ولكنه كان مع كل هذا الذي يضطرب في أعماقه لا يملك قلبه أحيانا من الحنين إلى علية، فتنازعه نفسه إلى السفر إلى الإسكندرية؛ ليقضي حينا في البلد الذي تقيم فيه، ويسير على الشواطئ التي لا شك في أنها كانت تخرج إلى النزهة عندها، ويملأ صدره من الهواء الذي يهب على دارها، وكان يتمنى لو وقع بصره عليها في نظرة عاجلة ليطفئ بها لاعج الشوق الذي كان ما يزال يضطرم بين جنبيه مع كل حنقه وألمه، بل لقد كان يصور لنفسه أن الأمر لم ينفلت بعد من يديه وأنه ما زال يستطيع - إذا أراد - أن يذهب إلى علية ويكشف عما يغمره من حبها، فلا يلبث أن يهزم خصمه ويفوز برضائها، ولكنه كان يطوي أياما طويلة مترددا في نزاع شديد بين ميله وكبريائه حتى تتغلب عليه الكبرياء آخر الأمر فيعدل عن السفر ويقبل على عمله في عنف، أو يخرج إلى نزهة أخرى بين الآثار ليسرب شجونه بين أطلالها.
هكذا مضت عليه الأيام شهرا بعد شهر، وكانت الحرب ما تزال ثائرة في الخافقين تخيم على البلاد بظلالها ورهبتها، وكانت صحف الأخبار تحمل من أنبائها كل يوم ما يزيد على أعجب وثبات الخيال، فبعد أن كانت الجيوش الغازية الجبارة تطوي الدول تحت قدميها؛ ارتدت موجتها خاسئة وعاد النصر مع القضاء الساخر إلى الكفة الأخرى، وبدأت جيوش الحلفاء تطوي الدول تحت قدميها كما كانت جيوش ألمانيا تطويها من قبل، وزحفت مثل موجة عنيفة أخرى تحطم وتطحن وتعيد سيرة السطوة الأولى قائلة: إن الحق للقوة، وأخذت الدول المنتصرة تحتفل بالنصر وتتهم المخذولين على جرائم تشبه ما كان المنتصرون بالأمس يتهمون به أعداءهم، وما الجريمة في الحالين سوى الهزيمة والخذلان، فكانت العدالة عند الخصمين تنطق دائما أن الحق للقوة.
ورأى فؤاد يوما في بعض تجواله بالقرى منظرا عجبا على جانب النيل عند قرية منعزلة، رأى جماعة من نساء الغجر يلتفون حول امرأتين تتباريان مباراة عجيبة لم يشهد من قبل مثلها، وقفت المرأتان ومع كل منهما كيس كبير فيه قطع من نقود الفضة، وكانت كل منهما تقبض من كيسها قبضة ثم تقذف بها إلى أعماق النهر واحدة بعد الأخرى، فسأل من هناك عن سر هذا الإسراف، فعلم أنها طريقتهن في إثبات المقدرة والقوة، فمن فرغ كيسها قبل منافستها كانت عليها الغلبة، وكان لا مفر لها من الخضوع والاعتراف بالسيادة لصاحبتها.
وتبسم في سخرية مرة من هذا الحمق البليغ، ولكنه عاد فسأل نفسه أليس هذا حال الأمم الكبرى التي تتقاسم هذه الأرض فيما بينها؟! إنها تتبارى في الابتكار والابتداع وتتنافس في الإنتاج والاستكثار من الخير وتبسط سلطانها على أركان المعمورة فتنزع منها معدنها ونباتها وما بطن وما ظهر من ثروتها؛ لكي تملأ بذلك خزائنها، ثم ينتهي بها الحال آخر الأمر إلى مباريات لا تقل في حمقها وغرابتها عن مباراة الغجريتين اللتين شهدهما على جانب النهر، فتبذل كل منها ما أصابت من غنى وتتجه كل منها بما أتيح لها من علم وفن ونبوغ لتبدده في حرب طاحنة يهوي فيها بعضها على بعض في تخريب وتدمير، وتتأجج ما بينها الأحقاد وتسفك الدماء ولا قصد لها من وراء ذلك إلا أن تفوز إحداها بالسيادة وتذعن لها الأخرى عن يد وهي صاغرة، ولو ثارت الحروب بين تلك الدول لأن بعضها جائع يسطو على جاره ليسد جوعه، أو لأن بعضها عار يريد أن ينتزع منه ما يستر به جسمه كما تفعل قبائل البدو إذ تغير على ما يجاورها من الريف، لكان عذرها مفهوما إذا احتكمت إلى قانون الغابة الصارم، ولكن تلك الدول تتحارب وخزائن كل منها منتفخة مثل كيسي هاتين الغجريتين، فما أعجب الغرور الإنساني! وهو غرور لا فرق فيه بين صنف وصنف من البشرية المسكينة، ولما مضى العام الأول على فؤاد في الصعيد جاءت إليه برقية من سعيد يدعوه فيها إلى قضاء الصيف في الإسكندرية حتى يشهد حفل زواج علية من صدقي! فيا للصدمة الهائلة! أهكذا ينتهي إلى الحرمان المحقق وتتجسد وساوسه في الحقيقة القاسية التي تنكشف له؟ وكان أول خاطر طرأ عليه أن بعث برقية يعتذر فيها عن السفر، ثم استأذن في أيام يستريح فيها من عناء العمل، وهرع إلى القاهرة ليقيم حينا في جوار أمه كأنه عاد طفلا يطلب حمايتها.
ولما عاد إلى عمله كان الصعيد يتوهج بحره فيهب الهواء كأنه أنفاس لهيب، فإذا رها وخمد كان الجو مثل جوف أتون، وكان منذ نشأته يضيق بالحر ولا يطيق وطأته، فكان يعاني من أيامه ولياليه آلاما مبرحة، كان إذا خرج إلى طرف من الريف في بعض عمله عاد متوعكا، وإذا احتجب بين جدران منزله أحس كأنها تنطبق عليه وتكتم أنفاسه، وكانت شجونه الثائرة أشد عليه من كرب الوعكة وضيق الوحدة.
ووضعت الحرب أوزارها بعد حين وقيل عاد السلام، ولكن الحياة كانت ما تزال تنضح دما من جراحها، كأن الحرب قد أطلقت غرائز النفوس فهيهات لها أن تعود إلى حدودها، كان كل من استطاع أن يغنم غنيمة سارع إليها، فالتاجر يبتز إذا تمكن من الابتزاز في ستر القانون، فإذا لم يقنع بما يصيب من ربح لم يخش أن يغامر في التماس الحيل ليخلص إلى ربحه من وراء القانون، والموظف لا يكفيه مرتب الوظيفة فيحتال على رزقه بالرشوة أو الاختلاس متسترا بما يتهيأ له من مسارب مظلمة، وصاحب المهنة لا يرضى إلا أن يشارك في أسلاب المعركة الحامية بعد أن يرقد ضميره في فراشه لينام عنه، ونشأت طبقة جديدة من الوسطاء والمهربين لتخدم في فوضى المعمعة وتصيب من فضلاتها مغنما، وكان من وراء هؤلاء جميعا طبقة أخرى متربصة تهوي بين حين وحين على الميدان المضطرب لتخطف من المحملين بالأسلاب قطعة تجعلها نصيبها، كما تهوي الذئاب والنسور على أطراف القرى فتصيب ما تستطيع الوصول إليه من قطعانها، هكذا كانت الحياة تضطرب حول فؤاد، وكان عليه أن يرفع سيف العدالة الرهيبة على كل من يتعدى حدود القانون من هؤلاء جميعا، فكان لا يكاد يستقر يوما في داره إلا إذا اضطره الضعف فلزمها مكرها، ومع هذا فقد مضى عليه سائر فصل الصيف ولم يفكر في الهروب مما يعاني من المشقة والألم، فقد كان ذلك أهون عليه من الفراغ، بل لقد كان يرى في تلك الشواغل والأعباء والآلام ما يحول بينه وبين الأحزان التي تعذبه، فلم يطلب إجازة سوى أيام قليلة بين حين وحين؛ ليذهب إلى القاهرة ليلم بأمه ويتنفس من جانب النيل أنفاسا.
وكانت الأم كلما رأته بادرته بالحديث في أمر زواجه، فتصف له من عرفت من الفتيات، فهذه قريبة جميلة من أهلها تجمع الجمال إلى تمام العقل، وأبوها سري غني قد ضن بها على الفتيان الذين تقدموا إليه يخطبونها؛ لأنه كان يدخرها له إذا هو خطبها، وهؤلاء كثيرات غيرها من بنات الجيران والأصدقاء كلهن من ذوات الحسن والنسب الرفيع والثقافة العالية، ولا تمتنع عليه إحداهن إذا هو شاء أن يتخذها زوجة، فكان لا يلبث أن يضيق بأحاديثها ويتكلف المرح قائلا إن أوان الزواج لم يحن له بعد، ثم يخلو في حجرته فتجتمع عليه شجونه تحدثه حديثا آخر غير حديث أمه، أليس هؤلاء الفتيات جميعا مثل علية التي آثرت الفتى الذي أعشى عينيها بمظهره الأنيق وخلب سمعها بلفظه المعسول؟ ألم يحمل لها أصدق الحب وأقواه ثم تركته في صحراء جرداء وذهبت إلى الفتى الذي غرها برونقه؟ وهل كان في هؤلاء الفتيات من تستطيع أن تملك قلبه كما ملكته علية أو من يستطيع هو أن يهب لها من الحب ما وهب لعلية؟ فما تزال الهواجس تحتوشه حتى يضيق بها فيسرع أول شيء في الصباح إلى أمه يستأذنها ليعود إلى صعيده الجاهم، فقد كان بحره وشقائه ووحشته أرفق به من فراغه إلى تلك الشجون، ومضت أيام الحر ثم أقبلت بعدها أيام الخريف فالشتاء، وعاد إلى سرحاته بين الآثار الجليلة يحاول أن يسمو فيها على هذه الحياة الصغيرة التي تحبسه في حدودها.
هكذا مرت به شهور عامه الثاني فالثالث بالصعيد، وطلع عليه الحر مرة أخرى فجأة كأنه انصب في ليلة من أطباق السماء، ووقع بصره ذات صباح على إعلان في صحيفة أنباء عن لبنان ومباهجه بعد أن فتحت إليه السبيل، فكأنه وجد ضالة كان ينشدها، فهو لبنان الذي يستطيع أن يجد فيه ملجأ من حياته الرتيبة الموحشة، وهو الذي يبعد به عن الإسكندرية وشواطئها، فاستأذن في إجازة شهرين وسافر إلى القاهرة ليقيم فيها أياما قبل سفره.
ولم يكن في حاجة إلى إطالة الاعتذار إلى أمه عن مفارقتها إلى لبنان وحده، فقد كان أحب الأشياء إليها أن تراه سعيدا، ولم يكن لها أرب في السفر إلى قطر بعيد يقع من وراء بحر فسيح.
ولما أعد عدة السفر وثب في الطائرة فوق شاطئ البحر الأبيض ورآه من تحته شطا ضئيلا يدرج ظل الطائرة من فوقه كما تدرج النملة فوق مصور جغرافي، هذا هو البحر الذي تعيش علية إلى جوار شاطئه مع زوجها صدقي! هذا هو الخط الضئيل من الرمال الصفراء التي طالما سار عليها تتقاذف به الأهواء فحينا تتدفق فيه الحياة السعيدة وحينا تلفه ظلمة اليأس، وما كان أتفه ذلك الشاطئ وهو ينظر إليه من أجواز السماء!
صفحة غير معروفة