190

الأيام

تصانيف

ولم يكد الإنجليز يعلنون زهدهم في الحماية وميلهم إلى إلغائها وإقامة نظام خير منها، ولم تكد وزارة الثقة - كما كانت تسمى في تلك الأيام - تنهض بأعباء الحكم، ولم يكد سعد رحمه الله يعود إلى مصر، حتى نجم الخلاف بين الوزارة وبين الوفد حول المفاوضات؛ من الذي يجريها؟!

أتجريها الوزارة لأنها تمثل السلطان الشرعي النظامي؟

أم يجريها الوفد لأنه يمثل الشعب الثائر؟

وكان الغريب من أمر هذا الخلاف أنه كان يتصل بالمظاهر والصور لا بالوقائع وحقائق الأمر، كان أعضاء الوزارة وأعضاء الوفد يؤمنون جميعا بحق مصر في الاستقلال، وبأن هذا الاستقلال يجب أن يستخلص من الإنجليز بالمفاوضة الحرة؛ إيثارا للسلم ورغبة في العافية وبخلا بالدماء على أن تراق وبالنفوس على أن تزهق قبل أن تستنفد وسائل السلم. ولكنهم على هذا الاتفاق والإجماع كانوا يختلفون في مظاهر هذه المفاوضة؛ لأن من يجريها سيتاح له تحقيق الاستقلال إن قدر له النجاح.

وكذلك انقسم المصريون وثارت بينهم فتنة منكرة جعلت بأسهم بينهم شديدا.

ونظر صاحبنا فإذا العلماء والمفكرون كغيرهم من الناس قد انقسموا إلى فريقين: فريق منهم مال إلى الوفد وقال مع القائلين: «لا رئيس إلا سعد.» وفريق آخر مال إلى الوزارة وقال مع القائلين: «إنما المفاوضات لمن ولي الحكم.» ثم نظر صاحبنا فإذا هو كغيره من عامة الناس، وإذا هو مع الفريق الذي مال إلى الوزارة ورئيسها عدلي باشا رحمه الله.

وما أسرع ما اضطرمت الفتنة حتى مس لهبها كل نفس وكل عقل وكل ضمير، وإذا الوفد يتمنى الإخفاق للوزارة في مفاوضاتها، ويدبر لهذا الإخفاق، وإذا أتباع الوفد يجهرون في غير تحفظ بدعائهم ذاك البغيض: «الحماية على يد سعد خير من الاستقلال على يد عدلي»!

وإذا صاحبنا ينفق أقصى ما كان يملك من العنف في مهاجمة هؤلاء الوفديين الذين اتخذوا من بغضهم لعدلي وأصحابه، ومن حرصهم على رياسة المفاوضات دينا، وإذا هو يكتب ذات يوم في صحيفة «المقطم» ساخرا من السعديين: «يقول الوفديون: لا رئيس إلا سعد كما يقول المسلمون: لا إله إلا الله.»

وقد بلغ الشر أقصاه بين الفريقين حتى انتهى إلى إخفاق المفاوضات، ولم ينزل الإنجليز لعدلي عن الاستقلال وكثرة المصريين لا تؤيده بل لا تحبه بل تبغضه وتبغض أصحابه أشد البغض وأنكره.

ويعود عدلي مخفقا، فيفرح بإخفاقه الوفد وأتباعه ، ويزعم أصحاب عدلي أن صاحبهم قد كان أبيا كريما قد ثبت للإنجليز فلم ينزل لهم عن حق الوطن، ولم يقبل منهم الدنية، وعاد أشم مرفوع الرأس.

صفحة غير معروفة