الهند وحدها، وشاهدتها لا تدور حول جبل، بل تطلع من أقصى الشرق وراء جزائر اليابان، وتغرب في أقصى الغرب وراء الجزر البريطانية، وهذا هو السبب في تسمية اليابان لبلادهم (نيفون)؛ أي مطلع الشمس، إنني أعرف هذا حق المعرفة؛ لأنني رأيت بنفسي كثيرا، وسمعت أكثر من جدي الذي وصل برحلاته إلى أقصى تخوم البحار.» كان المصري يود أن يستمر في كلامه لولا أن بحارا إنكليزيا من طائفة سفينتنا قاطعه فقال: «إنه لا توجد بلاد يعرف أهلها الشيء الكثير عن الشمس وحركاتها كإنجلترا، إن الشمس - كما يعلم كل واحد في إنجلترا - لا تطلع من مكان ولا تغرب في مكان، بل هي تدور دائما حول الأرض، ونحن على ثقة من هذا؛ لأننا طفنا العالم فكنا حيثما توجهنا نرى الشمس تبرز للأنظار في النهار، وتختفي في الليل كما هو الحال هنا.»
ثم أخذ البحار عصا وشرع يخط على الرمل دوائر محاولا أن يصور حركات الشمس في السموات ودورانها حول الأرض، إلا أنه كان عاجزا عن توضيح ذلك، فأشار إلى دليل السفينة وقال: «إن هذا الرجل أكثر مني علما بالأمر، وهو يستطيع أن يوضحه لكم تماما.»
وكان الدليل متوقد الذهن إلا أنه كان صامتا منذ البداية، مصغيا إلى كل ما قيل، فلم ينبس ببنت شفة حتى دعي للقول، فقال والكل مصغ إليه: «إنكم جميعا يخدع بعضكم بعضا وتغشون أنفسكم، إن الشمس لا تدور حول الأرض، ولكن الأرض هي التي تدور حول الشمس، وهي في أثناء دورانها هذا تدور حول نفسها مرة في كل أربع وعشرين ساعة، وفي تلك المدة لا ترى الشمس في بلاد اليابان والفلبين وسومطرا فحسب؛ بل ترى أيضا في أفريقيا وأوروبا وأميركا، وكثير من البلاد الأخرى، إن الشمس لا تشرق على بعض الجبال، أو على بعض الجزر، أو على البحار حتى، ولا على أرض واحدة فقط، بل هي تشرق على السيارات الأخرى كما تشرق على أرضنا، ولو أنكم نظرتم إلى السموات فوقكم، عوضا عن أن تنظروا إلى الأرض التي تحت أرجلكم - لاستطعتم أن تعرفوا ذلك كله، ولما تماديتم في الاعتقاد بأن الشمس تشرق عليكم فقط، أو على بلادكم وحدها.» هذا ما قاله ذلك الدليل العاقل الذي ضرب في أنحاء الأرض، وأكثر من رصد السموات العليا.
ولما بلغ الصيني تلميذ كونفوشيوس إلى هذا الحد قال: «وهكذا مسائل الاعتقاد والإيمان، إن الكبرياء والعناد هما سبب الاختلاف بين الناس، كما حصل من اختلاف أولئك القوم في حقيقة الشمس، إن كل واحد في الأرض يريد أن يكون له إله خاص به؛ على الأقل خاص بوطنه وقومه، وكل أمة تريد أن تحصر المعبود الحق في معابدها، وهو الذي لا تسعه السماوات، أيستطيع معبد من المعابد أن يضاهي ذلك المعبد العظيم الذي شاده الله ليوحد الناس ويجمعهم على عقيدة واحدة ودين واحد؟!
إن كل المعابد البشرية شيدت على مثال هذا المعبد الذي هو دنيا الله، إن لكل معبد جرن ماء معموديته وسقفه المعقود ومصابيحه وصوره أو دماه ونقوشه وكتب تشريعه وذبائحه ومذابحه ورهبانه، ولكن في أي معبد من المعابد يوجد جرن للمعمودية يشبه البحر المحيط، وسقف معقود كالسموات، ومصابيح كالشمس والقمر والنجوم؟! وأي رسوم تماثل الأحياء الطافحة قلوبهم بالحب الذين يعاون بعضهم بعضا؟ وأين البركات الكنسية من تلك العطايا الإلهية السهلة الفهم التي يمنحها الله لسعادة الإنسان؟ وأين يوجد قانون ناصع جلي يفهمه كل إنسان مثل ذلك القانون المنقوش في قلوب البشر وضمائرهم؟ وأي ضحية تساوي إنكار الذات الذي يفعله الرجال المحبون والنساء المحبات كل منهما للآخر؟ وأي مذبح يساوي قلب الرجل الصالح الذي يقبل الله الضحية عليه؟ إن قربى المرء من الله تكون بقدر سمو اعتقاده به تعالى، فكلما سما اعتقاد المرء بالله كلما كان أقرب منه وأدنى لتقليد كماله - جل شأنه - والتأسي برحمته ومحبته للإنسان، لهذا يجب أن يمتنع ذلك الذي يرى نور الشمس بأسره مالئا أرجاء الكون عن أن يلوم أو يحتقر الرجل الخرافي الذي يرى في صنمه شعاعا من ذلك النور في نفسه، بل وأن يمتنع أيضا عن لوم أو احتقار الملحد الذي هو أعمى لا يبصر شعاع الشمس مطلقا.»
هكذا تكلم الصيني تلميذ كونفوشيوس؛ فشمل السكوت كل من في النادي، وكان ذلك آخر العهد بينهم وبين المجادلة في الأديان والعقائد.
هوامش
الحكاية الثالثة
كم هو نصيب الإنسان من الأرض؟
نهبط بالقارئ الكريم إلى قرية صغيرة من قرى بلاد الروس، وندخل به إحدى أكواخها؛ حيث يرى سيدتين جالستين على مائدة واحدة تتناولان الشاي وتتسامران، إحدى هاتين السيدتين - وهي الكبرى - حضرية يشتغل زوجها بالتجارة، وقد جاءت لتقضي بضعة أيام مع شقيقتها القروية الجالسة أمامها، وبينما هما في مسامرات لطيفة وحديث شهي؛ أدى بهما الكلام إلى المقارنة بين معيشة أهل الريف، ومعيشة أهل المدن، فاندفعت الحضرية تبين لشقيقتها نضارة الحياة في المدن، وما فيها من الترف والنعيم: في المأكل والملبس والمسكن، ثم عددت لها صنوف الملاهي وضروب الرفاهة التي يتنعمون بها، وتدرجت إلى وصف أماكن اللهو ودور التمثيل والحدائق والمتنزهات العامة التي يغشونها؛ رياضة للنفس، وترويحا للخاطر. كل ذلك وشقيقتها القروية ساكتة لا تبدي ولا تعيد؛ لأن تلك كانت قد أفحمتها بذلاقة لسانها، إلا أنها تمكنت أخيرا من تغيير مجرى الحديث قائلة: «أنا قانعة بمعيشتي هذه البسيطة ولو خيرت بينها وبين معيشتكم لما فضلت سوى ما نحن فيه من بساطة ملؤها السعادة والهناء، لا مراء في أن دخلكم أوفر من دخلنا، إلا أن طراز معيشتكم يتطلب نفقات كثيرة قد تربو على الدخل، ولا يخفى ما في ذلك من سوء العاقبة، فكم من أسر غنية كانت بالأمس ترفل في حلل الرفاهة والنعيم أصبحت اليوم بلا مأوى تسأل الناس قوت يومها فلا تجده، أما نحن القرويين فقل أن يوجد بيننا من يعيش عيشة أهل الثراء، ولكننا لا نعدم قوت يومنا على أي حال.»
فأجابتها الكبرى وقد امتلأت غيظا: «كفى يا عزيزتي، يحق لك أن تقولي ذلك طالما تجدين لذة بمساكنة العجول والخنازير، ما أبعدكم عن محجة اللطف والكمال أيها القرويون! بل ما أبعدكم عن معرفة ما فيه صلاح معاشكم ومعادكم! إنكم تجهدون أنفسكم صغارا وكبارا دائبين في العمل ليلا ونهارا، صيفا وشتاء، ثم تموتون كما عشتم فقراء لا تورثون أولادكم سوى النصب والشقاء.»
فأجابتها الصغرى: «حقا إن ما نحن فيه من العيش جاف، والعمل عندنا شاق، إلا أنه لم يتسرب إلى ربوعنا مفاسد المدنية ورذائلها بعد، وأخلاقنا على سذاجتها خالية من شوائب الأهواء النفسانية؛ ولذا نعيش ما عشنا في هدوء وسلام، ولكن أنتم في مدنكم تعيشون في جو محاط بالمكر والرياء، لا تأمن الزوجة فيه على بعلها، ولا يطمئن الرجل لزوجته، إذا بتم ليلة على وفاق لا تلبثون أن تصبحوا على شقاق، قد يأتي يوم على زوجك فتستغويه إحدى الغانيات - وما أكثرهن في المدن! - فتفقدين إذ ذاك هناءك العائلي، ونعيمك المنزلي، أو يوسوس له الشيطان بمعاقرة بنت الحان؛ فيصبح من مدمنيها؛ فيضل سواء السبيل، أو يسوقه الطمع إلى موائد القمار، وهناك البلية والدمار.»
ثم غيرت المرأتان مجرى الحديث، وخاضتا في حديث آخر خاص بالأزياء، وكانتا قد أتمتا تناول الشاي فقامتا تستعدان للنوم؛ إذ كان النعاس قد أثقل أجفانهما.
أما رب المنزل (باهوم) فكان جالسا على الموقدة يسمع حوار المرأتين طوال تلك المدة، ثم ناجى نفسه قائلا: «حقا إن شقيقة زوجتي على حق في بعض ما تقول، فإنا القرويين نعيش ما عشنا في تعب ونصب، ثم يموت الواحد منا كما عاش دون أن يجني أقل ثمرة من عمله، آه لو كنت أملك قطعة صغيرة من الأرض لكنت الآن هنيء البال، قرير العين، لا أخاف حتى رئيس الأبالسة.»
فسمع حديث نفسه إبليس وكان على مقربة منه، فابتسم ضاحكا وقد عزم أن ينيله بغيته، ثم يورده موارد الهلكة من حيث أطمعه، وكان بينهما بعد ذلك من الحوادث ما سوف تقرأ خبره في الفصول التالية. •••
أصبح باهوم والطمع يقيمه ويقعده، ولا هم له إلا امتلاك أرض يصبح فيها صاحب الكلمة المطلقة؛ يأمر وينهى كما يريد، وكان بالقرب من الأرض التي يزرع فيها حبوبه قطعة فسيحة من الأرض لسيدة من ذوات الأملاك؛ طيبة القلب، لينة العريكة، اعتادت أن تعامل جيرانها باللطف والإنسانية، إلا أنه عرض لها أمر ذو بال ألهاها عن تعهد الأرض بنفسها، فوكلت أمر زرعها واستغلالها لوكيل أشغالها الذي كان على جانب عظيم من الخشونة وقساوة الطبع، فأخذ يذيق ضعاف القرويين جيرانه مر العذاب، ويثقل كاهلهم بالغرامات التي كان يفرضها عليهم من حين لآخر، وقد حرص باهوم كل الحرص على منع أسباب التحكك بجاره الغليظ الطبع، ولكن رغم ما كان يبذله من الاحتياط والتحرز، كانت بعض ماشيته تتسرب إلى المزرعة؛ فيقع بينه وبين الوكيل أخذ ورد ينتهي في الغالب بغرامة يتحملها المسكين طائعا صاغرا.
أقبل الشتاء ببرده القارس، وابيضت ذوائب الجبال، وانكمشت الماشية في زرائبها، فارتاح بال (باهوم) وعاش آمنا في سربه طول فترة الشتاء، ثم شاع في القرية أن السيدة صاحبة المزرعة عزمت على بيع أرضها صفقة واحدة، وتلا هذه الإشاعة خبر مؤداه أن صاحب الفندق القائم على الطريق العالية يساومها في شراء المزرعة، فذعر أهل القرية لهذا الخبر، وتوجسوا منه خيفة؛ لأن صاحب النزل كان أغلظ طبعا من وكيل السيدة، فجمعوا جموعهم وتشاوروا في الأمر، فقر رأيهم على تأليف لجنة تقوم بشراء الأرض، فتألفت اللجنة وأرسلت من قبلها وفدا إلى السيدة المالكة لشرائها، فقبلت السيدة ولم تمانع، إلا أن الشيطان أوغر صدور بعضهم على بعض؛ فتخاذلوا، وفشلوا في مهمتهم، وأخيرا عزموا على شراء المزرعة قطعا، بدل شرائها صفقة واحدة، وأن يساوم كل منهم سيدة الأرض في القطعة التي يروم ابتياعها.
جرى كل ذلك وباهوم ساكت لا يحرك ساكنا، ينظر والها إلى المزرعة وهي تباع قطعة قطعة، إلى أن كان ذات يوم وقد سمع أن أحد جيرانه ابتاع من السيدة قطعة من المزرعة تبلغ الخمسين فدانا، وقد دفع نصف ثمنها نقدا، وتعهد بدفع الباقي أقساطا لمدة سنة، فناجى نفسه يقول: «إلى متى أظل ساكنا والأرض تباع؟!» ثم حدث امرأته بآماله، وقد خاطبها قائلا: «ألا ترين كيف أن أهل القرية يتهافتون على شراء المزرعة ونحن هنا لا نحرك ساكنا؟ كلا؛ إن هذا لا يطاق، يجب أن نسعى في شراء قطعة من الأرض، ولو عشرين فدانا على الأقل، سيما وأن الحياة أصبحت عبئا ثقيلا بمضايقة هذا الفظ وكيل السيدة.»
ثم فكرا كثيرا في الأمر، وتصفحا كل وجوه الرأي، وأخيرا قر رأيهما على الشراء، ولم يكن عند باهوم سوى بضع عشرات من الروبلات، فباع مهرة كانت عنده، وباع كذلك نصف ما لديه من خلايا النحل، وبعض أثاث المنزل، وأجر اثنين من أولاده في إحدى المزارع لمدة عام، وأخذ أجرتهما مقدما، ثم اقترض الباقي من أحد أنسبائه، فتوفر لديه جملة من المال يمكنه بها شراء قطعة صالحة من الأرض، فذهب إلى السيدة وساومها في قطعة من الأرض تبلغ الأربعين فدانا، وفيها أجمة صغيرة، واتفق معها على دفع نصف الثمن فورا، وتعهد بدفع الباقي أقساطا على سنتين، وحرر على نفسه وثيقة بالمبلغ. •••
تمت المبايعة، وسجلت بمحكمة البلدة، ووضع باهوم يده على الأرض، ثم مضى العام وكان المحصول جيدا، فوفى ما عليه من الديون، وبذا أصبح يملك قطعة من الأرض يجول النظر فيها على بقاع فسيحة شتى الألوان كثيرة النماء، وكان كلما مر بأرضه الجديدة رقص قلبه طربا، ونظر إليها بغير العين التي كان ينظر إليها من قبل، فعاش ردحا من الزمن لا يعكر صفو حياته إلا تسرب مواشي الجيران إلى الحقل من حين لآخر، فلولا هذا المعكر لكان هناؤه أتم، إلا أنه احتمل ذلك في مبدأ الأمر، واكتفى بتحذير أصحاب المواشي، غير أن ذلك التحذير لم يجد نفعا، فعمد إلى التقاضي، وأدى به الأمر إلى مشاكل عديدة، أحفظت عليه صدور أهل القرية؛ فأخذوا يعادونه سرا وجهرا، أو يطلقون مواشيهم ترتع في مراعيه عمدا ، بعد أن كانت تتسرب من نفسها على غير قصد، ثم هموا مرارا بإحراق مزرعته وإيصال الأذى إليه بطرق مختلفة؛ مما أدى إلى شدة البغضاء واتساع خرق العداء، وبذا فقد هناءه القديم، وأصبح مشغول البال لا يغمض له جفن، ولا يهنأ له عيش.
وشاع في ذلك الوقت أن هناك أراضي زراعية جديدة عرضتها الحكومة للاستثمار، وأن الناس من جميع القرى يهاجرون إلى تلك الأراضي، ففكر باهوم في نفسه وقال: «فليهاجر من أراد من أهل القرية، أما أنا فلا أبرح مكاني، وسوف أنتهز هذه الفرصة لتوسيع ممتلكاتي، فأشتري بعض الأراضي التي يتركها أصحابها.»
وبينما كان باهوم يمني النفس بهذه الآمال؛ إذ نزل بضيافته قروي كان مارا بعزبته، فأكرم باهوم مثواه، فسأله أين كان، فأخبره القروي أنه كان يشتغل في جهات (الفولجا)، حيث الأراضي التي كانت تستعمر حديثا هناك، وأفضى به الحديث إلى وصفها والإطناب في خصوبتها وجودتها، زاعما أن الشيلم الذي يزرع في تلك الأراضي ينمو حتى يصير طوله أعلى من قامة الفرس، ثم أتم حديثه قائلا: «إن أولياء الأمور هناك يتبرعون بخمسة وعشرين فدانا لكل من أراد استثمار تلك الأراضي الخصبة، وإن رجلا من أهل قرية باهوم حضر تلك الجهات صفر اليدين خالي الوفاض، فأصبح الآن يملك ستة خيول، ورأسين من البقر.»
فقال باهوم في نفسه: «ما الذي يمنعني من هجر هذه البقعة الضيقة إلى تلك البقاع الفسيحة؛ حيث الربح الوافر، والثراء العاجل؟! وإني لأكونن من الحمقى إذا لم أنتهز هذه الفرصة السانحة، ولكن علي أن أتحقق الأمر بنفسي أولا.»
كان الوقت شتاء، فقعد ينتظر أوائل الصيف، حتى إذا حل الربيع كان قد أتم معدات السفر، فركب زورقا بخاريا أقله حتى سمارا، ومن ثم قطع ثلاثمائة ميل على أقدامه، حتى وصل المكان المقصود، فوجد الأرض كما وصفها القروي، وعلم أن الفلاح المستثمر يعطى قطعة لا تقل مساحتها عن خمسة وعشرين فدانا، وأن هناك أراضي أخرى معروضة للبيع، قيمة الفدان منها لا يزيد عن ثلاث روابل، ففرح باهوم بهذا الاستكشاف، وقفل راجعا إلى قريته بعد أن تحقق صدق الخبر، وما وصل إليها حتى شرع في بيع ممتلكاته وتهيئة ما يلزم للمهاجرة هو وأفراد العائلة.
وفي أوائل فصل الربيع سافر إلى مقره الجديد وحط الرحال في قرية كبيرة من قرى تلك الأراضي، وكان حظه منها هو وأولاده خمسة أنصبة، بلغ مجموعها 125 فدانا في جهات متفرقة من القرية التي استوطنها؛ أي أضعاف ما كان يملكه في قريته الأولى، فأصبح لديه حقل واسع، ومرعى فسيح ترتع فيه كثير من الماشية، ثم مضت أيام اشتغل أثناءها باهوم بتخطيط المزرعة، وبناء العزبة، وشراء الدواب اللازمة للعمل؛ ولذا كان في مبدأ هجرته قانعا بحياته الجديدة فرحا بما رزقه الله، إلا أنه ما كاد يتم ما شرع فيه حتى تسلط عليه الطمع ثانيا، فصار ينظر إلى أرضه الجديدة بعين الاستصغار.
زرع في عامه الأول قمحا؛ فكان المحصول جيدا، فطمع في الزيادة، غير أن الأرض لم تسعفه بطلبته؛ لأنها كانت تتفاوت في الخصوبة، فلا تصلح جميعها لزراعة القمح، فعول على إيجار أراض أخرى تصلح لذلك، ففعل، إلا أن ذلك لم يرق في عينه أيضا؛ فكان يشكو من بعد الأرض وصعوبة النقل، ففكر في نفسه قائلا: «لو كنت أشتري قطعة مستقلة خارجة عن نطاق المشروع فأبني عليها ضيعة صغيرة؛ لكان لي من وراء ذلك فوائد جمة.»
وكانت هذه الفكرة ماثلة بذهنه يفكر بها من حين لآخر، ثم سار على هذه الوتيرة وهو يستأجر أرضا ويزرعها قمحا مدة ثلاثة أعوام، وكان الدهر مواتيا له، فربح أرباحا وفيرة؛ لجودة المحصول، إلا أن ذلك كله ما كان ليقلل من طمعه، بل كان يزداد تذمرا كلما فكر في المال الذي يصرفه للمؤاجر، واتفق أن أجر في العام الثالث قطعة من الأرض من بعض القرويين هو وأحد التجار، ثم وقع بينهما وبين أصحاب الأرض منازعات أدت إلى التقاضي، وأسفرت عن خسارتهما؛ فتذمر باهوم وقال في نفسه: «كل ذلك ما كان ليقع لو أن الأرض كانت لي خاصة.»
ومن ذلك الحين أخذ يبحث عن قطعة أرض للشراء ، فأوقعته المقادير في قطعة صالحة أراد صاحبها أن يبيعها عاجلا؛ تخلصا من عسر أحاق به، وكانت الأرض تبلغ مساحتها 1300 فدان، فصلها باهوم بمبلغ 1500 روبل يدفع نصف ثمنها فورا، ويكتب على نفسه وثيقة بالباقي، وقبل أن يتم البيع بأيام مر عليه بعض التجار وطلب منه علفا لفرسه فاحتفى باهوم به ودعاه إلى تناول الشاي معا، وجلسا يتحدثان، فسأله باهوم من أين هو آت، فأخبره أنه آت من أرض بعيدة تابعة لقبائل البشكير؛ حيث اشترى لنفسه هناك ثلاثة عشر ألف فدان من الأرض بمبلغ لا يزيد عن ألف روبل، فدهش باهوم واستزاده الخبر، فقال الرجل: «وما على المرء إلا أن يتودد إلى الرؤساء بهدايا فيمنحونه كل ما يطلب، وقد اشتريت لهم ملبوسا وسجادة وعلبة من الشاي وبعض النبيذ وهدايا أخرى كلفني مجموعها نحو مائة روبل، وبهذه الوسيلة أكرمني الرئيس بأن تنازل عن ثمانية كوبكات في ثمن الفدان الواحد.»
قال ذلك وأخرج صك المبايعة يريه لباهوم وهو يقول: «إن موقع الأرض قريب من النهر، ومما يزيدها أهمية أنها بكر لم تستغل بعد.» فافتتن باهوم بأقوال الرجل ولم يتمالك عن استزادته الحديث والإلحاف عليه بالسؤال، فأجابه الرجل: «إن هؤلاء القوم يملكون من الأرض ما لا يقع تحت حصر ولا عد، وهم على جانب عظيم من السذاجة وبلادة الطبع، ليس للأرض عندهم أدنى قيمة.» فأطبق خاتم الحرص على قلب باهوم وناجى نفسه قائلا: «أنا الآن أملك ألف روبل، فأي شيء يجبرني على شراء قطعة من الأرض مساحتها 1300 فدان، بينما يمكنني شراء عشرة أضعاف هذا المقدار بنفس المبلغ دون أن أثقل كاهلي بالدين؟!» •••
لم يتردد باهوم في الأمر لحظة واحدة، بل ما كاد الرجل يفارق الضيعة حتى كان هو وخادمه على الطريق الموصلة إلى قبائل البشكير؛ ليتحقق الأمر بنفسه، وبعد مسيرة بضع ساعات حط رحاله في إحدى القرى؛ ليشتري صندوقا من الشاي وبعض النبيذ وهدايا أخرى كما أوصاه الرجل، ثم واصل سيره حتى انتهى إلى مكان القبيلة بعد أن قطع مسافة لا تقل عن ثلثمائة ميل ، فوجد الأمر كما وصفه الرجل، ورأى أن القوم يسكنون الخيام بالقرب من مزارع فسيحة يخترقها نهر عظيم، وجل معيشتهم على اللحوم ومستخرجات الألبان، ولا يعنون بزراعة الأرض وغرسها مطلقا، والنساء هن اللواتي يقمن بكل الأعمال، أما الرجال فلا هم لهم إلا الأكل وشرب الشاي والضرب على القيثارة، وكلهم أقوياء البنية صحاح الأجسام، يقضون فصل الصيف باللهو واللعب، ولا يباشرون فيه أي عمل من الأعمال، وهم على درجة عظيمة من السذاجة وبلادة الطبع، ولا يعلمون من الروسية حرفا واحدا، وإنما يتكلمون بلغة خاصة بهم.
ومن عاداتهم الجميلة إكرام وفادة الغريب؛ إذ ما كاد يقع نظرهم على باهوم حتى خرجوا من خيامهم والتفوا حوله صغارا وكبارا يتأملون وجهه، وكان بينهم رجل يتكلم بالروسية، فتوسط بينه وبين قومه وسأله عن قصده، فأخبره باهوم أنه جاء ليصيب عندهم بعض الأرض، ففرحوا بذلك، وأخذوا بيده إلى إحدى الخيام الكبيرة؛ حيث أجلسوه على وسادة وثيرة، وقدموا له أعز ما لديهم من المأكل والمشرب، وبعد الانتهاء من الطعام قام باهوم إلى عربته، وأخرج ما كان لديه من الهدايا، ووزعها عليهم بالتساوي؛ فارتسمت على وجوههم أمارات البشر والسرور، وأخذوا يتكلمون فيما بينهم مدة طويلة، وأخيرا أشركوا الترجمان في الحديث، فالتفت هذا إلى باهوم وقال له: «قد سر القوم من هديتك أيما سرور، ويشكرونك كثيرا على هذا الصنيع، ومن عادتهم إكرام الضيف بكل ما في وسعهم، فاطلب ما تريده منهم لقاء هديتك، فإنهم لا يتأخرون لحظة واحدة عن إسعافك بمرغوبك.» فأجابه باهوم: «جل رغبتي هو أن أصيب عندكم قطعة من الأرض لزرعها واستثمارها؛ لأن الأرض عندكم خصبة للغاية.»
فأخبرهم الترجمان بما يقول، فعادوا إلى حديثهم ثانيا، وكان باهوم يجهل لغة القوم، وإنما رآهم يبتسمون ويضحكون، ثم التفت إليه الترجمان قائلا: «يقولون إنهم سوف يعطونك بكل سرور قدر ما تطلب من الأرض، فما عليك إلا أن تشير بيدك إلى قطعة الأرض التي تريدها لنفسك فتكون لك.»
وما كاد الرجل يتم حديثه حتى قامت ضجة بين القوم، فسأل باهوم عن جلية الأمر، فأخبره الوسيط أن القوم قد انقسموا إلى فريقين: فريق منهم يريد ألا يبت في الأمر حتى يحضر الرئيس، وآخرون يخالفونهم في الرأي. •••
وبينما هم في جلبتهم وضوضائهم؛ إذ برجل ضخم الجثة عريض الأكتاف يلبس قبعة كبيرة من فرو الذئاب قد دخل من باب الخيمة، فوجم القوم وسكتوا كأنما على رءوسهم الطير، وقد قاموا؛ إجلالا لشأن القادم، وإكبارا لأمره، فأخبره الترجمان أن القادم هو رئيس القوم، فقام باهوم مسرعا وأحضر له نصيبه من الهدية وهي خمسة أرطال من الشاي وبعض الثياب النفيسة، فتقبلها الرئيس شاكرا، وجلس في صدر المكان، والتف القوم حوله يحدثونه بشأن باهوم، فأشار إليهم بالسكوت، ثم التفت إليه يخاطبه بالروسية: «أخبرني القوم بشأنك، وما كنت لأرد لك طلبا، فاختر القطعة التي ترضاها لنفسك، فإن لدينا كثيرا من الأرض كما ترى.»
فقال باهوم في نفسه: «كيف أقبل منه ذلك بمجرد القول بلا قيد ولا شرط، ألا يجوز أنهم يندمون في المستقبل فيرجعون ما وهبوه لي من الأرض؟!» ثم خاطب الرئيس قائلا: «أقدم لكم جزيل الشكر على هذا الإكرام، ولكن ألا يجدر بنا أن نستوثق الأمر بحجة أو سند؟ فإن الأعمار بيد الله، والمرء لا يأمل أن يخلد طول الدهر، ألا يجوز أن يأتي بعدكم خلف لا يرضى بعملكم فينازعنا في الأرض؟» فأجابه الرئيس: «إنك محق فيما تقول، وسوف يكون الأمر كما تريد.» فقال باهوم: «بلغني أن أحد التجار اشترى منكم من عهد قريب قطعة من الأرض، وأخذ عليكم عقدا بالبيع، وأنا أحب أن تعاملوني بمثل معاملته.»
فأجابه الرئيس: «حبا وكرامة، عندما يتم الاتفاق نكتب عقدا بذلك، ثم نسجله في محكمة البلدة.»
فسأله باهوم: «وكم يكون الثمن؟» فأجابه الرئيس بقوله: «إن الثمن عندنا محدد لا يتغير، فإننا نأخذ ألف روبل عن اليوم (الكامل).» فلم يفهم باهوم ماذا أراد بقوله: «اليوم الكامل.» فسأله مستفهما: «ماذا تعني باليوم الكامل؟ وكم فدانا يكون؟» فأجاب الرئيس: «نحن لا نستعمل المقاييس في مسح الأرض، وإنما نقدرها بالسير فيها يوما كاملا، وثمن الأرض التي يقطعها المرء مشيا على أقدامه يوما كاملا هو ألف روبل.» ففرح باهوم وصاح قائلا: «ولكنني أقطع في اليوم أرضا كبيرة للغاية.»
فأجاب الرئيس: «كل ما تسير على قدر جهدك يكون ملكا لك، على شرط الرجوع قبل غروب الشمس، فإذا غربت الشمس ولم ترجع تخسر جميع ما تدفعه من المال.» فقال باهوم: «ولكن كيف السبيل إلى معرفة الأرض التي أقطعها؟» فأجابه قائلا: «إن ذلك سهل ميسور؛ عليك أن تختار لنفسك بقعة من الأرض تسير منها، وعند كل ثنية من الأرض تحفر حفرة صغيرة، تجعل بجانبها كومة من التراب بفأس صغير يكون معك لهذا الغرض، وعند الانتهاء نصل نحن تلك العلامات بحراثة دائر في الأرض التي تقطعها في اليوم، ولك مطلق الحرية في أن تسير في الأرض كما تريد، على شرط الرجوع قبل غروب الشمس.»
فارتاح لذلك باهوم، وتقرر أن يبدأ في السير صباح ذلك اليوم، ثم أكملوا يومهم في الحديث والمنادمة حتى إذا أقبل الليل فرشوا له فراشا وثيرا، وتركوه في الخيمة لينام فيها ليلته، بعد أن وعده الرئيس بأن يوافيه صباحا قبل بزوغ الشمس. •••
رقد باهوم طول ليلته وهو يبني لنفسه القصور والعلالي، متقلبا على فراش الأماني والأحلام دون أن يغمض له جفن أو يكتحل بنوم، وقبيل الفجر أخذ التعب منه مأخذه وقد تغلب عليه النعاس، فأخذته سنة من النوم، ثم رأى فيما يراه النائم أن الرئيس أقبل عليه ينتظره على باب الخيمة، فخرج إليه يسأله عن جلية الأمر، فوجد أن القادم ليس الرئيس، وإنما هو الرجل التاجر الذي أرشده إلى أراضي البشكير، فتقدم منه وقد هم أن يسأله متى حضر، وإذا به يرى في وجهه صورة الرجل القروي الذي أقبل إليه في قريته الأولى من جهة الفولجا، فهم أن يصافحه ويترحب به، وإذا به يرى في وجهه صورة إبليس اللعين في شكل بشع ومنظر مريع.
فأشاح بوجهه إلى جهة أخرى، فرأى جثة إنسان ملقاة على مقربة منه، فاقترب من الجثة ليتأمل وجه صاحبها، ولكنه ما كاد يقترب منها بضع خطوات حتى ارتد مذعورا؛ لأنه رأى فيها صورة نفسه، ثم قام من نومه وهو على هذه الحالة ممتقع اللون ترتعد فرائصه فرقا، ونظر إلى باب الخيمة، فلم ير غير حمرة الشفق، فعلم أن ستر الليل أوشك أن يتمزق، فلا يمضي القليل حتى يسفر الصباح عن وجهه، فهب من فراشه وهو يقول: «ما أكثر ما يرى الإنسان في نومه! لا شك أن ما رأيته هو أضغاث أحلام، وها قد قرب الصبح، والقوم نيام بعد.» ثم ذهب مسرعا نحو خادمه الذي كان نائما في العربة، فأيقظه وأمره بالاستعداد، ثم أسرع نحو القوم يوقظهم، فصحا القوم واجتمعوا في خيمته، ولم يلبث أن وافاهم الرئيس، وكانت الشمس قد قاربت البزوغ، فأمر بإحضار طعام الإفطار، وعرض على باهوم تناول بعض الشاي، فأبى قائلا: «لم يبق متسع من الوقت، فلنبدأ بالعمل إن كنا فاعلين.» •••
عند ذلك وقف القوم استعدادا للمسير، ثم ركب بعضهم العربات، وامتطى آخرون متون الجياد، وركب باهوم عربته، وسار في طليعة القوم مع الرئيس، وبعد أن ساروا قليلا، وصلوا إلى تل صغير يشرف على سهل فسيح الأرجاء، وكانت الشمس قد بدأت في البزوغ، فوقف القوم وتقدم الرئيس قائلا وقد أشار بيده إلى السهل: «انظر، كل هذا السهل الفسيح ملك لنا، ولك أن تسير فيه أنى تشاء.» وبعد أن قال ذلك خلع قبعته ووضعها على الأرض قائلا: «فلتكن هذه القبعة علامة لمبدأ سيرك فابتدئ في السير من هنا، ثم ارجع إليها ثانية بعد أن تتم دورتك، وكل الأرض التي تمشي بها تكون ملكا لك.»
ولم يتمالك باهوم من إظهار الفرح والسرور عندما رأى ذلك السهل الفسيح وتيقن أنه خصب يصلح لزراعة كل أنواع الحبوب، ثم أسرع من وقته فوضع ما لديه من النقود - وهو الألف روبل - في قبعة الرئيس، ثم طرح رداءه الخارجي، وشمر عن أكمام قميصه؛ ليكون خفيف الحمل في السير، وتمنطق بسير من الجلد شده على وسطه، وحمل على ظهره حقيبة صغيرة فيها بعض الزاد وما يلزم لشربه ذلك اليوم، ثم أمسك بالفأس والتفت يمنة ويسرة؛ ليختار له وجهة للسير، وبعد أن وقف برهة ناجى نفسه قائلا: «كل الأرض سواء، ولكن يحسن بي أن أسير نحو الشرق.» قال ذلك وحمل فأسه على ظهره، وسار يتبع مشرق الشمس. •••
وبعد أن قطع نحو ألف ياردة وقف قليلا فحفر الأرض، ثم جعل بجانبها كومة من التراب علامة لوصوله تلك البقعة، وكان يمشي مشيته الاعتيادية لا يمهل ولا يعدو، فقطع بذلك ألف ياردة أخرى وجعل علامة أخرى، ثم مشى قليلا ونظر إلى التل حيث كان القوم، فلم يتبينهم جيدا؛ لأنه كان قد ابتعد عنهم كثيرا بمسافة لا تقل عن الثلاثة أميال - كما قدرها باهوم في نفسه، وكان الوقت ضحى، فابتدأ يشعر بحرارة الشمس، فقال في نفسه: «قد قطعت ربع ما يجب أن أقطعه في اليوم، وعلي أن أتم المربع في باقي اليوم، ولكن لا يزال أمامي متسع من الوقت.»
قال ذلك، وخلع نعليه، وربطهما في وسطه؛ ليرتاح في المشي، ثم سار في وجهته الأولى، وكان كلما سار وجد الأرض أخصب والتربة أجود، فقال في نفسه: «إنه من الحمق ترك هذه البقعة الخصبة، ما علي لو سرت ثلاثة أميال أخرى؟!»
فسار فيها وقد جدد الحرص في نفسه همته الأولى؛ حتى أخذ التعب منه مأخذه، فنظر وإذا بالشمس في كبد السماء، فعلم أن النهار قد انتصف، فوقف ريثما جعل علامة لوصوله تلك البقعة ثم جلس للغداء، فأكل بعض الزاد وشرب قليلا من الماء وانتصب واقفا وهو يقول: «يجب أن أسير؛ لأن الراحة تجلب النعاس، وإذا نمت قليلا لا آمن من الخسارة.»
فسار من وقته وقد أراد أن يعطف إلى وجهة أخرى؛ إتماما للمربع، غير أنه أبصر على مقربة منه أرضا منخفضة فقال في نفسه: «هذه الأرض تصلح لزراعة الكتان، وما كنت لأترك هذه الفرصة.» قال ذلك ومشى حولها حتى إذا ما أتم مسيره وقف عند نهايتها، وجعل علامة لوصوله تلك البقعة أيضا، ثم نظر إلى التل فرأى أن حجمه قد صغر جدا، فعلم أنه قطع كثيرا، وأنه إن لم يسرع في الرجوع خسر كل آماله، فأسرع لوقته وهو يقول: «إن الأرض التي قطعتها لا نسبة بين طولها وعرضها؛ إذ إن الطول سوف يربو كثيرا على العرض، ولكن رغم ذلك فقد أصبحت أملك قطعة فسيحة من الأرض.»
ثم وقف برهة يحفر الأرض بسرعة زائدة؛ لتكون علامة وصوله تلك الجهة، وبعد أن أتم عمله انعطف نحو التل يريد الرجوع مسرعا، إلا أن كثرة المشي وشدة الحر أنهكتا قواه، فصار يمشي بصعوبة ويتهادى في مشيته كالشيخ الضعيف بعد أن كان يهرول، أما قدماه فقد تشققتا وسالت الدماء منهما؛ لكثرة ما اصطدم أثناء مشيه بالحجارة والحصى وهو لا يعي، وتخاذلت ساقاه وضعفتا عن حمله؛ إذ كان في حاجة شديدة إلى بعض الراحة، ولكن أنى له ذلك والشمس آخذة في الغروب شيئا فشيئا؟! وكان ما عليه من الحمل يضايقه كثيرا، فرمى حقيبته أولا، ثم نعليه، وخلع بعد ذلك صدرته، وهكذا صار يرمي ما عليه من الملابس حتى لم يبق عليه سوى القميص والسروال.
وأمسك بيده الفأس ليتوكأ عليه، وسار يعدو بكل قواه، واستمر مدة على هذه الوتيرة، ثم نظر إلى الشمس فعلم أنها لا تلبث أن تغرب، ففزع لذلك كل الفزع وقال في نفسه: «رباه، ماذا العمل؟ يخيل لي أن الطمع سيفسد علي كل آمالي.» غير أنه ما لبث أن تشجع قائلا: «عار علي أن أرجع عن عزمي فأتقاعد عن السير بعد أن قطعت هذه الشقة الطويلة.» فجمع نفسه وسار يمشي بكل قوته حتى قارب التل فسمع صياح القوم من بعد؛ فتشجع ثانية وأخذ يعدو بكل ما فيه من قوة وعزم.
وكانت الشمس قد قاربت الغروب فلا تمضي بضع دقائق حتى تختفي عن الأنظار إلى ما وراء الشفق الأحمر، إلا أن باهوم كان في ذلك الوقت على مسيرة بضع خطوات من سفح التل يسمع صياح القوم ويميز أصواتهم ويرى قبعة الرئيس، عند ذلك تذكر ما رآه في الحلم، فقال في نفسه: «حقا إن الأرض التي قطعتها فسيحة الأرجاء بعيدة المدى، ولكن هل كتب لي في لوح المقدور أن أعيش عليها؟!» ثم عاد فتذكر أنه على قيد خطوات من مبدأ مسيره، وأنه ما عليه إلا أن يجمع عزيمته ثانية فيصل إليها ويملك الأرض.
فجددت هذه الأماني في نفسه ميت الأمل، فسار طورا يتهادى كالشيخ الضعيف، وتارة يحبو كالطفل الرضيع حتى وصل سفح التل، عند ذلك نظر وإذا بالشمس قد غربت وأصبح السهل في ظلام حالك، فتقطعت نياط قلبه وصاح يقول: «أواه قد ذهبت أتعابي أدراج الرياح.» إلا أن القوم لم ينقطعوا عن صياحهم وندائهم، فتذكر أن مكانهم أعلى من مكانه؛ لأنه ما زال في سفح التل، وأن الشمس لا تزال ظاهرة لديهم، فتنفس الصعداء، وجمع كل ما لديه من قوة وعزم، وأخذ يصعد التل، فوصل القمة وكانت الشمس لا تزال ظاهرة لديهم، ثم عاد فتذكر ما رآه في الحلم، فصرخ صرخة مزعجة وارتمى على الأرض بالقرب من قبعة الرئيس وقد وضع يده عليها.
فقال الرئيس: «إنه سعيد الحظ؛ فقد أصاب قطعة كبيرة من الأرض.» ثم أسرع خادم باهوم ليرفعه عن الأرض، ولكنه ما كاد يرفعه قليلا حتى سال الدم من فمه وارتمى على الأرض جثة هامدة، فوجم القوم وأطرقوا برءوسهم إلى الأرض وقد ارتسمت على وجوههم أمارات الكآبة والحزن.
وقام خادم باهوم فحفر لسيده قبرا يبلغ طوله ستة أقدام، وكان ذلك كل نصيبه من الأرض.
الحكاية الرابعة
ابن العراب
بسم الدهر ذات صباح لقروي فقير فرزق طفلا فرح به فرحا شديدا وعلق عليه آمالا كبيرة، وأسرع لوقته نحو جاره العزيز مستبشرا فأخبره بالأمر، وطلب منه أن يكون عرابا للطفل، ولكن جاره العزيز أنف من ذلك، ورده خائبا، فانصرف المسكين يتعثر بأذيال الخيبة والفشل، وقصد جاره الثاني، فالثالث، ثم الرابع، وهكذا، حتى طرق أبواب القرية على غير جدوى، لا لذنب أتاه أو لجرم اقترفه سوى أنه فقير معدم.
أظلمت الدنيا في وجهه أثر هذه الصدمة الشديدة، فسخط على الدهر وتبرم من جده العاثر، ثم خرج من قريته موليا وجهه شطر القرية المجاورة؛ بغية أن يجد فيها من لا يأنف من أن يكون عرابا لمولود فقير، فسار المسكين (في طريقه) تتناوبه الأحزان، وتتقاسمه الهموم والأشجان، لا يلوي في طريقه على شيء.
وما كاد يبلغ نصف الطريق حتى استوقفه رجل طارحه السلام وسأله عن وجهة مسيره، فأخبره بما وقع له ذلك اليوم، ثم ختم حديثه قائلا: «وإني الآن ذاهب إلى القرية المجاورة عساني أجد رجلا لا يأنف من أن يكون عرابا لطفلي.» فابتسم الرجل المجهول، وقال: «أنا أكفيك مئونة البحث والتعب، دعني أكون عرابا لولدك.» ما سمع القروي المسكين هذه الكلمات التي نزلت على قلبه بردا وسلاما حتى تهلل وجهه بالبشر، وتمتم بعض كلمات يشكر بها معروف الرجل، ولكن عاد فعبس ثانية كمن تذكر أمرا فاته، فقال وصوته يتهدج حزنا: «آه يا مولاي لم تنفرج الأزمة بعد، قل لي بربك، أين أجد امرأة طيبة القلب نظيرك تقبل أن تكون عرابته؟» - «لا تحزن يا صاح، فأنا أرشدك إلى امرأة صالحة تقبل ذلك عن طيب خاطر، اذهب إلى المدينة، وهناك في الساحة العمومية تجد منزلا مبنيا بالآجر، في مدخله حانوت، فاسأل عن صاحب هذا الحانوت، وعندما تقابله أخبره بالأمر، واطلب منه أن تكون ابنته عرابة لولدك، فإنه لا يردك خائبا.»
فهز القروي كتفيه بيأس كمن يرتاب في أمر لا يرجوه، ثم خاطب الرجل قائلا: «أمثلي يطلب من تاجر غني أن تكون ابنته عرابة لابني؟! لا ريب في أنه سوف يهزأ بشأني ويزدريني إذا تجاسرت على مثل هذا الطلب.»
فأجابه الرجل بملء السكينة: «لا تدع اليأس يتطرق إلى فؤادك، بل كن واثقا بأنه سيجيب طلبك، فأسرع يا عزيزي قبل فوات الوقت، وغدا صباحا تجدني حاضرا في حفلة التنصير.»
فقفل القروي راجعا إلى قريته، وامتطى فرسه وقصد المدينة يبحث عن حانوت التاجر، وعندما اهتدى إليه وترجل عن فرسه قابله التاجر بوجه باش وسأله عن حاجته، فأجابه والخجل يكاد يعقد لسانه: «اعلم يا سيدي أنه ولد لي في هذا الصباح طفل، وقد جئت أرجوك أن تتفضل بأن تكون ابنتك عرابته.» فسأله التاجر : «ومتى تكون حفلة التنصير؟» - «غدا صباحا.» - «حسن، سوف تكون ابنتي عندك غدا، فاذهب مطمئن البال.»
وفي اليوم الثاني حضر الرجل المجهول وحضرت ابنة التاجر، وبعد أن أتم الكاهن تنصير الغلام انصرف الرجل المجهول ولم يعلم عنه شيئا بعد ذلك اليوم. •••
مضت أيام وشهور كبر أثناءها الطفل وترعرع، فأدخله والداه مدرسة القرية، فتعلم فيها كل ما يمكن أن يتعلم، وخرج منها شابا متين العضل، قوي البنية، تلوح على وجهه أمارات الجد والإقدام.
جاء عيد الفصح فأشرقت منازل القرية وأكواخها بالأنوار، وخرج القرويون زرافات ووحدانا وعلى وجوههم سيماء البشر وأمارات السرور، أما طفل الأمس وفتى اليوم فكان يسير وحيدا منفردا مبتعدا عن الضجيج، يفكر في عرابه المحبوب؛ ذلك الرجل الطيب القلب الذي رضي بكل ارتياح أن يكون عرابا له في الوقت الذي أنف أهل قريته من هذا الأمر، ثم ناجى نفسه قائلا: «آه لو استطعت مقابلة ذلك الرجل الطيب؛ إذن لكنت أوقف كل حياتي على خدمته واحترامه.»
ما كاد يصل من حديث نفسه إلى هذا الحد حتى التفت إلى يمينه، وإذا به يرى شيخا يدب على عصاه، تلوح عليه الهيبة والوقار، وكان يدنو منه باسما وهو يقول: «تقدم يا بني ولا توجل، أما كنت منذ هنيهة تحدث نفسك مستفهما عن مقر ذلك الرجل الذي رضي أن يكون عرابا لك في طفولتك؟ فهذه المقادير جمعتك به لتقدم له تحية عيد الفصح.»
وعند ذلك ارتبك الشاب لهذه المباغتة، ولكنه سرعان ما تمالك نفسه وتقدم إلى الرجل باسما وشكره على معروفه السابق، وقدم له تحية العيد بأن قبله ثلاثا كما هي العادة، ثم خاطبه قائلا: «كم أكون مسرورا يا سيدي إذا شرفتني بمعرفة اسمك ومكان إقامتك لأقوم نحوك بما يجب للابن نحو عرابه!» - «لا سبيل إلى معرفة اسمي؛ إذ لا يهمك ذلك، وأما إذا رغبت أن تعلم مكان إقامتي فما عليك إلا أن تذهب غدا إلى هذه الغابة المجاورة وتمشي فيها، حتى ينتهي بك المسير إلى ساحة صغيرة محاطة بالأشجار الباسقة، فتقف في ذلك المكان قليلا تتأمل ما حولك، فترى طريقا ينتهي بك إلى قصر شاهق تحيط به حديقة غناء؛ هذا هو منزلي، وفي فناء هذا القصر تجدني في انتظارك.»
وما وصل الرجل من حديثه إلى هذا الحد حتى رفع الشاب رأسه ليتأمل وجه عرابه جيدا، وإذا به لا يرى أمامه سوى الحقول الخضراء، وعلى بعد منه يسمع ضجيج أهل القرية في سرورهم وابتهاجهم بالعيد، فقفل راجعا وهو كمن في حلم لا يصدق ما رآه، وأزمع المسير إلى الغابة صباح ذلك اليوم؛ ليتأكد صحة ما سمعه ورآه. •••
ما كادت الشمس تشرق حتى كان الشاب في طريقه إلى الغابة يعدو في مشيته ونفسه تنزع إلى معرفة سر الرجل، حتى إذا انتهى به المسير إلى الساحة التي وصفها له عرابه وقف يتأمل برهة، فرأى طريقا غاية في الإبداع تحف به الأشجار على كلا الجانبين، وينتهي بقصر شاهق محاط ببستان جميل يتلألأ في تلك البقعة النضرة تلألؤ الكوكب المنير.
عند فناء هذا القصر البديع قابله عرابه بوجه باسم ومشى به إلى الحديقة أولا ثم القصر ثانيا متنقلا به من جهة لأخرى، يريه مقاصير القصر، ويطلعه على محتوياته، وكان كلما مشى خطوة زاد تعجبه من محتويات القصر وفرشه الثمين، إلى أن انتهى بهما المسير إلى غرفة مقفلة فوقف العراب أمامها وأشار إليها قائلا: «قد انتهينا الآن من طوافنا، وقد أطلعتك على كل ما في القصر، ولك أن تمرح فيه كيف تشاء وأنى شئت، ولكن حذار أن تدخل هذه الحجرة.»
وما كاد العراب يفرغ من كلامه هذا حتى اختفى عن الأنظار، ولم يظهر له أثر بعد ذلك، فقضى الشاب ردحا من الزمن وقد طابت له السكنى في القصر، فعاش هنيء البال، قرير العين مدة تقرب من الثلاثين عاما مرت عليه كحول واحد؛ لاغتباطه وسروره.
مرت عليه تلك المدة الطويلة وهو في مقام كريم وعيشة راضية، ثم تسرب إليه الملل شيئا فشيئا، فصار يطوف القصر طول يومه يبحث عن شيء جديد يسلي به النفس، وإذا به واقف ذات يوم أمام الغرفة المقفلة ، ثم تذكر وصية عرابه فتنازعه عاملان: عامل الفضول، وعامل احترام الوصية.
وأخيرا تغلب عليه الفضول؛ ففتح الباب، ثم ولج الغرفة، وتقدم فيها بضع خطوات، فرأى نفسه في بهو فسيح يتوسطه عرش كبير، يصعد إليه المرء ببضع سلمات، فتقدم نحوه ورقيه ثم جلس يتأمل ما حوله، فوقع بصره على صولجان بديع الصنع بالقرب منه، فمد إليه يده ليمسكه، وما كاد الصولجان يستقر بين أصابعه حتى سمع ضجة وجلبة، وإذا بأركان الغرفة تهتز، ثم ارتفع جدران البهو، فنظر، وإذا به يرى العالم أجمع منبسطا أمامه وهو ينظر إليه من عل.
نظر أمامه فرأى البحار والمحيطات تمخر فيها المراكب، وتشق عبابها السفن، ثم التفت يمنة فأبصر عوالم غريبة وأجناسا مختلفة من البشر يخالفونه في الشكل واللباس، ثم أدار وجهه إلى جهة أخرى فرأى أناسا يقاربونه في شكلهم ولباسهم يتكلمون بلغة يفهمها، فعلم أنهم روسيون مثله؛ فتهلل وجهه، وحدثته نفسه أن يبحث عن أهله وقريته بين مئات القرى.
وما كاد يهتدي إليها حتى خطر بباله أن يتفقد حقل والده، فصوب نظره نحو الحقل، فرأى أكداس الحصيد منتشرة في طول الحقل وعرضه على أهبة النقل، ثم أبصر رجلا يتسلل إلى الحقل بعربته، فظن أن والده جاء ليلا ليحمل الغلال إلى مخازنه، ولكنه لم يكد يتبينه حتى علم أنه (واسيلي كوندارتشوف) جاء متسترا بأثواب الليل ليسرق بعض القمح، وعند ذلك انتفض الشاب غضبا وصاح بأعلى صوته: «قم يا أبت؛ فإن اللص يسرق القمح من مزرعتك.» وكان الوالد إذ ذاك نائما على بعد من المزرعة، فقام من فوره ينفض عن نفسه غبار النوم ويناجي نفسه قائلا: «قد نبهني صوت هاتف يقول إن لصا يسرق الحنطة من الحقل، فسوف أذهب إلى هناك لأتحقق الأمر بنفسي.» قال ذلك وامتطى فرسه، ثم أسرع للحقل، وهناك رأى اللص (واسيلي) فأمسك بخناقه وساقه إلى السجن.
عند ذلك اطمأن بال الابن وصوب نظره إلى مدينة القرية؛ ليتفقد حال عرابته ابنة التاجر، فعلم أنها تزوجت من رجل تاجر، ثم نظر فرآها نائمة ورأى زوجها قد قام إلى الباب متسللا، ثم خرج يمشي في طرقات المدينة ليلا، فأتبعه النظر فرآه قد دخل عند امرأة أخرى علم أنها خليلته ذهب إليها في تلك الساعة من الليل ليخون امرأته، فاستفزه الغضب لهذا الأمر وصاح بعرابته ينبهها قائلا: «ألا انتبهي أيتها الغافلة؛ فإن زوجك يسلك طريق الغواية.» فقامت المرأة من نومها فزعة وتلمست مكان زوجها فلم تجده، فتحققت صدق قول الهاتف، فلبست ثيابها مسرعة، وذهبت تبحث عنه، إلى أن اهتدت إليه وهو بين أحضان خليلته، فشب بينه وبينها عراك عنيف، ورجعت إلى بيتها مغضبة بعد أن أوسعت زوجها شتما وتوبيخا.
عند ذلك اطمأن بال الشاب، وخطر بباله أن يتفقد حال أمه، فصوب نظره نحو البيت، فأبصر لصا يحاول كسر الصندوق الذي اعتادت أمه أن تضع فيه أمتعتها، ووجد أمه نائمة بالغرفة المجاورة، ثم نظر فرآها قد استيقظت على أثر صوت الكسر، ورأى أن اللص قد أمسك بيمينه فأسا يريد أن يهوي به على رأس أمه ليقتلها، فلم يتمالك الولد أن هوى بالصولجان على رأس اللص، فوقع لساعته قتيلا، عند ذلك اهتز أركان العرش وسمع صوت الجدران تنزل ثانية، ثم نظر، وإذا بالغرفة قد عادت كما كانت، وبعد برهة فتح الباب ودخل عرابه متقدما نحو العرش، فأخذه بيده وأنزله منه وهو يقول: «هاأنذا أراك قد خالفت أمري، وارتكبت معصية الدخول إلى الغرفة مع تحذيري إياك، ثم أتبعتها بخطيئة أخرى عندما علوت العرش وتداخلت فيما لا يعنيك، وأخيرا ختمت هاتين المعصيتين بجرم أفظع؛ إذ قتلت نفسا بشرية، ولو تسنى لك أن تمكث هنا نصف ساعة أخرى لكنت تتلف نصف العالم.»
قال الرجل هذا القول وأمسك بيد الشاب وقاده ثانية إلى العرش وقبض بيده على الصولجان فارتفع الجدران ثانية وانكشف العالم أمامهما مرة أخرى، ثم أشار العراب بيده قائلا: «انظر ماذا قدمت لوالدك من إساءة كنت تظنها مكرمة، ها هو واسيلي اللص قد أمضى سحابة عامه بين جدران السجن مهد الشر والموبقات، فازداد غلظا وشراسة، وكانت فاتحة شروره بعد خروجه من السجن أن سرق فرسين لوالدك، وها هو الآن يضرم النار في أجران القمح؛ انتقاما لنفسه من أبيك، كل هذه المصائب أنت السبب في جلبها لأبيك.» فنظر الشاب أمامه فرأى أكوام القمح تحترق، فهلع قلبه اضطرابا، ولم يتمكن من إدامة النظر؛ لأن العراب التفت إلى جهة أخرى وأشار قائلا: «انظر، ها هو زوج العرابة مضى عليه عام بعد هجر زوجته ولم يقلع بعد عن شروره وآثامه، أما خليلته فقد زادت انغماسا في شهواتها، وها هي عرابتك تندب سوء حظها، وتقضي ليلها تعالج همومها بالمسكرات؛ بغية أن تجد الصبر والسلوان، فهل رأيت صنعك لعرابتك؟! والآن انظر لترى ما قدمته يداك لأمك المسكينة.» فنظر، وإذا به يرى والدته في كسر دارها قد أثقلت ظهرها الهموم وهي تقاسي الأمرين من تبكيت الضمير، وتندب حظها قائلة: «ويح نفسي! ما أشقاها! لقد كان الأولى بي أن يقضي علي اللص في تلك الليلة المشئومة من أن يحملني تلك الخطيئة.»
ثم أشار إليه عرابه أن انظر، فنظر، وإذا به يرى دار السجن وأمامها ثلة من الجنود، فقال له: «أترى هذا الرجل؟ إنه سفك دماء عشرة من الأبرياء، وكان لا محيص له من أن يكفر عن سيئاته بنفسه، ولكنك عجلت عليه بالقتل، فحملك جريرة دمه ودم الذين جار عليهم بالقتل، فهل رأيت الآن نتيجة عملك وما جلبته لنفسك بطيشك ونزقك؟! أمامك الآن ثلاثون عاما تقضيها في هذا العالم تضرب بقدمك في فسيح أرجائه، وتعمل جهدك على تكفير ذنبك، وإذا لم تتمكن من تكفير ذنوبك قبل انقضاء هذه المدة تنال من الجزاء ما كان سيناله هذا اللص.» فسأله الشاب وقد أكمد لونه وارتسمت على وجهه علامات الخوف والجزع: «بربك قل لي كيف أكفر ذنوبي؟»
فأجابه: «ذلك ميسور لك إذا تلافيت من شرور هذا العالم بالقدر الذي جلبته إليه، وبذلك تكفر عن خطئك وخطايا اللص معا.» - «وكيف السبيل إلى محو الشر من العالم؟!» - «أنا مرشدك إلى ذلك، قم الآن وسر في الأرض نحو المشرق، وبعد مسير بضعة أيام تصل إلى مزرعة فيها بعض رجال فراقب ما يعملون، ثم أخلص لهم النصح بما تعلمته في سفرك، وأتم مسيرك نحو المشرق أيضا إلى أن ينتهي بك المسير إلى غابة كذا، وفيها تجد كهفا يسكنه شيخ معتكف، فقص على هذا الشيخ كل ما تراه وتتعلمه في طريقك إليه، فهو مرشدك إلى ما يكون فيه تكفير ذنبك - إن شاء الله.»
وبعد أن ودع الشاب عرابه سار يتبع مشرق الشمس كما أمره وهو يناجي نفسه بهذه الأقوال: «كيف يتسنى لي محو الشر من هذا العالم؟ وكيف يستطيع المرء ذلك دون أن يتحمل خطايا البشر؟ وهل لأدواء الإنسانية وشرورها علاج غير ذلك؟» أخذ يفكر في ذلك طول طريقه عله يجد حلا لهذه المشكلة، ولكن على غير جدوى، وكان قد وصل إلى مزرعة كبيرة، ورأى القمح فيها ناميا، وقد طالت سوقه ولم يبق على حصده إلا القليل، ثم لمح على بعد منه عجلا صغيرا يعدو في الحقل، وقد طار وراءه بعض الرجال يطاردونه بغية إخراجه من الحقل قبل إتلاف سوق القمح، ثم رأى في الطرف الآخر من المزرعة امرأة تعول وتصيح قائلة: «يا للداهية! إنهم سوف يقتنصون العجل فلا يلبث أن يقع صريعا بين أرجل جيادهم.» عند ذلك ناداهم ابن العراب بقوله: «ما هذا الحمق؟! تنحوا عن العجل ودعوا المرأة تناديه فلا يكبح جماحه غيرها.»
فأصغى الرجال لقوله وتنحوا عنه واقتربت المرأة من الحقل تنادي عجلها بقولها: «إلي يا (براوني)، إلي يا عزيزي الصغير.» فوقف العجل قليلا يرهف أذنيه نحو الصوت، ثم ما لبث أن عدا نحوها وارتمى في أحضانها فرحا.
فاغتبط الرجال وفرح العجل، وعلى هذه الصورة الجميلة انحل المشكل، ففكر الشاب في نفسه يقول: «حقا إن الشر لا يعالج بمثله، وقد دلني الاختبار أن الناس يزيدون نار الشر اضطراما كلما حاولوا إخماده بالجبر والعسف، ها قد أطاع العجل سيدته باللين واللطف، ففكر في ذلك طويلا دون أن يهتدي إلى حل معقول، وكان قد ترك الحقل متمما مسيره حتى وصل إلى قرية صغيرة، وما كاد يصل آخر القرية حتى أخذ التعب منه مأخذه، فتلفت يبحث عن مكان يرتاح فيه ليلته، فرأى منزلا صغيرا في آخر القرية، فسار إليه وطلب أن يؤذن له بالمبيت تلك الليلة، فاستقبلته صاحبة المنزل بالترحاب وأجلسته بالقرب من الموقدة ليستدفئ، ثم أخذت تتمم ما كانت فيه من تنفيض أثاث المنزل وترتيبه، وكانت قد أتمت كل عملها تقريبا، ولم يبق عليها إلا تنظيف مائدة الأكل؛ استعدادا ليوم الأحد، فمسحتها مسحا جيدا، ثم أحضرت خرقة قذرة تريد تنشيفها، وما كادت تضع الخرقة على المائدة حتى اتسخت ثانية، فأعادت غسلها ورجعت تنشفها بالخرقة عينها فاتسخت مرة أخرى.
وكان ابن العراب يراقب عملها بكل انتباه، وأخيرا لم يتمالك من أن يقول لها: «ماذا تصنعين يا سيدتي؟» فأجابته: «ألا تراني أستعد للغد، وقد أتممت كل عمل إلا هذه المائدة، فقد أعياني أمر تنظيفها.» فأجابها: «عبثا تحاولين يا سيدتي تنظيف المائدة بتلك الخرقة القذرة، إنما يجب تنظيف الخرقة أولا ثم تمسحين بها وهي نظيفة.» فامتثلت لقوله وتم الأمر كما تشتهي السيدة، فشكرته على نصيحته، وعند الصباح شكر حسن ضيافتها وسار في قصده حتى انتهى إلى غابة رأى عند مدخلها بضعة رجال يصنعون إطار العجلات، وعندما اقترب منهم رآهم يدورون حول قطعة من الخشب دون أن يتمكنوا من إحنائها، فنظر إلى قطعة الخشب، فرأى أنها غير ثابتة في الكتلة التي يدورون حولها.
فكانوا كلما داروا دار الخشب معهم، فتقدم منهم الشاب وطارحهم السلام، ثم سألهم عما يصنعون، فأجابوه: «ألا ترى أننا نضع إطارا للعجلات، وكثيرا ما حاولنا إحناء هذه القطعة، ولكن على غير جدوى.» فأجابهم بقوله: «كان عليكم أن تتأكدوا من ثبات الخشب في الكتلة أولا، ثم تشرعون في العمل؛ وإلا تدور معكم كما تدورون.» فعملوا بإشارته وتم الأمر على أحسن حال.
وأمضى الشاب ليلته معهم، وعند الصباح قام يضرب بقدميه على الأرض ثانية حتى وصل إلى كلأ من الأرض فيه بعض الرعاة وقد انتشرت مواشيهم ذات اليمين وذات الشمال، فاقترب منهم فرآهم يحرقون بعض الأعشاب؛ بغية إضرام النار ، ولكن النار ما كانت لتشتعل حتى كانوا يرمون عليها بعض الأعشاب الندية فتخمد لوقتها، ثم أعادوا العمل بنفس الطريقة فأصابهم من الفشل ما أصابهم في المرة الأولى، فتقدم إليهم الشاب قائلا: «أراكم أيها الرفاق تستعجلون بوضعكم الأعشاب الندية قبل شبوب النار، وإنما عليكم أن تنتظروا ريثما تشب النار تماما فتضيفوا إليها قدر ما تريدون من العشب.»
فعملوا بإشارته وتركوا النار حتى شبت تماما ثم أضافوا إليها أعشابا أخرى فاشتعلت واستخدموها فيما يريدون، ثم أقام الشاب بينهم ريثما استراح، وقام يتمم مسيره ثانية مفكرا في كل ما صادفه في طريقه وهو يحاول أن يجد له معنى ولكن لم يهتد إلى شيء.
وفي اليوم التالي وصل إلى أجمة أخرى، وفيها أبصر الكهف الذي يسكنه الراهب المعتكف، فضرب عليه الباب، فسمع صوتا ضعيفا يقول: «من هذا الواقف على الباب؟»
فأجابه الشاب: «رجل مجرم أثقلته ذنوبه فجاء يكفر عنها.»
ففتح الباب وخرج منه شيخ عجوز أحنت الأيام قوس ظهره، وسأله عن جلية أمره فأفضى إليه الشاب بكل ما وقع له في بيت عرابه، وأخبره كذلك بما رآه في المزرعة؛ حيث كانت الرجال تطارد العجل، وكيف نصحهم، ثم ختم حديثه قائلا: «ومن ذلك الوقت علمت أن الشر لا يدفع بالشر، ولكن لم أهتد حتى الآن إلى الطريقة المثلى التي يجب اتباعها لدفع الشر، فهل لك يا سيدي أن ترشدني لذلك؟»
فأجابه الراهب: «امض في حديثك يا بني وأخبرني بما رأيته أيضا.»
فعاد الشاب إلى حديثه وحكى له ما رآه في بيت المرأة، وقص عليه أمر الرجال الذين كانوا يصنعون إطار العجلات، ثم أخبره بما وقع له مع الرعاة.
كل ذلك والراهب مطرق برأسه يصغي إليه جيدا، وعند انتهاء الحديث دخل إلى كهفه، وعاد ثانية وبيده فأس صغير كالذي يستعمله الحطابون، ثم قاده إلى وسط الأجمة وأشار إلى شجرة هناك، ثم قال: «اقتلع هذه الشجرة من أصولها ثم اقطعها بالفاس إلى قطع ثلاث.»
ففعل ابن العراب كما أمره الراهب، وعند انتهاء العمل ذهب الراهب إلى كهفه ورجع إليه بقطعة خشب مشتعلة وأمره أن يحرق بها القطع الثلاث حتى تصير كل منها كالفحمة السوداء، وبعد أن فعل ذلك أيضا أمره بغرس القطع المحروقة في الأرض حتى النصف.
وعند انتهائه من العمل وضع الراهب يده على كتف الشاب وخاطبه بقوله: «أترى هذا النهر الصغير عند سفح الجبل؟ عليك أن تنقل منه الماء بفمك لسقي هذه الأعواد الثلاث، اسق العود الأول كما علمت المرأة، وأسق الثاني كما أشرت على صانعي العجلات، والثالث كما أشرت على الرعاة، واستمر على سقيها وتعهدها حتى ترى أن هاته الأعواد الثلاث تنمو وتينع وتصبح كل منها شجرة تفاح صغيرة، عند ذلك تكفر عن خطيئتك، وتعلم في الوقت نفسه كيف يمكن اقتلاع بذور الشر من جوانب الإنسان.»
وعندما انتهى الراهب من حديثه قفل راجعا إلى الكهف وترك الشاب غارقا في بحار التفكير يضرب أخماسا لأسداس، ويقلب وجوه الرأي عساه يهتدي إلى معنى لكل ما رآه، وأخيرا لم ير بدا من إطاعة أمر الراهب إطاعة عمياء كما أوصاه عرابه، فصار ينقل الماء بفمه ويسقي الأعواد طول يومه حتى أعياه التعب وأخذ منه الجوع كل مأخذ، فسار إلى الكهف ليطلب منه ما يسد به الرمق، ولكنه ما كاد يدخل الكهف حتى رأى الراهب جثة هامدة، فهاله الأمر وأسقط في يده لا يدري ما يصنع.
وأخيرا تمالك روعه، وأخذ ينقب في أطراف الكهف حتى إذا أصاب شيئا من الخبز الناشف أكله ونام ليلته بالقرب من جثة الراهب، وعند الصباح قام إلى فأسه وحفر قبرا للراهب بالقرب من الكهف، وبينما هو في عمله رأى جمعا من الناس جاءت لتزور الراهب ومعهم بعض الزاد كعادتهم، فأخبرهم بموته، فأسفوا عليه وعاونوه بدفنه في الحفرة التي أعدها له من قبل، ثم ودعه الحاضرون بعد أن تركوا ما معهم من الزاد، وقد وعدوه بزيارته من حين لآخر كما كانوا يزورون ساكن الكهف سلفه.
ومن ثم اشتهر أمره بين سكان الجهات المجاورة للغابة بأنه لا ينفك عن نقل الماء بفمه من النهر حتى الكهف ؛ رياضة للنفس، وكبحا لجماح الهوى، فتقاطروا إليه من كل صوب للتبرك به ومعهم كثير من الهدايا الثمينة، فكان يبقي لديه الضروري منها ويوزع الباقي على الفقراء والمساكين، وكان يمضي نصف يومه في نقل الماء وسقي الأعواد، والنصف الآخر في استقبال زواره العديدين.
مضى عليه حولان لم ينقطع أثناءهما يوما واحدا عن نقل الماء وسقي الأعواد، ولكنها كانت على حالها السابق لم تتغير مطلقا، وبينما كان ذات يوم جالسا في كهفه سمع وقع حوافر جواد وصوت إنسان يغني، فقام إلى الباب ليستطلع الأمر، وإذا به يرى شابا مفتول العضل، عليه سيما الشراسة والشر، فسأله ابن العراب عن نفسه، وعن وجهة قصده، فأجابه الرجل وقد أمسك بزمام فرسه يوقفه: «أنا لص أقطع الطريق على الناس، وكلما قتلت إنسانا كلما ازددت ابتهاجا، فأردد على الدوام الأناشيد التي تردد صداها هذه الجبال.»
ففكر ابن العراب في نفسه يقول: «هذا رجل قد جبل على الإجرام، وطبع على محض الشر، فكيف السبيل إلى إرشاده؟ إنه من السهل إرشاد أولئك الذين يأتون إلي بمحض إرادتهم يعترفون لي بذنوبهم، ويطلبون الصفح والغفران، ولكن كيف الطريق إلى نزع ما كمن في نفس هذا اللص من الشر وهو يفتخر بذنوبه ويتيه عجبا بما يقترفه من الآثام؟!» ثم فكر ثانية وقال في نفسه: «رباه كيف العمل؟ فقد يأوي هذا اللص إلى جهة قريبة من الكهف فيوقع الرعب في قلوب زائريه، وبذلك تضيع الثمرة، فلا أدري كيف أعيش بعدها.» ثم التفت إلى اللص وخاطبه قائلا: «اعلم يا هذا أن الناس يحضرون عندي يلتمسون التوبة والغفران باعترافهم عن ذنوبهم، فلا يفتخرون بها مثلك، فأقلع أنت أيضا عن شرورك وآثامك والتمس التوبة قبل فوات الفرصة إن كنت ممن يخافون الله، وإن لم تك ثمة ندامة في قلبك فلا تقترب هذه الجهة؛ لأن ذلك يوقع الرعب في قلوب الذين يفدون علي، فإن لم ترعو فإن الله كفيل بعقابك.»
فأجابه اللص: «أنا لا أخاف الله ولا أصغي لهذيانك؛ إذ ليس لك علي أقل سلطان، أنت تعيش بزهدك ، وأنا أعيش باللصوصية، فكلانا يعمل ليعيش، وإذن فالغاية واحدة وإن اختلفت الواسطة، وحري بك أن تدخر ما في نفسك من النصائح للعجائز اللواتي يحضرن مجلسك، أما أنا فلا أخدع بزخارف الأقوال، ولكن بما أنك ذكرتني بعقاب الله فلا يشرق صباح الغد حتى أكون قتلت نفسين ذكرى لهذه النصيحة، وكان بودي أن أقتلك، ولكن لا أريد ذلك الآن، والويل لك إن اعترضت طريقي بعد اليوم.»
ما كاد اللص يتم حديثه ووعيده حتى لوى عنان فرسه وغاب عن الأنظار، ولم يسمع له خبر بعد ذلك، فأقام ابن العراب في كهفه ثمانية أعوام أخرى في هدوء وسلام. •••
جلس ابن العراب في كهفه ذات مساء بعد أن فرغ من سقي الأعواد كعادته مترقبا قدوم زائر، ولكن لم يحضر إليه أحد ذلك المساء، فاكتأب لذلك واستولت على نفسه الهموم والأحزان، وأخذ يفكر في معيشته الجديدة في الكهف، ثم تذكر قول اللص، وكيف عاب عليه التعيش بالزهد والمسكنة، فأنب نفسه ورجع يوبخ ضميره قائلا: «ويح نفسي! ما أشقاها! جئت هنا لأكفر عن خطيئتي، وإذا بي أضاعف ذنوبي وآثامي، نعم قد صدق اللص في قوله: «كلانا يعمل ليعيش؛ أنت بزهدك، وأنا بسفك الدماء، وقتل نفوس الأبرياء.» ليست هذه هي المعيشة التي أتمسك بها لأكفر عن سيئات نفسي، ولم تكن هذه الخطة التي أنتهجها كفيلة بغسل آثامي بماء الطهر والتوبة، فقد كان علي أن أكتفي باليسير من الخبز، ولكن ملك الغرور علي نفسي فأصبحت أرتاح لمدح الناس إياي بالزهد والتقوى، وها أنا ذا قد استولى علي الهم؛ لأني لم أجد بين يدي من يتقرب إلي بالمدح والثناء، كلا، كلا! علي أن أفر من وجه الناس وألتمس المعيشة في ركن آخر من هذه الغابة حيث لا يصل إلي أحد منهم.»
وما وصل من حديث نفسه إلى هذا الحد حتى قام من مكانه وعلى وجهه أمارات العزم الصادق، ثم احتمل سلة الخبز، وأمسك محراثه بيمينه ليحفر لنفسه كهفا آخر في ركن مهجور من الغابة، وفيما هو في طريقه قابله اللص ؛ ففزع منه ابن العراب وولى الأدبار، إلا أن اللص أسرع فأمسك به وسأله عن قصده، فأجابه أنه يريد اعتزال الناس في ركن من الغابة، فعاد اللص وسأله: «ومن أين لك ما تتبلغ به إذا أنت اعتزلتهم؟»
فقال: «ذلك لا يهمني، بل أعيش بما يقدره لي رب العالمين.»
فسكت اللص ثم أعمل بمهمازه في الجواد واختفى بين أشجار الغابة.
فقال ابن العراب في نفسه: «ما علي لو نصحته مرة ثانية؟! فإنه اليوم ألين عريكة من ذي قبل.» ثم صاح بأعلى صوته: «ما زال أمامك متسع من الوقت للتوبة والندامة فارجع عن غيك يا هذا.» فرجع إليه اللص مشهرا خنجره يريد قتله، ففر ابن العراب من بين يديه وأخذ يعدو في الغابة بملء فروجه، فوقف اللص عن ملاحقته واكتفى بقوله: «هذه هي المرة الثانية وأنت تقف في وجهي أيها العجوز، فحذار؛ فإنك لا تفلت من يدي في المرة الثالثة.»
وفي مساء ذات اليوم عندما ذهب ابن العراب ليسقي الأعواد كعادته كانت إحداها - وهي الأولى - موضع إعجابه واندهاشه؛ لأنه رآها قد اخضر عودها، ودبت الحياة فيها، وافترت عن شجرة تفاح صغيرة، فأشرق جبينه، وعاد إليه الأمل، وقد أيقن أنه سائر في سبيل التكفير عن خطاياه، ونظر ذات يوم إلى السلة التي احتملها من الكهف السابق وإذا بها فارغة ليس بها شيء من الخبز، فتسلل إلى الغابة يبحث عن نبات أو ثمر يعيش عليه، وإذا به يرى سلة أخرى من الخبز معلقة على أحد الأغصان، فأخذها وعاد إلى كهفه وعاش عليها مدة من الزمان لا يعكر صفو حياته إلا وعيد اللص؛ إذ كلما تذكر تهديده ترتجف أعضاؤه فرقا؛ خوفا من أن يقضي اللص عليه قبل تكفير ذنوبه، إلا أنه فكر في نفسه ذات يوم فقال: «أنا أجرمت، ومع ذلك أهاب الموت، ألا يمكن أن تكون إرادة المولى أن أكفر عن خطيئتي بالموت؟»
وما وصل من مناجاة نفسه إلى هذا الحد حتى سمع صوت اللص يصخب ويلعن كمن يخاطب شخصا آخر، فقال في نفسه : «إنما الخير والشر بيد الله.» وقام لوقته يريد مقابلة اللص فرآه ممتطيا فرسه وقد أردف خلفه رجلا آخر مكبل اليدين والرجلين يوسعه لكما وضربا ويستنزل عليه اللعنات طول الطريق، فوقف ابن العراب في وجهه وصاح به: «إلى أين أنت ذاهب بهذا الرجل؟» - «هذا ابن أحد التجار أبى أن يعترف لي أين أموال أبيه، ولكني سوف أذيقه كل صنوف العذاب حتى يقر لي بالمكان.»
ثم أعمل المهماز في جواده يريد السير، ولكن ابن العراب كان ممسكا بالفرس بكل قوته، فلم يدعه يمر وقال له بلهجة الغاضب: «دع هذا الرجل وشأنه.»
عند ذلك استشاط اللص من الغضب، ورفع يده يريد لطمه وهو يقول: «أتريد أن تذوق طعم العذاب الذي أعددته لهذا الرجل؟! تنح عن طريقي وإلا قتلتك شر قتلة.»
ولكن ابن العراب لم يتزعزع من مكانه، بل وقف ثابت الجأش وأجاب اللص بقوله: «لا أدعك تنقل خطوة واحدة دون أن تمر على جثتي وتطأها بسنابك جوادك، فأنا لا أخاف سوى رب العالمين؛ فهو الذي يثبت قدمي الآن لأجاهد في سبيل الخير، فلتكن مشيئة الله.»
فأطرق اللص واجما! ثم أخرج سكينا صغيرا قطع به قيود الشاب، ونظر إلى الرجل وابن العراب وهو يقول: «اغربا الآن عن وجهي، وحذار أن تقف في طريقي مرة أخرى أيها العجوز.»
فقفز ابن التاجر وانطلق يعدو في الغابة، أما اللص فكان على وشك أن يعلو جواده ثانية حينما أمسك الراهب بطرف ثوبه وأخذ في نصحه وإرشاده، وكان اللص في هذه المرة مطرقا لا ينبس ببنت شفة، إلا أنه عاد فهز رأسه ثانية، وركض بجواده نحو الغابة.
وفي اليوم التالي لهذه الحادثة وجد الراهب أن الحياة دبت في العود الثاني ونمت شجيرة تفاح أخرى بجانب الأولى.
مرت على هذه الحادثة عشرة أعوام وقد جلس ابن العراب ذات يوم في كهفه بطمأنينة وسلام وقلبه يطفح بشرا وسرورا، ولا يعكر صفو هنائه خوف أو طمع، وكان يفكر في نعم المولى على عباده، وكيف أن الله - جلت قدرته - هيأ لهم كل ما فيه غبطتهم وسعادتهم، وأنهم هم الذين يوردون أنفسهم موارد البؤس والشقاء، ويعملون على تعكير صفو الحياة بأطماعهم وشرورهم، ثم انتقل بفكره إلى الإنسان وما جبل عليه من شر، وإلى الحياة الاجتماعية وما فيها من أمراض وآلام فقال في نفسه: «عار علي ألا أبرح مكاني هذا، بل علي أن أسعى في الأرض أرشد الناس إلى الطريقة المثلى لنزع الشر من بين جوانبهم!»
وبينما هو غارق في هذه الهواجس إذا باللص يمر من أمامه، فتركه يمر دون أن يتعرض له، بل قال في نفسه: «إن الكلام مع مثله لا يجدي نفعا؛ لأنه لا يفقه لما أقول معنى.» ولكنه ما لبث أن غير عزمه وقام مسرعا خلف اللص فرآه مغبر اللون، مطرق الرأس، خاشع البصر؛ فأشفق عليه ووضع يده على ركبته وخاطبه قائلا: «كن رحيما بنفسك يا أخي، إنك طالما عثت في الأرض فسادا، وأهلكت نفوسا بريئة، وكنت شرا ووبالا على الإنسانية، ومع ذلك فإن الله رحيم بعباده، يقبل توبة التائب، ويعفو عن إساءة المسيء، فهلا رجعت عن ضلالك، وأشفقت على البقية الباقية من حياتك؟»
فوجم اللص لا يتكلم ثم عاد يريد السير ثانية وهو يقول: «دعني وشأني.» ولكن ابن العراب لم ييأس، بل طفرت من عينه دمعة سخينة مسحها بطرف ردائه، وأقبل على إرشاده ونصحه، فنظر اللص إليه طويلا، ثم رمى نفسه عن جواده، وركع أمامه يقول: «ها أنت يا سيدي قد ملكت علي نفسي وظفرت بها أخيرا بعد أن قاومتك عشرين عاما، فافعل بي ما تشاء، فإني رهن إشارتك؛ إذ لا طاقة لي بأكثر من ذلك، قد استفزني الغضب عندما وقفت في طريقي تريد نصحي وإرشادي في المرة الأولى، ولكن ما كدت تعتزل الناس وتزهد في أعطياتهم؛ حتى أخذت أقدر أقوالك ونصائحك حق قدرها؛ إذ علمت أنك لم تنصحني لغاية أو فائدة، وإنما قلت ما قلته لمحض الخير والإحسان، ومنذ ذلك اليوم قدرت جهادك حق قدره، وساقني عامل الإعجاب بك إلى إحضار الخبز إليك في سلة كنت أعلقها على غصن إحدى الأشجار القريبة من كهفك.»
فتذكر ابن العراب عند ذلك تلك الحادثة التي مرت به عندما كان بضيافة المرأة، وكيف أنها لم تتمكن من تنظيف المائدة إلا بعد أن غسلت تلك الخرقة التي كانت تمسح بها، كذلك هو لم يتمكن من تطهير قلب غيره إلا بعد أن طهر ذات نفسه، ثم استطرد اللص حديثه قائلا: «ولكن حتى ذلك الوقت كنت معجبا بك فقط، ولم تؤثر نصائحك في نفسي تأثيرها المطلوب إلا بعد ما علمت أنك لا تهاب الموت.»
فتذكر ابن العراب حينئذ ما رآه من أمر الصناع الذين كانوا يحاولون إحناء القطعة الخشبية، وأنهم لم يتمكنوا من ذلك إلا بعد أن ثبتوا الكتلة في مكانها تمام الثبات، فعلم أن نصائحه لم تؤثر في اللص ذلك التأثير البليغ إلا بعد أن طرح عن نفسه رداء الخوف من الموت، وأشعر قلبه حلاوة الإيمان الصادق، ثم ختم اللص حديثه قائلا: «ولكن لم يحترق قلبي بنار التوبة والإخلاص إلا حينما رأيتك تشفق علي وتبكي لأجلي!»
عند ذلك أخذ ابن العراب بيده وذهب به حيث الأعواد الثلاثة فرأى أن الحياة قد دبت في الثالثة أيضا، فأشرق شعاع الأمل بين جوانب نفسه، وعلم أن الله قد تقبل توبته، وغفر خطيئته، وتذكر كيف أن الرعاة لم تتمكن من إحراق الأعشاب وإضرامها إلا بعد أن ذكت النار تماما، فعلم أن اللص لم تتم توبته إلا بعد أن ذكت نفس مرشده تماما، عند ذلك قضى نحبه قرير العين هنيء البال، بعدما أفضى إلى اللص بكل ما علمه وتعلمه، ثم أوصاه بإرشاد الناس إلى طريق الخير بالقدوة الصالحة والمثل الطيب.
الحكاية الخامسة
مكيدة شيطانية
وأما الخمر فهي تزيل عقلا
فتحت به مغالق مبهمات
ولو ناجتك أقداح الندامى
عدت عن حملها متندمات
تذيع السر من حر وعبد
وتعرب عن كنائن معجمات
فإن هلكت خروسك أم ليلى
فما أنا من صحابك واللمات
فعنك تعود أبنية المعالي
وأطلال النهى متهدمات
وقد يضحي صحابك أهل سجن
وتلقين الكئوس محطمات
للمعري
في صباح ذات يوم خرج قروي من كوخه الحقير يحمل تحت إبطه فطور ذلك اليوم موليا وجهه نحو الحقل الذي ما كاد يصل إليه حتى خلع معطفه ورماه تحت إحدى الشجيرات بعد أن لف فيه ما معه من الخبز، ثم شرع في العمل، وبعد هنيهة أنهكه الجوع وأضنى التعب جواده، فأطلق سراح الجواد وجلس هو ليأكل ما أعده للفطور، ولما تفقد الخبز لم يجده بين طيات ثيابه، فأخذ يقلب المعطف بين يديه ويدقق النظر في كل جزئياته، ولكنه عبثا كان يحاول؛ إذ إن الشيطان كان قد سبقه إلى الشجيرة، وسرق ما في المعطف من الطعام، ثم جلس منتظرا صخب القروي ولعناته على سارق الخبز، إلا أن فأله قد خاب؛ لأن القروي مع ما داخله من الأسف لم يتأثر كثيرا لفقد الطعام، بل اكتفى بقوله: «ما علي لو صبرت؛ فإن الجوع ليس بقاتلي، وربما كان الآخذ في حاجة إلى ذلك الخبز، فليهنأ به.» قال هذا القول وذهب توا إلى بئر قريب منه؛ حيث أطفأ ظمأه، وارتاح قليلا من وعثاء العمل، ثم عاد فأمسك بعنان جواده واستأنف العمل ثانية.
أما الشيطان فقد استاء من عمل القروي؛ إذ رآه أعقل من أن يقع في الخطيئة؛ فأسرها في نفسه، وعزم أن يخبر رئيسه بالأمر، وبالفعل ذهب من وقته إلى إبليس وقص عليه الحكاية، وكيف أن القروي لم يعبأ بفقد الخبز ولم يسخط على آكله، بل تمنى له الهناءة والسرور، فما كاد إبليس يسمع ذلك حتى غلى مرجل حقده، وانتهر تلميذه قائلا: «إنما اللوم في ذلك راجع عليك؛ لأنك لم تقم بمهمتك كما يجب، واعلم أن القرويين إذا ابتدءوا ينهجون على هذا المنوال، واقتفى أثرهم في ذلك زوجاتهم فالويل لنا نحن معاشر الأبالسة، فالأمر خطير لا يجمل بنا أن نتغافل عنه، فانكص على عقبيك سريعا وأصلح خطأك هذا، وإن لم تنتصر على ذلك القروي الساذج في ظرف ثلاث سنين، فسوف أريك كيف يكون جزاء الإهمال.» فعاد الشيطان إلى الأرض مسرعا وهو ينتفض فرقا وقد تقطعت نياط قلبه من تهديد الرئيس ، وأخذ من وقته يفكر في حيلة يوقع بها ذلك المسكين في حبائله، وأخيرا اهتدى إلى مشروع وجده كفيلا بنجاحه، فتزيا بزي أحد العمال وتمكن من أن يدخل في خدمة القروي.
وفي عامه الأول نصحه بأن يبذر حبوبه في أرض رطبة، فعمل القروي بنصيحته، وكان الجو من حسن حظه جافا؛ فأنتجت الأرض محصولا جيدا، فتمكن من ملء مخازنه، وأصبح لديه كميات وافرة من القمح تزيد عن حاجاته، وفي عامه التالي عاد إليه الشيطان ينصحه بأن يبذر حبوبه على ربوة من الأرض، ثم جاء وقت الحصاد وكان الصيف رطبا؛ فاستفاد القروي من النصيحة وتوفر لديه شيء كثير من القمح يربو عما جناه في عامه السابق، فحار في أمره ولم يدر ماذا يصنع بكل ذلك القمح الكثير، فوسوس إليه الشيطان أن يستخرج منه نوعا من الخمر ففعل، وكان الخمر المستخرج قويا شديد التأثير، فسر بهذا الاكتشاف وأخذ يشرب منه هو وزوجته، وأهدى إلى أصدقائه الشيء الكثير.
عند ذلك ذهب الشيطان إلى رئيسه فرحا مستبشرا وقص عليه ما فعله لإغواء القروي، فقام إبليس مسرعا ليشاهد الأمر بنفسه، ويتحقق صدق مقاله، ولما وصلا إلى منزل القروي وجدا أن صاحب المنزل يستعد لحفلة ساهرة، دعا فيها كل جيرانه الأعزاء، ثم رأيا وفود المدعوين تقبل إلى المنزل زرافات ووحدانا، وصاحبة الدار قائمة بخدمتهم تقدم لهم كئوس الخمر، وبينما كانت تدور عليهم بالأواني إذا بها قد تعثرت فوقعت الأواني من يدها، وسال الخمر على الأرض، فاحتدم زوجها غضبا، وصاح بها يقول: «ما الذي دهاك أيتها العسراء حتى أهرقت هذه الخمرة اللذيذة على بساط الغرفة؟! أظننت أن ما بين يديك من ماء البئر؛ حتى أخذت في إتلافه وإسرافه؟!»
وما كاد الشيطان يسمع هذه الكلمات حتى غمز رئيسه قائلا: «أسامع أنت كلام ذلك القروي الساذج الذي لم يهتم لفقد كسرة الخبز؟!» وبينما كان القروي ينتهر امرأته ويلومها على فعلتها؛ إذا بقروي فقير دخل عليهم متطفلا واستوى جالسا على المائدة ينتظر إكرام صاحب الدار، ولما طال به الجلوس تململ صاحب المنزل من جلوسه وتمتم يقول: «أنا ليس في وسعي أن أقدم شرابا لكل من يتطفل على موائدنا.» فسمع إبليس هذه الكلمات وسر في نفسه بهذه النتيجة إلا أن تلميذه قال وهو يبتسم: «انتظر قليلا فسوف ترى ما هو أعجب!» وفعلا ما كاد يتم قوله هذا حتى كان القوم أخذتهم نشوة الخمر، فأصبحوا يخادعون بعضهم البعض بألفاظ ملؤها الملق والرياء، عند ذلك قال إبليس: «إذا كان بعض الخمر يجعلهم على هذه الحال يروغون كالثعالب، ويتملقون بعضهم البعض، ولكنك سوف تراهم عقب الكأس الثانية كالذئاب المفترسة ينهشون لحوم بعضهم البعض.»
فما أتم الشيطان هذه الكلمات حتى كان الشراب يدور على القوم ثانية، ثم ارتفعت من بينهم دواعي الحشمة وأصبحوا يتبادلون وحشي الكلام وقبيح الألفاظ، ثم أدى بهم الأمر إلى المضاربة، فالملاكمة، فتلألأ وجه إبليس بشرا، وهنأ تلميذه بذلك الفوز الباهر قائلا: «هذه هي الخطوة الأولى في سبيل النصر.» فأجابه تلميذه: «انتظر حتى النهاية تر ما هو أغرب، فإنهم الآن كالذئاب يكاد أحدهم يفترس صديقه، ولكنك سوف تراهم كالخنازير عقب الكأس الثالثة.»
عندها دارت الكئوس عليهم مرة ثالثة، فعلت أصواتهم وزاد صخبهم، وأصبح كل منهم يلعن ويشتم بلا سبب ومن غير داع، وبعد برهة وجيزة انفرط عقد جمعهم وأخذوا ينسلون من مكان الدعوة جماعات ووحدانا، يترنحون سكرا ويتمايلون ذات اليمين وذات الشمال، ثم ذهب المضيف أثرهم ليشيعهم، ولكنه ما كاد يخطو بضع خطوات حتى تعثر في مشيته، فوقع في حفرة مملوءة بالأوحال، وتلطخ بها من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، فازداد إبليس لهذا المنظر بهجة وسرورا، والتفت إلى تلميذه يقول: «لله درك! فلقد كان نجاحك باهرا وفوزك مبينا، ولكن، خبرني: كيف صنعت هذا الشراب؟! فلا ريب أنك أضفت إليه بضع نقط من دم الثعالب؛ وهذا ما حدا بهم لأن يروغوا ويتملقوا بعضهم البعض في الكأس الأولى! ثم أظن أنك أضفت إليه بعضا من دم الذئاب؛ إذ كان نتيجة ذلك أنهم أصبحوا كالذئاب العاوية! وأخالك أتممت العمل بوضع نقط من دم الخنزير حتى أصبحوا يماثلون الخنازير عقب الكأس الثالثة.»
فقال الشيطان: «كلا، فإنك لم تصب كبد الحقيقة، فليست هي الطريقة، وكل ما في الأمر أني بذلت ما في وسعي لأن أجعل ذلك القروي يملك حبوبا أكثر مما يحتاج إليها؛ فالإنسان يجول في عروقه دماء الحيوانية على الدوام، وتظل هذه الغريزة كامنة في نفسه طالما كان يملك من حطام الدنيا أقل من ضرورياته، يدلك على ذلك ما أظهره القروي عندما تحرشت به في مبدأ الأمر، ولكنه ما كاد يتوفر لديه أكثر مما يحتاج إليه حتى عماه الغنى وتمادى به الغرور، فأخذ يبحث عن دواعي الملاهي والسرور، وهنا سنحت الفرصة لإغوائه؛ فأخذت بيده إلى طريقة من طريق الغواية؛ إذ أرشدته إلى صنع الخمر، فاستلذها المسكين لسوء حظه، وشربها عذبة سائغة، فكان في ذلك كالساعي إلى حتفه بظلفه، فإنه ما كاد يكفر بأنعم الله حين أعطيته خمرة تذهب برشده حتى ظهر ما كمن في نفسه من تلك الدماء الخبيثة - دماء الحيوانية - فأصبح وحشا ضاريا بعد أن كان بشرا سويا، وهو يظل كذلك وحشا مفترسا بعيدا عن مناهج الإنسانية طالما يعاقر تلك المادة الدنسة.»
الحكاية السادسة
ثلاثة أسئلة
أراد أحد الملوك مرة أن يقف على إجابة ثلاثة أسئلة جالت بخاطره، وظن أنه إن تم له ذلك فلا يكون الفشل حليفه قط في أي مشروع يأخذ على عاتقه القيام به، وما كاد هذا الفكر يستقر في فؤاده حتى أعلن في طول البلاد وعرضها أن من يجيب الملك على أسئلته الثلاثة الآتية ينال جائزة قيمة، أما الأسئلة فهي: (1)
كيف يعرف الإنسان الوقت المناسب للشروع في أي عمل؟ (2)
من هم الذين يجب الثقة بهم أو الابتعاد عنهم؟ (3)
كيف يتسنى له معرفة أهم الأشياء التي يشتغل بها؟
وما كاد هذا يذاع في المدائن حتى تقاطر إليه العلماء من كل صوب، إلا أنهم ذهبوا في إجاباتهم مذاهب شتى.
فقال أحدهم إجابة عن السؤال الأول: «إذا أراد الإنسان أن يعرف حقيقة الوقت المناسب لبدء كل عمل فما عليه إلا أن يخط جدولا يكتب فيه أسماء الأيام والشهور والسنين محسوبة مقدما، ويواظب تماما على العمل به، وبذلك يمكنه أن يؤدي كل عمل في وقته المعين.» وقال آخرون: «إن من المحال لأي إنسان أن يتنبأ بالوقت المناسب لكل شيء، وإنما الواجب عليه أن يراقب بكل دقة وانتباه مجرى سير الأحوال التي تحيط به، ومتى علم ذلك صار من السهل عليه معرفة أي الأشياء أكثر أهمية؛ فيبدأ بها في وقتها.» إلا أن بعضهم اعترض عليهم فقال: «مهما يكن الملك يقظا وواعيا لكل ما يحدث حوله فإنه لا يتوصل لمعرفة ذلك إلا بعقده مجلسا يتضمن كبار العلماء والعقلاء؛ ليساعدوه بأفكارهم على تحديد الوقت المناسب.» فرد عليهم آخرون بأن هناك كثيرا من المسائل التي يجب البت فيها في الحال، ولا يمكن إرجاؤها حتى ينظر فيها المجلس؛ فالطريقة المثلى لمعرفة ذلك هي التنبؤ بحوادث المستقبل، وبما أن هذا لا يفقهه إلا السحرة فالأجدر بالإنسان مشاورتهم في الأمر.
وكان ما أصاب الإجابة عن السؤال الثاني من الاختلاف لا يقل عما أصاب سابقه؛ فقال أحدهم: «إن أنفع الناس للملك وأجدرهم بثقته هم وزراؤه ومستشاروه.» وقال آخرون: «الكهنة ورؤساء الدين.» وقال ثالث: «نطس الأطباء.» وقال رابع: «إن المحاربين وطائفة المجاهدين هم الأكثر ضرورة للملك دون سواهم.»
أما السؤال الثالث فكان نصيب الإجابة عنه من تباين الآراء كذلك ما لا يقل عن سابقيه، فأجاب بعضهم بأن أنفع الأشياء للملك هو العلم، وقال ثان المهارة في الفنون الحربية، وقال غيره الاشتغال بالأمور الدينية.
ولما رأى الملك اختلاف العلماء وتباين أفكارهم؛ لم يقتنع بإجابتهم، فلم ير أحدا منهم جديرا بالجائزة المعدة، ولما لم يجد الملك ضالته المنشودة في من وفد إلى حضرته من العلماء، وكانت رغبته تزداد في الوقوف على أجوبة صحيحة لأسئلته الهامة؛ عمد إلى المفاوضة مع ناسك مشهور بوافر عقله وغزير حكمته فقام لوقته وارتدى ملابس بسيطة؛ لأن هذا الناسك لا يقابل إلا العامة، ثم سار نحو الغابة التي اتخذها ذلك العابد مسكنا لا يبرحه، ولما دنا من صومعته ترجل عن جواده، وذهب إليه وحيدا تاركا وراءه جنده وحراسه.
قرب الملك منه فوجده يحفر في الأرض أمام كوخه، فلما وقعت عينا الناسك عليه حياه واستمر في عمله، وبالنسبة لضعف جسمه ونحوله كان كلما جرف بمجرفته قطعة من الأرض علت زفراته وتصعدت أنفاسه، فتقدم نحوه الملك مخاطبا إياه: «إني أتيت إليك أيها الناسك العاقل ملتمسا منك الإجابة عن ثلاثة أسئلة، فهلا توليني سرورا بتحقيق أمنيتي؟» فأصغى إليه الناسك، إلا أنه لم يجبه بكلمة واحدة واستأنف الحفر، فزاد الملك قائلا: «إني لأخالك قد تعبت الآن فأذن لي بالاشتغال برهة حتى تستعيض بعض قوتك.» فشكره الناسك وأعطاه المجرفة وجلس هو ليستريح، وبعد أن جرف الملك مرتين توقف وأعاد أسئلته ثانيا، فلم يعره الناسك أقل انتباه ولم ينبس ببنت شفة، وقام لوقته ومد يده للمجرفة يطلبها من الملك إلا أن هذا أبى أن يعطيه إياها، واستمر في الحفر حتى مضت ساعتان وابتدأ قرص الشمس أن يختفي وراء الأشجار، وإذ ذاك توقف الملك عن العمل وقال للناسك: «إني قصدتك أيها الحكيم لتجيبني على أسئلتي، فإن لم يكن لك علم بها فأخبرني حتى أنصرف وأعود من حيث أتيت.» فقال الناسك بلهجة تدل على الاهتمام: «التفت، ألا ترى رجلا مقبلا يعدو نحونا؟! ها هو! يجب أن نعرف أولا من هو.» فالتفت الملك فرأى رجلا ذا لحية طويلة يتقدم مسرعا نحوهما واضعا كلتا يديه على بطنه، والدم يسيل من تحتهما.
ما كاد هذا الغريب يصل حيث يجلس الملك حتى خر على الأرض يصرخ من الألم ويئن أنات متواصلة، ففك الملك والناسك ثيابه المضرجة بالدماء، وألفيا جرحا بليغا يتدفق منه الدم، فعني به الملك، وضمد جراحه بمنديله ومنشفة كانت عند الناسك، ولكن مع كل هذا لم تقف حركة خروج الدم؛ لذلك كان الملك نفسه يزيح العصابة ويمتص الدم بحرارة زائدة، ويغسل الجرح مرات عديدة، ثم يعيد إليه الضمادة ثانية، وهكذا حتى انقطع الدم وانتعش الرجل، وطلب جرعة ماء، فأحضر الملك له الوعاء وأسقاه منه كفايته، وفي ذلك الوقت مالت الشمس إلى المغيب وأقبل الليل بنسماته الباردة، فحمل الملك والناسك الجريح وأدخلاه الكوخ، وما كادا يوسدانه الفراش حتى أطبق عينيه واستغرق في سبات عميق، أما الملك فقد أعيته مشقة العمل وأنهكه تعب الحركة، فجثا لوقته عند مدخل الكوخ، واستسلم أيضا لنوم هادئ طويل.
مضت تلك الليلة ونام الملك فيها ملء جفنيه، ولما استيقظ في الصباح أراد أن يعيد إلى ذاكرته حوادث الليلة الماضية، إلا أنه قبل أن يتذكر أين هو، ومن ذاك الغريب النائم على الفراش الناظر إليه بعينين براقتين؛ سمع صوتا ضعيفا يقول: «سامحني.» فعلم أنه صوت ذلك الغريب الجريح، فالتفت إليه وقال: «يلوح لي أن ليس بيني وبينك سابق معرفة؛ فعلام تطلب مسامحتي؟!» فقال: «نعم، إنك لا تعرفني، ولكني أعرفك حق المعرفة، فأنا عدوك الألد الذي حلف لينتقمن منك؛ لأنك أعدمت أخاه، واغتصبت أملاكه، وقد علمت بمجيئك إلى هنا منفردا، فعزمت على قتلك عند أوبتك، ولكني عندما رأيتك لم ترجع وقد انقضى اليوم خرجت من مكمني لأفتش عنك عسى أن ألتقي بك، وإذا بحراسك قد عرفوني، فأطلقوا علي بعض غداراتهم وأصابوني، فهربت من أمامهم والدم يتدفق والآلام تزداد، حتى رماني الله بين يديك؛ فضمدت جرحي، وعطفت علي، فما أطهر قلبك وأرق عواطفك! يا رباه! إني أتيت لأقتلك، ولكنك أنقذتني من الموت وبعثت في الحياة ثانية، فلأشكرنك ما حييت، ولن أنسى هاتيك الأيادي البيضاء ما دام في عرق ينبض، ولي لسان ينطق، ولأكونن لك الخادم المطيع والعبد الأمين ما دمت أستنشق نسمات الحياة، وسآمر أولادي أن يقتفوا أثري من بعدي؛ فنوقف حياتنا جميعا لخدمة الملك.»
ولا تسل عن سرور الملك وقتئذ؛ فقد كان عظيما ولا شك في ذلك؛ فإن الصلح الذي عقده مع عدو من ألد خصومه بدون أن يبذل في سبيله أقل مجهود يعد حقا صفقة رابحة له، كيف لا وإنه بذلك الصلح اجتز أسباب البغضاء التي أضرمت في فؤاد ذلك العدو نار العداء، واقتلع بذور الشحناء التي نبتت في قلبه على توالي الزمن، وأقام مكانها في رحبة ذلك القلب نفسه قصور المحبة تظللها أشجار الطاعة ودوحات الإخلاص؟! ثم أمر طبيبه الخاص أن يعنى بالجريح عناية تامة، ووعده برد كل أملاكه الضائعة، وبعد أن استأذن الملك من الجريح بالانصراف عزم على الرحيل، إلا أنه ود أن يقابل الناسك لآخر مرة؛ عسى أن يهديه إلى ضالته المنشودة، فوجده يبذر الحب في الأرض، فلما قرب منه قال له: «أتوسل إليك للمرة الأخيرة أن تجيبني على أسئلتي حتى يطمئن بالي، وتكون قد أسديت لي جميلا لا أنساه.»
فرفع الناسك إليه بصره وقال: «إنك لقد أجبت تماما على كل أسئلتك.» فدهش الملك وقال متعجبا: «كيف ذلك؟! وماذا تعني؟!» فرد عليه الناسك بقوله: «ألم تر أنك لو لم تعطف علي بالأمس ولم ترحم شيخوختي وضعفي وتركتني أقاسي آلام العمل وحدي فإن عدوك كان - لا بد - قاتلك، وإذ ذاك كنت تعض أصبع الندم حسرة على عدم بقائك معي، فاعلم إذن أن أثمن أوقاتك هو وقت اشتغالك بالحفر، وأنفع رجل وقتئذ هو أنا، وإسداؤك الخير هو أهم ما اشتغلت به.
ثم عندما وصل إلينا الرجل يتخبط في دمائه كان أهم وقتك وقت اعتنائك به؛ لأنك لو لم تضمد جراحه لقضى نحبه بدون أن تطفئ نار بغضائه، وتحول عداوته المرة إلى صداقة متينة وطاعة دائمة، وإذ ذاك كان الجريح بطل ذلك الوقت، وما قدمته له من أيادي الخير أهم الأشياء وأنفعها لديك وأكثرها فائدة لك، فاعلم جيدا أن ليس هناك إلا وقت واحد هو من الأهمية بمكان، وذلك الوقت هو (الآن) أو البرهة التي أنت فيها، وما هذا إلا لأنك تكون فيه مالكا ومستجمعا لكل قواك الحالية، وأهم رجل هو من تتكلم معه؛ لأنك لست عالما بما هو مسطر لك في سجل القدر، وفعلك الخير له أنفس ما تشتغل به؛ لأن لهذا الغرض وحده دون سواه ظهر الإنسان على مسرح الحياة.»
الحكاية السابعة
إلياس
هناك تحت ظل حكومة أوفا عاش رجل يدعى إلياس، مات والده بعد أن أتم تأهيله بحول كامل، غير تارك وراءه إلا ثروة واسعة لا تزيد على سبعة أفراس ، وبقرتين، وما يقرب من العشرين رأسا من الغنم، إلا أنه فوق ذلك خلف لفلذة كبده الحزم والجد؛ فكانا نعم الثراء وحبذا الإرث العظيم، أجل فقد كان إلياس حازما مجدا، لا يدع فرصة تمر بدون اقتناص، ولا يني في المثابرة على إصلاح شئونه، فكان يقوم مبكرا والناس نيام، ويدلف إلى فراشه بعد أن يهجع كل إنسان، وجده وحزمه كانا كفيلين بتوسيع نطاق ممتلكاته وازدياد ثروته التي بلغت في نهاية الخمسة والثلاثين عاما مائتين من الخيل، ومائة وخمسين رأسا من الماشية، وألفا ومائتين من النعاج، فضلا عمن كانوا يمرحون في مزرعته من الرجال المأجورين، والنساء المأجورات، أولئك لرعاية ماشيته وقطعانه، وهؤلاء لحلب بقره وأفراسه، وعمل الكومس،
1
واستخراج الجبن والزبد.
ومن ذلك الوقت بسم له الدهر فأصبح إلياس رب ثروة وافرة، وصاحب أملاك واسعة، حسده عليها جيرانه ومواطنوه فقالوا عنه: «إلياس رجل مبخت حالفه الجد؛ فرافقته السعادة، وأقبلت عليه الدنيا، فأصبحت طوع بنانه.» ثم ذاع صيته وعلت شهرته وتهافت على زيارته كثيرون من سراة القوم، وتسابق إلى معرفته العدد العظيم ممن ودوا التقرب منه، فكان يكرم مثواهم ويذبح لهم الذبائح، ويقدم لهم كل شهي من الطعام ولذيذ من الشراب.
لم يرزق إلياس إلا ولدين وابنة كانوا عضده الأقوى أيام بؤسه، يفلحون له الأرض، ويرعون الماشية، ويباشرون كل أعمالهم بأنفسهم، أما وقد ارتاش إلياس فقد تصارعت بين نفسيهما عناصر المفاسد، ثم لقي أكبرهما مصرعه في عراك، وأدمن الآخر على تعاطي المسكرات، وانقاد لامرأته في عدم إطاعة أبيه والإذعان لأوامره، فانفصل عنه بعد أن لم يطق معه صبرا، وقد منحه إلياس منزلا يأويه، وجاد عليه ببعض الماشية؛ كي تعاونه على الحياة، فكانت هذه التجزئة سببا في تصغير ثروته وفاتحة لمصائب جمة، فعلى أثرها انتشر وباء فتاك حصد كثيرا من أغنامه، وتلا ذلك سوء محصول القمح، ثم أغارت عليه قبائل الكرغيز فسلبته الصافنات من جياده، فأتى هذا ضغثا على آباله، وهكذا نخرت عوامل الضعف في ذلك الثراء فانهار عليه بنيانه، وأخذت عوامل التلاشي تعبث ببقايا تلك الثروة الدارسة، بينا كان إلياس يوسع الخطا نحو القبر ويئن تحت عبء الشيخوخة الثقيل؛ إذ أربى على السبعين وقد انقطعت عنه أخبار ابنه القاصي، أما الابنة فعدا عليها المنون واختطفها من بين أبويها، وبذلك فقد الشيخ وزوجه آخر نصير لهما في الحياة ...
نزلت بهما كل هاتيك المصائب، وأحاطتهما الشدة إحاطة السوار بالمعصم، فألجأتهما إلى بيع كل ما عندهما من بقايا أثاث المجد القديم حتى أصبحا لا يملكان إلا ما يستر عورتهما من ثياب أبلاها الدهر والحدثان، وما هي إلا عشية وضحاها حتى كنت ترى الشيخ وزوجه في حالة يستمطران معها أكف المحسنين ويسألان العطف بعجوزين تقوس ظهراهما تحت عبء الفاقة والكبر، وهكذا أنزلهما الزمان في الحضيض بعد السنام، وصدمهما بكلكله؛ فاسترد ما أعارهما من مجد مؤثل، وعز قديم.
بجوار منزل إلياس كان يقطن محمد شاه رجل طيب القلب كريم الأخلاق، إلا أنه ليس من ذوي الثراء الواسع، ما كاد هذا الرجل يرى ما وصل إليه جاره حتى تذكر مجده الضائع، وكرمه الماضي، وعاودته ذكرى تلك السعادة التي تقلب بين أعطافها زمنا طويلا، فعطف عليهما وقال لهما: «هيا عيشا معي أيها الرفيقان، واشتغلا بقدر ما تسمح به قوتكما، وأنا الكفيل بأمر طعامكما ولباسكما وقضاء كل مهامكما.» فلم يسعهما إلا أن يشكراه على حسن صنيعه، وأصبحا من ذلك الوقت مشمولين برعايته بعد أن انتظما في سلك خدمته.
لقد بدا لهما المركز حرجا والعمل شاقا في أول الأمر، إلا أنهما ألفاه بتأثير العادة، واستمرا يباشران كل ما يقويان عليه من العمل بهمة ونشاط، وكان محمد شاه يرى أن من منفعته الاحتفاظ بمثل هذين العاملين؛ لأنهما تمرنا على كثير من الأعمال، فضلا عما كان يبدو عليهما من اليقظة والنشاط، إلا أنه من جهة أخرى كان كلما تمثلت أمام عينيه شدة السقطة التي لاقاها هذان المنكودان - سقطة المجد من أعلى قمته إلى أعماق هاوية المذلة السحيقة - هز رأسه أسفا وحزنا.
واتفق مرة أن وفد على محمد شاه بعض أقاربه القاطنين لزيارته وبرفقتهم أحد المتصوفين (ملا )، وبينما هم جالسون يشربون الكومس وإذا بشيخ نقض الدهر مرته يمر من أمامهم، فالتفت إليهم صاحب الدار قائلا: «ألا ترون هذا الرجل؟» فأجابه أحدهم: «نعم، وماذا بعد؟!» فاستمر يقول: «إن اسمه إلياس، ولقد أتى عليه يوم كان فيه أغنى رجل بيننا، وأكبر وجيه في هذه النواحي، أما الآن وقد قلب له الدهر مجنه فأصبح مثمودا ضريكا فقد أشفقت عليه هو وزوجه، وشملتهما بعطفي، وأدخلتهما في خدمتي يشتغلان معي بقدر ما تسمح إرادتهما، وإني لا أخالكم قد سمعتم بهذا الاسم من قبل.»
فقال الزائر: «كيف لا وقد عبقت شهرته في طول البلاد وعرضها؟!» واستمر المضيف يقول: «وهو وزوجه يقيمان معي الآن، ويشتغلان عندي كعاملين.»
فهز الزائر رأسه بعد أن بدت على وجهه علامات الأسف وقال متأوها: «ما أشبه الحظ بدورة الفلك! فهو آونة يرفع المرء إلى سماء السعادة وجنات النعيم، وأخرى يؤدي به إلى مقر البؤس والنحوس، ولكن هل قلبه - يا ترى - مفعم بالحزن والأسى على تلك السعادة المفقودة والثروة الضائعة؟!» فقال محمد شاه: «ومن يدري؟! فهو يعيش عيشة يحوطها الهدوء، وتظللها السكينة، ويباشر العمل بهمة لا تعرف الكلل.»
فقال الضيف مخاطبا صاحب الدار: «أتأذن لي ببضع دقائق أقضيها في محادثة هذا الشيخ لأستجلي بعض أسرار حياته الماضية؟!» - «ولم لا؟!»
فناداه صاحب الدار قائلا: «تعال أيها الشيخ الجليل لتشاركنا في بعض كئوس من الكومس نقدمها إليك.»
فاقترب إلياس محييا سيده وسائر ضيوفه، ثم ناوله كأسا إلا أنه ما كاد يأخذ منها جرعة نخب الحاضرين حتى أعادها مكانها وجلس بجانب الباب، وكذا أتت زوجته وجلست مختبئة وراء الستائر، بعدئذ ابتدأ الضيف في محادثته قائلا: «إننا - على ما أظن - مسيئون إليك بوجودك بيننا، فإن ذلك ربما يذكرك سعادتك الماضية، ويعيد إليك أشجانك الحاضرة.» فتبسم إلياس وقال: «إن أردتم أن أحدثكم عن السعادة والشقاء فلا أظنكم مصدقي، والأحرى بكم أن تسألوا زوجتي فهي امرأة، وكل ما في قلبها يظهر جليا على لسانها، فكلامها الصدق، وحديثها هو كل ما يختلج في أعماق فؤادها.»
فأدار الزائر وجهه نحو الستائر وسأل زوجة الشيخ: «كيف تقيسين بين سعادتك الغابرة، وشقائك الحاضر؟» فأجابته قائلة: «أصغ إلي؛ فسأفضي إليك بالحقيقة، قضيت أنا وزوجي نحوا من خمسين عاما باحثين عن شيء مفقود منقبين عنه في كل مكان فلم نجده إلا الآن، نعم في هاتين السنتين الأخيرتين فقط منذ فقدنا كل شيء وصرنا عاملين عثرنا على ضالتنا المنشودة، عثرنا على السعادة الحقيقية التي لا مطمع لنا بعدها.»
ما تفوهت المرأة بهذا الحديث حتى التفت كل من الجالسين إلى الآخر التفاتة دلت على ما داخلهم من الاندهاش، إلا أنها استمرت في حديثها بكل تؤدة وهدوء: «مكثنا نصف قرن كاملا ونحن نفتش عن السعادة بين رياش الغنى، وفي قصور الثراء، فلم نعثر عليها إلا الآن؛ حيث ولت هاتيك الأيام كالأشباح، وانصرمت تلك الأوقات المشعشعة بأنوار الثروة.» فسألها الضيف: «كيف ذلك؟! وماذا تعنين بالسعادة؟!»
فأجابته: «ما أشرقت علينا شمس الغنى حتى ظهرت من ورائها المتاعب الجمة، وتوالت علينا الهموم العديدة، كنا نجلس لنفكر في الاهتمام بأمر أنفسنا قليلا، ونود لو تفرغنا لتأدية الصلاة، ولكن هيهات! كنا نحاول النوم ولكن من أين لنا ذلك وجيوش الأفكار تتقفانا؛ فتطرد عن أعيننا الكرى، وأشباح المخاوف والوساوس تتأثرنا فتبعث بنا في ظلمة الليل وسكونه إلى حيث نخاف أن يفترس الذئب فلوا أو عجلا، أو يسرق اللصوص بعض خيولنا ونعاجنا، وهكذا كلما خامر فؤادنا الريب، ولعبت بنا الهواجس؛ دفعنا الحذر إلى الاستيقاظ عدة مرات.
كان يقصدنا الضيوف على اختلاف مشاربهم وتباين طبقاتهم، فكنا نضطر إلى تضييفهم بما نقدمه لهم من أنواع الطعام ومختلف الشراب، وما نتحفهم به من الهدايا الفاخرة؛ حتى نحبس ألسنتهم فلا نكون هدفا لسهام لعنهم، ونسد أفواههم فلا ينزلون علينا وابلا من قذائف اللوم والتقريع.
وفضلا عن ذلك لم يكن هناك توفيق بيني وبين زوجي، فكنا على تباين تام، وكان هذا مبعثا لاضطرام نار الشحناء التي كانت تتأجج ساعات وأياما، هذه كانت حياتنا سلسلة شقاء متواصل، فمن أين إذن تطرق السعادة بابنا؟! وكيف نتمتع بالرخاء والهناء وهذه حالنا؟! أما الآن فنستيقظ من نومنا متبادلين تحية الصباح، ثم نتناول طعام الإفطار ونخرج إلى العمل؛ حيث نقضي سحابة نهارنا في هدوء شامل لا يكدر صفوه مكدر، وعند الأوبة من العمل نلقى أمامنا من الطعام ما نأكله مريئا، ومن الشراب ما نلذ به هنيئا، وأمامنا متسع من الوقت يمكننا من الاهتمام بأنفسنا وتأدية فرائض العبادة لله، وإذا دلفنا إلى فراشنا ننام ملء جفوننا لا تزعجنا الأحلام، ولا ترهبنا المخاوف والأوهام، فها هي السعادة التي نقبنا عنها نصف قرن ولم نعثر عليها إلا في هذه الأيام.»
ما أتمت المرأة حديثها حتى سخر منها الحاضرون، إلا أن إلياس استفزه الغضب فقال لهم: «لا تسترسلوا في ضحككم أيها الرفاق؛ فليس في الأمر ما يستوجب المجون والمزاح، وما هي إلا حقائق الحياة نسردها لكم، لقد تملكنا الجهل بادئ بدء؛ فانسجمت عبراتنا حزنا على ذلك العز الضائع، ولكنها الحقيقة أراد الله أن يرينا إياها ناصعة، فنحن الآن نقصها عليكم؛ لا لمنفعة نترقبها؛ أو فائدة ننشدها، إنما هي لفائدتكم، وذكرى لمن يذكر.»
فقال الملا: «إن هذه لموعظة بالغة، وقول إلياس الصدق؛ إذ هو موافق لما ورد في الأحاديث المأثورة.» فأمسكوا عن الضحك، وأطرقوا كلهم يفكرون فيما دار بينهم من الحديث.
هوامش
الحكاية الثامنة
قمحة في حجم بيض الدجاج
عثر بعض الصبية ذات يوم في أحد الأقبية على شيء يشابه في الشكل حبة القمح في وسطها شق ينتهي بنهايتها، ولكنها في الحجم تبلغ بمقدار بيضة الدجاج، فرآها بعض السابلة في أيدي الصبية واشتراها منهم ببنس واحد، ثم حملها إلى المدينة؛ حيث باعها للملك كعجيبة من عجائب الزمن.
وجمع الملك علماءه وطلب منهم أن يكشفوا له عن حقيقة تلك العجيبة، فأغرق العلماء في التفكير والبحث والتمحيص دون أن يهتدوا إلى الحقيقة، وبقي أمرها خافيا إلى أن طارت نحوها دجاجة وهي في نافذة من نوافذ قصر الملك ونقرتها حتى نقبتها، وعندئذ انكشفت الحقيقة وانجلى السر، وعلم كل من رآها أنها حبة من القمح! فهرع العلماء إلى الملك وزفوا إليه بشرى الحقيقة.
فدهش الملك حينئذ وطلب إليهم أن يأخذوا في درس هذه القمحة ويخبروه في أي زمان زرعت وفي أي مكان نبتت، فعاد العلماء إلى الدرس والتفكير منكبين على كتبهم للوصول إلى الحقيقة، إلا أنهم لم يفوزوا بطائل، ولم يستطيعوا حل اللغز فقالوا للملك: «لا نستطيع أن نجيبك؛ لأننا لم نعثر في الكتب التي بين أيدينا على تفسير لهذا المعمى، فليأمر مولانا الملك بسؤال الزارعين في هذا الشأن؛ إذ قد يوجد بينهم من سمع شيئا من آبائه عن زراعة القمح في مثل هذا الحجم.»
فأرسل الملك بطلب مزارع من القرويين المعمرين، فبحث عمال الملك عن رجل فيه الأوصاف المطلوبة، وكان ردا شاحب اللون، لم تبق الأيام على هيكله البالي سوى جلد مجعد على عظم دقيق، وكان منحني الظهر يتوكأ على هراوتين تساعدانه على الحركة، فلما مثل بين يدي الملك عرض عليه القمحة، فجعل يفحصها بعينيه الضعيفتين اللتين لم يبق فيهما سوى بصيص ضئيل من نور الإبصار، فسأله الملك: «أيها الشيخ العجوز، أتخبرنا أين تنبت مثل هذه القمحة؟ وهل تذكر أنك اشتريت قمحا من نوعها أو زرعت في حقلك ما يماثلها؟»
وكان الشيخ الفاني مصابا بشيء من الصمم، فلا يسمع إلا بعد جهد، ولا ينطق إلا بمشقة، فأجاب بعد عناء شديد: «كلا، إنني لم أزرع مثل هذه القمحة في حقلي، ولم أشتر ما يشابهها، فالقمح الذي كنا نشتريه صغير الجرم كقمح هذه الأيام، ويمكن الملك أن يسأل أبي؛ إذ ربما يكون قد سمع شيئا عن وجود مثل هذه القمحة.» فأرسل الملك في الحال في طلب أبيه حتى إذا ما مثل بين يديه رأى الملك منه شيخا أقوى من الابن قليلا، ينظر بعينين أكثر بريقا من عيني الابن، ولا يعتمد في سيره إلا على هراوة واحدة، فسأله القيصر عندما عرضت عليه القمحة لفحصها: «أتعرف أيها الشيخ أين تزرع مثل هذه القمحة ومتى زرعت، وهل اشتريت ما يماثلها في زمنك؟»
وكان هذا العجوز أحسن سمعا من الابن فأجاب على الفور: «لم أزرع ولم أحصد مطلقا مثل هذا القمح في حقلي، أما أني اشتريت قمحا فلم يحصل في زمني؛ لأن النقد كان غير مستعمل في عهدي، وكان كل منا يزرع ما يحتاج إليه من الحنطة، ويبادل على الحاجيات الأخرى بالقمح الزائد عن حاجته، لا أعلم أين كان يزرع مثل هذا القمح؛ لأنني لم أر له مثيلا، وفي عهدنا كان القمح أكبر حجما، وأوفر برا، إلا أنه لم يكن في هذا الحجم، غير أنني سمعت من أبي أن قمح زمانهم كان أكبر حجما، وأوفر برا من قمح زماننا، ويجدر بك أن تسأله في هذا الشأن.»
فبعث القيصر في أثر والد هذا الشيخ، وما عتم أن جاء على قدميه لا يتوكأ على هراوة، ولا هراوتين، وكان براق العينين يتكلم بوضوح بلا تلجلج، وعندما أعطاه الملك حبة القمح تناولها وجعل يقلبها بين أصابعه قائلا: «لقد طال العهد، ولم أر قمحة من هذا الصنف.» ثم أخذ منها قطعة بثناياه فتذوقها، وأضاف قائلا: «إنها بلا ريب من قمح ذلك الزمن.»
فقال له الملك: «أخبرنا يا جد الجدود أين كان ينبت مثل هذه القمحة؟ وهل اشتريت ما يماثلها في عصرك؟ وهل زرعت ما يضارعها في حقلك؟»
فأجاب الشيخ العجوز: «إن مثل هذا القمح كان يزرع في كل مكان في عهدنا، وقد نشأت عليه وزرعته بنفسي وحصدت منه بيدي طول تلك الأزمان الغابرة.»
فسأله الملك: «وهل اشتريت مثل هذا القمح في زمنك؟»
فابتسم الشيخ وقال: «لم يفكر أحد من أبناء ذلك العصر في اقتراف مثل هذا الإثم؛ إذ كنا لا نعلم شيئا عن التعامل بالنقود، وكان كل إنسان يحتفظ من القمح بقدر كفايته.»
فقال القيصر: «إذن خبرني أيها الجد، أين كان حقلك الذي كنت تزرع فيه هذا القمح؟»
فأجاب الشيخ: «كان حقلي أرض الله الواسعة؛ فحيث أحرث أزرع، وحيث زرعت أحصد، وما كان لإنسان حقل يدعي ملكيته، كانت الأرض مباحة للجميع، ولا يملك الإنسان سوى عمله وكسب يده.»
فقال القيصر: «أجبني إذن عن سؤالين آخرين: أولهما: لماذا نما مثل هذه القمحة في ذلك العهد، ولم ينم في هذا الزمن؟ وثانيهما: لماذا جاءني حفيدك يتوكأ على هراوتين، وأبوه على هراوة واحدة، وأنت جئت بلا هراوة، براق الثغر، ثابت الجأش، متلألئ العين، فصيح اللسان؟! فما السر في كل ذلك؟!» فأجاب الشيخ العجوز: «السر في ذلك أن الناس أصبحوا لا يعولون في حياتهم على العمل بأنفسهم، وإنما جنحوا إلى الاتكال والتطفل على عمل سواهم، كان الناس في زماننا يعيشون تحت ظلال شريعة الله، فكان أحدهم لا يحتكم إلا بما تجنيه يداه، ويربأ بنفسه أن يغتصب ما جناه غيره.»
الحكاية التاسعة
ثمن باهظ
يوجد على سواحل البحر الأبيض المتوسط، بين حدود الجمهورية الفرنساوية والمملكة الإيطالية - حكومة صغيرة تسمى (موناكو)، يكاد عدد سكانها يقل عن أصغر المدن في أوروبا؛ حيث لا يزيد السكان فيها عن سبعة آلاف نسمة، لو قسمت عليهم أرض المملكة جميعها لما أصاب أحدهم فدانا واحدا.
ويحكم هذه الحكومة الصغيرة ملك مستقل يتوج كما يتوج باقي الملوك، وله قصر وبلاط وحاشية ووزراء، بل وله أسقف وقواد وأيام للاحتفالات الرسمية واستعراض الجند ومجالس ومحاكم وقوانين ونظامات وجيش يبلغ عدده ستين جنديا، وفي هذه المملكة الصغيرة ضرائب كما توجد في البلاد الأخرى، تجبى من التبغ والنبيذ والمشروبات الروحية، وضريبة أخرى على الأفراد، غير أنه وإن كان الناس يدخنون ويتعاطون المسكرات كما يفعل الناس في البلاد الأخرى - إلا أن ما يتوفر من هاتين الضريبتين قليل يكاد لا يكفي للمحافظة على أبهة الملك ومظاهره ولإعاشة الحاشية والموظفين؛ ولذلك لم ير الملك في تلك البلاد مندوحة من أن يفكر في إيجاد ضريبة جديدة مبتكرة تدر عليه بالأموال الوفيرة، وهذه الضريبة تأتي من بيت للقمار يلعب فيه الناس اللعب المعروف بالروليت، فالناس تلعب وسواء أخسروا أم كسبوا فلصاحب الدار جزء معلوم من الداخل والخارج، ومن هذا الجزء يستوفي الملك مبلغا كبيرا من المال.
والسبب في حصوله على الجزء الأوفى أن دار القمار الموجودة في مملكته هي التي بقيت في جميع أوروبا، وقد كان بعض صغار الملوك من الألمان أباحوا تأسيس دور من هذا النوع في بلادهم كانت سببا في ويلات على الناس والإنسانية، ورأى أهالي ألمانيا أنه كثيرا ما يفد الرجل إلى دار من هذه الدور؛ ليختبر حظه فيقامر بكل ما يملكه من المال، حتى إذا ما خسر اقترض وقامر بأموال غيره ففقدها أيضا، إلى أن يدب اليأس في نفسه فينزع إلى الانتحار؛ ولذلك ثاروا في وجوه ملوكهم، ووقفوا بينهم وبين اكتساب المال بهذه الطريقة الممقوتة، أما ملك موناكو فلم يعترضه معترض عن الاستمرار في إباحة المقامرة في بلاده، فظل سائرا في سبيله حتى اليوم دون أن يلقى ممانعة أو معارضة، حتى أصبح محتكرا لهذا النوع من العمل.
فكل إنسان يريد أن يقامر يجد أبواب موناكو مفتوحة له على مصراعيها، وسواء أكسب أم خسر، فلملك تلك البلاد نصيب مما في جيبه، يقول المثل: «إنك لا تستطيع أن تحوز قصورا شامخة من طريق العمل الشريف»، وملك موناكو ليعلم تماما أن مورد رزقه ملوث دنس، ولكنه مضطر؛ لأنه يريد أن يعيش، ولأنه يعلم أن الأموال الأخرى التي يجبيها من ضرائب التبغ والخمور ليست أصفى ولا أطهر من أموال القمار، فهو بذلك يعيش ويحكم ويهب الجوائز والأعطيات، ويحافظ على أبهة الملك كسائر الملوك الحقيقيين.
فهو يتصدر للحكم ويقيم مهرجانات التتويج ويعطي الأوسمة ويجازي ويعفو، وله كذلك مجلس للوزراء وقوانين ومحاكم لإقامة قسطاس العدل كسائر ملوك العالم، ولكن بنسبة صغيرة، وقد اتفق منذ بضع سنين أن وقعت جناية قتل في تلك المملكة الصغيرة؛ فقد اعتاد أهل تلك المملكة على السكينة والسلام، فلذلك لم يسبق لتلك الحادثة نظير في تلك البلاد، واجتمع القضاة اجتماعا رسميا وبدءوا ينظرون في القضية، وكان هناك نواب عموميون، فتناقشوا في القضية بعد درسها، وأصدروا حكمهم بأن يقطع رأس القاتل كما ينص القانون، ثم رفعوا الحكم إلى الملك فقرأه ووقع عليه بهذه الجملة: «إذا كان المجرم يجب أن يقتل فليقتل.»
إلا أنه اعترضتهم عقبة وقفت في سبيل تنفيذ هذا الحكم، تنبه لها الوزراء فيما بعد، وهي عدم وجود آلة جيلوتين للإعدام، أو جلاد للمملكة، وبعد المداولة فيما بينهم قرروا أن يكتبوا للجمهورية الفرنسية يسألونها عما يكلفه جلب آلة جيلوتين، وجلاد من فرنسا إلى موناكو، وبعد أسبوع ورد إليهم الرد بأن إرسال الآلة ومأمورها يكلف ستة عشر ألف فرنك، فلما عرض الجواب على الملك دهش منه وقال مستغربا: «ما هذا؟! إن الشقي لا يساوي هذا المبلغ؛ أندفع ستة عشر ألف فرنك دفعة واحدة؟! ألا توجد طريقة أرخص من هذه؟ إن المبلغ المطلوب لو وزعناه على سكان المملكة لأصاب الواحد منهم أكثر من فرنكين، وذلك لا يرضي الشعب، وسيحدث - بلا شك - هياجا في الأفكار والخواطر.» ثم دعي مجلس الوزراء للاجتماع والنظر في المسألة من جديد، فقرروا أن يرسلوا كتابا إلى مملكة إيطاليا؛ لما بينه وبين ملك البلاد من أواصر الأخوية في الملكية، وخليق بأن يلبي الطلب بثمن أقل وأرخص.
فأرسل الكتاب، وبعد زمن وجيز وردت الإجابة؛ فإذا فيها أن إيطاليا ترسل الآلة ومأمورها بسرور، ونظير نفقات تقدر بمبلغ اثني عشر ألف فرنك، وهو مبلغ أقل من الأول، إلا أنه لا يزال باهظا بالنسبة لتلك المملكة الصغيرة، ومن أجل ذلك دعي الوزراء للالتئام مرة أخرى، فاجتمعوا وتداولوا في إيجاد طريقة أرخص من هذه، فقال بعضهم: «ألا يمكن لأحد من الجنود أن يقوم بذلك العمل ولو بطريقة خشنة؟» وسرعان ما ارتاح الحاضرون لهذه الفكرة، وعزموا على دعوة قائد الجند إليهم؛ لأخذ رأيه في الموضوع، فلما حضر إلى المجلس قالوا له: «ألا يمكن أن تجد لنا جنديا يستطيع أن يقطع رأس إنسان؛ فإن الجنود لا يبالون بقتل البشر في الحروب، وهم يدربون في الحقيقة على القتل، ويتمرنون عليه؟»
فاستمهلهم القائد بينما يعرض الأمر على جنوده؛ ليرى من فيهم يقدر على القيام بتلك المهمة، وعندما ذهب إليهم وفاتحهم في الأمر لم يقبل أحد منهم أن يؤدي تلك المهمة البشعة، وقالوا جميعا: «إننا لا نستطيع أن نؤدي ما تدعونا إليه، وليس ذلك مما تعلمناه.»
فعاد الوزراء إلى التفكير في الأمر، واجتمعوا مرات متعددة، وقرروا أخيرا استبدال حكم الإعدام بالسجن المؤبد؛ ظنا منهم أن هذا أحسن حل للمشكلة، وأرخص كلفة، وأقل نفقة، فضلا عما فيه من مظهر الرحمة والشفقة، ولذلك لم يتردد الملك في قبول القرار والتصديق عليه، إلا أنه عقب صدور هذا القرار الثاني اعترضتهم مشكلة جديدة؛ ذلك أنه لم يكن في المملكة سجن يصلح لحبس المجرمين مدى الحياة، اللهم إلا سجن واحد بسيط كانوا يحبسون فيه أحيانا بعض الناس حبسا مؤقتا، وبعد إمعان النظر طويلا في الأمر توفقوا لإيجاد محل مناسب وضعوا فيه المجرم الشاب وعينوا له حارسا ليحرسه وليحضر له الطعام من مطبخ القصر.
ومر على ذلك عام كامل، وجاء اليوم الذي يعرض فيه حساب نفقات القصر على الملك، فلما عرض عليه رأى في قائمة الحساب نفقات جديدة تحت عنوان «نفقات المحافظة على السجين وإطعامه» تربو على ستمائة فرنك، وأنكى ما في المسألة أن السجين شاب يتمتع بصحة جيدة تدل على أنه سيعيش على الأقل خمسين عاما أخرى، ولذلك دعا الملك وزراءه إزاء هذا الأمر الخطير وقال لهم: «يجب أن تجدوا طريقة أرخص من هذه لنعامل بها هذا الخبيث، إن في الطريقة الحاضرة غبنا كبيرا، وإسرافا فاحشا، فابحثوا لنا عن طريقة تنقذنا منه.» فاجتمع الوزراء بصفة غير عادية، ونظروا في الأمر وفكروا فيه، فسنحت لأحدهم فكرة عرضها على زملائه بقوله: «إنني أرى أيها السادة أن نعزل الحارس ونستغنى عنه.»
فاعترضه بعض الوزراء قائلا: «ولكن السجين سيفر حينذاك.» فأجابه صاحبه: «ليفر إلى حيث يريد فنستريح منه.» وتم الاتفاق على هذا الرأي، وأقره الملك.
وفي اليوم التالي أمروا الحارس بأن يتنحى عن السجين وانتظروا ليروا ماذا يحدث، إلا أن السجين لم يحقق أملهم؛ فإنه بقي في سجنه حتى وقت الغذاء، فلما تأخر مجيء الطعام عن ميعاده فتح باب السجن لينظر الحارس فلم يجده، فذهب بنفسه إلى مطبخ الملك وأخذ من هناك طعامه ثم عاد إلى سجنه.
وفي الأيام التالية فعل ذلك أيضا، واستمر على هذه الطريقة دون أن تبدو عليه أمارة تدل على عزمه على الفرار ، فأسقط في يد الوزراء هذه المرة أيضا، وفكروا في كيفية الخلاص من هذه الحال، ففكروا فيما بينهم واستقر رأيهم بأن يقولوا له: «يجب عليك بأن تغادر السجن إلى حيث تشاء؛ لأننا لا نريد بأن تبقى فيه.» فأرسل إليه وزير الحقانية وأحضره بين يديه وقال له: «لم لا تهرب يا هذا؟! إنه لا حارس يحرسك الآن، فتستطيع أن تذهب إلى حيث تشاء من غير أن يؤاخذك الملك.»
فأجاب الرجل: «أعلم يقينا أن الملك لا يهتم بالأمر إن أنا فررت، ولكنني لا أجد مكانا أهرب إليه، ولا أعتقد أنني أستطيع أن أعمل عملا؛ لأنكم شوهتم سمعتي، وأفسدتم أخلاقي بحكمكم الذي أصدرتموه ضدي، وجعلتم الناس يولوني ظهورهم حيثما حللت، وفوق هذا كله فقد عطلت أشغالي وعاملتموني معاملة سيئة، لقد حكمتم علي بالموت في بادئ الأمر وكان يجب أن تعدموني، ولكنكم لم تفعلوا فلم أتذمر، ثم حكمتم علي بعد ذلك بالحبس المؤبد، وعينتم لي حارسا يحضر لي طعامي فلم أتأفف، وبعد زمن طردتموه وأرغمتموني على أن أنقل طعامي بنفسي، فما شكوت من ذلك أيضا، وها أنتم اليوم تريدون مني أن أهرب، الأمر الذي لا أرضاه ولا أقبل به، فاعملوا بي ما شئتم؛ فإنني لن أهرب أبدا!»
انعقد المجلس لينظر في الطريقة التي يجب اتباعها بعد ذلك؛ فرأى أن خير الطرق أن يعين له راتب سنوي بشرط أن يرحل من أرض المملكة ولا يسكنها، وعرضوا الأمر على الملك قائلين له: «إنه لا يوجد حل آخر لهذه المشكلة إذا أردنا أن نتخلص منه.» فوافق جلالته على إعطاء الرجل ستمائة فرنك في كل سنة؛ بشرط ألا يسكن في أراضي الملك.
وعلى هذه الصورة انتهى الأمر واستلم الرجل ثلث مرتبه السنوي مقدما وغادر تلك البلاد إلى بقعة تبعد عن الحدود نحو ربع ساعة في القطار؛ حيث ابتاع له قطعة من الأرض جعلها بستانا، فهو يعيش الآن برخاء، ويذهب في أوقات معينة ليقبض راتبه، وبعد أن يتناوله يمر ببيت القمار فيلعب بفرنكين أو ثلاثة؛ فإما أن يخسرها، أو يربح مثلها ، ثم يعود إلى مسكنه حيث يعيش بسلام واطمئنان.
وقد كان من حسن حظه أنه لم يرتكب جريمة في بلاد لا يبالي أهلها بما يكلفه إعدام الرجال، أو بما يلزم لسجنهم المؤبد من النفقات.
الحكاية العاشرة
الأسطورة الهندية: العمل والمرض والموت
من الأساطير المتداولة بين هنود أمريكا الجنوبية أن الله خلق الناس في بدء الأمر، ورفع عنهم كلفة العمل، فما كانوا يشعرون بضرورة المسكن والملبس والطعام، وظلوا على ذلك زمنا طويلا حتى صاروا مائة إنسان، وكانوا إلى ذلك الوقت لم يشعروا بألم المرض وأوجاع العلل.
ثم أراد الله أن يرى كيف يعيش خلقه، فلما وقف على حالهم ألفاهم يقاتل بعضهم بعضا، ووجد كلا منهم لا يعبأ بغيره، وإنما يهتم بأمر نفسه، مما يحول بينهم وبين الحياة السعيدة والعيش الرغد الذي ينتظره لهم؛ فقال: «إنما هذا البلاء جاءهم من طريق التفرق والانقسام، ومن اهتمام الواحد منهم بأمور نفسه فحسب.»
ولذلك غير مجرى حياتهم - وقد كانت من غير عمل - بأن سلط عليهم البرد والجوع؛ ليجبرهم على نحت المغاور والكهوف يلتجئون إليها؛ اتقاء البرد، وليضطرهم إلى السعي في جمع الفواكه والثمار والحبوب؛ دفعا لغائلة الجوع؛ إذ إن العمل يوجد فيما بينهم رابطة الاتحاد والتآلف فقال: «لا يستطيع الرجل بمفرده أن يصنع كل ما يلزمه من الآلات والأدوات، ولا يمكنه أن ينقل ما يحتاج إليه من الخشب، ولا أن يبني وحده المساكن التي تقيه العواصف والزوابع، ولا أن يفلح الأرض فيجمع محصولها، ثم يغزل وينسج ويصنع الملابس والثياب؛ لأن كل هذه الأمور تستدعي المعاونة، وبذلك يتم لبني الإنسان الرابطة والائتلاف والاتحاد دون أن يشعروا بالدافع؛ فيتم سرورهم، وتكمل سعادتهم.»
ثم مرت أيام وأزمان ورغب الرب في أن يزور خلقه؛ ليرى هل هم سعداء في حياتهم الجديدة أم أشقياء تعساء؟ ولما أتاهم وجدهم في حالة أسوأ من الأولى.
لقد فعلوا ما قدره لهم واشتركوا في العمل، ولكنه كان اشتراكا يعتوره النقص ولا يصل بهم إلى الغاية المطلوبة، فإنهم كانوا قد انقسموا إلى جماعات تفرقها الأهواء والغايات ، تحاول أن تستأثر بالعمل، وإلى عرقلة مساعي الأحزاب الأخرى، فصاروا يتنافسون ويتزاحمون ويتباغضون بكل ما فيهم من بغض وقوة؛ فساءت حالتهم، واشتد كربهم.
وعمد الرب بعد ذلك إلى إصلاحهم من طريق آخر؛ فقدر عليهم الموت، وألا يعلموا وقت هذا القضاء، وأشعرهم بذلك قائلا: «إذا ما عرفوا أن الموت لهم بالمرصاد يحافظون على أوقاتهم، ويضنون بأعمارهم؛ فلا يصرفونها إلا في الأعمال الصالحة.»
غير أن ذلك لم يثمر النتيجة المطلوبة، بل رأى الرب عند اطلاعه على حالهم في حياتهم الجديدة أنه لم يحدث تغيير في شأنهم ولا تبديل، بل بقي سوء الحال ملازما لهم؛ حيث اغتنم الأقوياء فرصة خضوع الإنسان لقانون الموت في أي وقت وأي حال، فأخضعوا لإرادتهم الضعفاء، بعد أن قتلوا من قاومهم، وتوعدوا المتمردين الباقين بالموت والهلاك.
فأصبح الأقوياء بهذه الوسيلة يجنون ثمرة كد الضعفاء، ونسج أعقابهم على هذا المنوال، فورثوا الاستئثار بجني الضعيف من أجدادهم، يعيشون على أكتاف الضعفاء من غير تعب ولا نصب.
ولكن الأقوياء ظلوا يشكون البطالة، ويتململون من حياة الكسل، بينما الضعفاء يتألمون ويتذمرون من اشتغالهم بأكثر مما يطيقون، ويتضجرون من زيادة التعب وقلة الراحة، واتسعت حلقة الخلاف أثناء ذلك بين الفريقين، واشتدت أسباب العداوة والبغضاء، وهكذا صارت حياة الناس بعيدة عن غاية السعادة.
ورأى الرب كل ذلك، فعمد إلى إصلاح حالهم ومعالجة شأنهم بوسيلة أخرى، فسلط عليهم ضروب الأمراض وأنواع العلل؛ ظنا منه أنه متى تعرض الناس للعلل والأمراض على السواء تتحرك الرحمة في قلوب الأصحاء على المرضى؛ فيشفقون عليهم، ويواسونهم، ويمدون إليهم يد المعونة؛ ليقابلهم المرضى بالمثل إذا ما تعرضوا لسهام المرض.
وبعد زمن طويل عاد الرب إلى اختبار حالتهم الجديدة، فوجدهم أسوأ من ذي قبل، وأشد كربا مما كانوا عليه في سالف العهد؛ لأن الأمراض التي سلطها عليهم لتكون واسطة لتأليف القلوب كانت سببا في التفرقة والتباعد؛ إذ بقي الأقوياء يستخدمون الضعفاء وقت المرض، ولا يهتمون بشأنهم عندما تنتابهم العلل، وهكذا كان أولئك الضعفاء المساكين يعملون لمنفعة غيرهم طول حياتهم، ويخدمون سادتهم في حالتي الصحة والمرض، بينما هم لا يجدون فرصة لمداواة أمراضهم، ولا يلقون عطفا وعناية من أحد، لقد بنيت لهم بيوت خاصة يقيمون فيها أوقات المرض؛ فيحيون أو يموتون؛ لئلا يعكر منظرهم - وهم يعانون أوجاع المرض - صفو أولئك الأقوياء وسرورهم، فيتركون في تلك المساكن الخاصة لعناية أناس مأجورين يمرضونهم بلا دافع عطف أو حنان، وفوق هذا كله حمل خوف العدوى الكثيرين على اجتناب الاختلاط بالمريض، والابتعاد عن كل من يخالطه.
ورأى الرب هذه الحالة فقال: «إذا كانت هذه الوسيلة لم تكف لإفهام الناس أين تكون السعادة؛ فليكن الألم في المستقبل مرشدا لهم.»
ثم ترك أمور الناس لهم يتصرف فيها كيف شاءوا.
هذه هي أسطورة هنود أمريكا، وقد مرت على البشر عصور كثيرة قبل أن يدركوا كيف يكونون سعداء، وفي الأيام الأخيرة بدأ قليلون يشعرون بأن العمل ليس معناه استعباد الناس، وإنما هو وظيفة عامة مشتركة، يؤلف بين الناس ويجمع شملهم، وصاروا يفهمون أن الشيء الوحيد الذي نستطيع به أن نقابل تهديد الموت الواقف لنا بالمرصاد هو صرف أعمارنا في الاتحاد والألفة والمحبة والسلام، وأن العلل والأمراض أبعد ما تكون عن تفريق الناس وتشتيت شملهم، بل هي بالعكس الوسيلة التي تدفعهم إلى التحابب والتآلف.
صفحة غير معروفة