وسلطن هذا هو اسم الرفيق سلطان الذي قادهم إلى الفندق، ولكن ضرورة الشعر حذفت ألفه ليستقيم الوزن، وما أكثر ما تحذف ضرورات الشعر من الحروف!
الفصل الحادي عشر
الفتى في فرنسا
واستقبل الفتى حياته في مدينة مونبلييه سعيدا بها إلى أقصى ما تبلغ السعادة، راضيا عنها كأحسن ما يكون الرضا. فقد حقق أملا لم يكن يقدر أنه سيحققه في يوم من الأيام.
وكان يكفيه أن يفكر في صباه ذلك البائس الذي قضاه مترددا بين الأزهر وحوش عطا، تشقى نفسه فى الأزهر، ويشقي نفسه وجسمه فى حوش عطا، حياة مادية ضيقة عسيرة كأقسى ما يكون الضيق والعسر، وحياة عقلية مجدبة فقيرة كأشد ما يكون الإجداب والفقر، ونفس مضيعة بين عسر الحياة المادية وفقر الحياة المعنوية. ثم يوازن بين حياته تلك وبين الحياة الجديدة التى أخذ يحياها فى هذه المدينة الفرنسية، لا يحس جوعا ولا حرمانا، يحمل إليه فطوره إذا أصبح ناعما لينا لا خشونة فيه ولا غلظ. فإذا جاءت أوقات الطعام في وسط النهار وفي آخره، وجد في اختلاف الألوان وتنوعها ما يذكره بطعامه ذاك المتشابه حين كان يغمس خبزه في عسله ذاك الأسود مصبحا وممسيا، وحين كان يحب أن يتخفف من طعامه ذاك أحيانا ويخالف عن حلاوته البغيضة إلى شيء آخر، فلا يجد إلا ذلك الطعام الغليظ الذي كان الأزهريون يعيشون عليه في تلك الأيام. فإذا أحب أن يتفكه فلا منصرف له عن البليلة في الصباح والتين الغارق في الماء إذا كان المساء أو الضحى. وأين ذلك الطعام الغليظ من هذه الألوان المترفة الرقيقة التي كانت تعرض عليه في غدائه وعشائه في غير تقتير ولا تضييق، وفي كثير من إلحاح الخدم وأصحاب الفندق عليه في أن يصيب منها أكثر مما أصاب.
ويذهب إلى الجامعة فيسمع فيها ما شاء الله أن يسمع فيها من دروس الأدب والتاريخ واللغة الفرنسية، لا يسمع درسا إلا أحس أنه قد علم ما لم يكن يعلم، وأضاف إلى علمه القديم علما جديدا. وهو على قلة حظه من إحسان اللغة الفرنسية لم يكن يجد كثيرا من المشقة، ولا يبذل كثيرا من الجهد، ليفهم ما كان الأساتذة يلقون من الدروس فهما يغنيه ويرضيه. كان الفتى يوازن بين حياته هذه الجديدة وحياته تلك القديمة، ويقيس ما بينهما من الفرق العظيم، فيرى نفسه أسعد الناس وأعظمهم حظا من النجح والتوفيق. وهو مع ذلك لم يكن ميسرا عليه في الرزق، وإنما كان عليه أن يدبر مرتبه ذاك الذي لم يكن يتجاوز اثني عشر جنيها لينفق منه على نفسه وعلى أخيه. وقد تهيأ له ما أراد من ذلك في غير تكلف ولا عناء. كانت الحياة الفرنسية في تلك الأيام هينة ميسرة، تتيح لفتيين أجنبيين مثله ومثل أخيه أن يعيشا بهذا المرتب الضئيل عيشة راضية حين تقاس إلى ما كانا يلقيان في مصر من قسوة الحياة وشظفها.
ثم لم يلبث الفتى أن فكر في أنه لم يعبر البحر إلى فرنسا ليتردد بين الفندق والجامعة، وإنما أقبل إلى هذا البلد الغريب ليدرس ويحصل ويجوز الامتحان، ويظفر بالدرجات الجامعية التي لم يظفر بها أحد قبله من مواطنيه. فلم يكن له بد من أن يظفر بدرجة الليسانس، ولم يكن إلى الظفر بتلك الدرجة سبيل في تلك الأيام إذا لم يحسن الطالب لغتين لم يكن من إحسانهما بد، إحداهما: لغة الدرس وهي اللغة الفرنسية التي كان الفتى قد أخذ منها بحظ يسير، والأخرى: لغة قديمة كان الفتى يسمع عنها ولا يحققها ولا يعرف إلى العلم بها سبيلا، وهي اللغة اللاتينية. •••
وقد أخذ الفتى يتهيأ لإتقان الفرنسية من جهة، وتعلم اللاتينية من جهة أخرى، فالتمس لنفسه معلما خاصا يعينه من ذلك على ما كان يريد. وقد جعل رفاقه يبحثون له عن المعلم الذي يلائمه حتى قيل لهم: إن صاحبكم مكفوف، وليس له بد من أن يتعلم كتابة المكفوفين وقراءتهم، ليستطيع أن يعتمد على نفسه في تحصيل ما يريد أن يحصل من العلم.
ثم قيل لهم: إن في تلك المدرسة من مدارس المكفوفين أستاذا ضريرا قد يعين صاحبكم على حاجته، فسعوا إلى هذا الأستاذ، وقدموا إليه صاحبهم. وأعلن الأستاذ إليهم أنه زعيم بأن يعلم رفيقهم الكتابة والقراءة الفرنسية واللاتينية جميعا، ولم يطلب على هذا إلا أجرا ضئيلا فى نفسه، ولكنه كان ثقيلا على هذين الأخوين اللذين كانا يعيشان بمرتب شخص واحد.
وقد قبل الفتى مع ذلك أن يشق على نفسه وعلى أخيه، وأن يؤدي إلى الأستاذ أجره الذي طلبه، وكتب إلى الجامعة يستعينها فلم تبخل عليه بالعون، وقامت عنه بأداء هذا الأجر.
صفحة غير معروفة