وتبلغ السفينة ثغر الإسكندرية، وإذا الوطن زاهد في هذين الصاحبين البائسين، لا يريد أن يلقاهما ولا أن يضمهما بين ذراعيه؛ فقد كانت الحرب قائمة، وكانت قيودها شدادا ثقالا، وكان أمر مصر إلى غير أهلها، وكان أمر الثغور خاصة ضيقا حرجا، قد فرضت عليه رقابة أي رقابة، فلا تكاد السفينة تستقر في مرساها، ولا يكاد الصاحبان يحاولان الهبوط بها، حتى يردا عن ذلك ردا شديدا، فلم يكن يكفي أن يصل المصري إلى وطنه ليدخله، وإنما كان يجب أن ينتظر ويطول انتظاره حتى يؤذن له بالدخول.
وقد انتظر الصاحبان حتى تستأذن السلطة في السماح لهما بترك السفينة والنزول إلى أرض الوطن، وأبرقا إلى الجامعة وإلى من يعرفان من الصديق يتعجلان هذا الإذن. ولكن الأمور لم تكن تجري في يسر وإسماح، وإذا هما يقيمان في السفينة يوما ويوما، وصنع الله لهما في هذين اليومين أن كانا فيهما مضطربين أشد الاضطراب، يريدان أن تفتح لهما أبواب الوطن، ويتمنيان في أعماق ضمائرهما أن تظل مغلقة، وأن تعود بهما السفينة إلى مارسيليا.
ولكن ماذا يصنعان في مارسيليا؟
وكيف يعيشان في فرنسا؟
بل كيف يعيشان في السفينة نفسها في أثناء عودتهما إلى مارسيليا؟ ومن لهما بثمن هذه العودة؟
ولكن أبواب الوطن تفتح لهما بعد لأي، والوطن يتلقاهما كئيبا، فيضيف إلى حزنهما حزنا وإلى شقائهما شقاء.
وقد أقام صاحبنا في القاهرة قريبا من ثلاثة أشهر لا يعرف أنه شقي في حياته كلها كما شقي فيها، ولا أنه سعد في حياته كلها كما سعد فيها. ولكن شقاءه كان طويلا ملحا، وسعادته كانت سريعة خاطفة. كان يشقى بالتبطل والفراغ والبؤس، وكان يسعد بذلك الصوت العذب الذي كان يناجيه بين حين وحين، وربما أيقظه من نومه مفزعا، مسرورا مع ذلك بهذا الفزع. وكان يسعد بهذه الرسائل التي كانت تصل إليه بين حين وحين فيها كثير من الأمل المشفق، وكثير من التشجيع على احتمال النائبات، وربما اشتملت بعض هذه الرسائل على زهرة قد جففت وأرسلت إليه ليحملها كما تحمل التمائم ولتذكره إن عرض له النسيان - وشهد الله ما عرض له النسيان قط.
في هذه الأشهر الثلاثة شكا الفتى كما لم يشك قط في حياته، شكا شعرا ونثرا حتى لامه في ذلك بعض الصديق، وقال له قائلهم: أين الصبر؟ وأين الإجمال؟ وأين الشجاعة والاحتمال؟ وأين ذهب عنك الحياء حتى كتبت في بعض الصحف هذين البيتين:
الحمد لله على أنني
قد صرت من دهري إلى شر حال
صفحة غير معروفة