ولم يكن للشيخ حديث إلى تلاميذه إذا تجاوز درس الأدب إلا الأزهر وشيوخه وسوء مناهج التعليم فيه. وكان الشيخ قاسيا إذا طرق هذا الموضوع، وكان نقده لاذعا وتشنيعه على أساتذته وزملائه أليما حقا، ولكنه كان يجد من نفوس تلاميذه هوى، وكان يؤثر في نفس هذا الفتى خاصة أبلغ تأثير وأعمقه.
وإذا الفتى يؤثر هذا الدرس على غيره من الدروس شيئا فشيئا، ويختص اثنين من التلاميذ المقربين إلى الشيخ بمودته ثم بوقته. وإذا هم يلتقون إذا كان الضحى فيسمعون للشيخ، ثم يذهبون إلى دار الكتب فيقرءون فيها الأدب القديم، ثم يعودون إلى الأزهر بعد العصر فيجلسون في هذا الممر بين الإدارة والرواق العباسي، يتحدثون عن شيخهم وعما قرءوا في دار الكتب، ويعبثون بشيوخهم الآخرين، ويعبثون بالداخلين والخارجين من الشيوخ والطلاب. فإذا صليت المغرب دخلوا الرواق العباسي فسمعوا درس الشيخ بخيت الذي كان يقرأ في تفسير القرآن مكان الأستاذ الإمام بعد أن توفي.
ولكن الفتية لم يكونوا يسمعون للشيخ الذي يقرأ كما كان يسمع له غيرهم من الطلاب، وإنما كانوا يسمعون له ليضحكوا منه وليقيدوا عليه أغلاطه، وكانت كثيرة ولا سيما حين كان يعرض للغة والأدب، وليشنعوا عليه بهذه الأغلاط بعد الدرس، وليعرضوا هذه الأغلاط من الغد على شيخهم المرصفي، فيقدموا إليه مادة جديدة للتشنيع على أساتذته وزملائه من الشيوخ.
وقد كانت نفوس هؤلاء الفتية ضيقة بالأزهر، فزادها الشيخ ودرسه به ضيقا، وكانت نفوسهم شيقة إلى الحرية، فحط الشيخ ودرسه عنها القيود والأغلال.
وما أعرف شيئا يدفع النفوس، ولاسيما النفوس الناشئة، إلى الحرية والإسراف فيها أحيانا كالأدب، وكالأدب الذي يدرس على نحو ما كان الشيخ المرصفي يدرسه لتلاميذه حين كان يفسر لهم «الحماسة» أو يفسر لهم «الكامل» بعد ذلك؛ نقد حر للشاعر أولا، وللراوي ثانيا، وللشرح بعد ذلك، وللغويين على اختلافهم بعد أولئك وهؤلاء، ثم امتحان للذوق ورياضة له على تعرف باطن الجمال في الشعر أو النثر، في المعنى جملة وتفصيلا، وفي الوزن والقافية وفي مكان الكلمة بين أخواتها، ثم اختبار للذوق الحديث في هذه البيئة التي كان يلقى فيها الدرس، وموازنة بين غلظة الذوق الأزهري ورقة الذوق القديم، وبين كلال العقل الأزهري ونفاذ العقل القديم، وانتهاء من هذا كله إلى تحطيم القيود الأزهرية جملة، وإلى الثورة على الشيوخ في علمهم وذوقهم وفي سيرتهم وأحاديثهم بالحق في كثير من الأحيان، والإسراف والتجني في بعض الأحيان.
ومن أجل هذا لم يثبت حول الشيخ من تلاميذه الذين كثروا أول الأمر إلا نفر قليل، وامتاز منهم هؤلاء الثلاثة خاصة، فكونوا عصبة صغيرة ولكنها لم تلبث أن بعد صوتها في الأزهر، وتسامع بها الطلاب والشيوخ، وتسامعوا خاصة بنقدها للأزهر وثورتها على التقاليد، وبما كانت تنظم من الشعر في هجاء الشيوخ والطلاب، وإذا هي بغيضة إلى الأزهريين مهيبة منهم في وقت واحد.
ولم يكن الشيخ أستاذا فحسب، ولكنه كان أديبا أيضا، ومعنى ذلك أنه كان يصطنع وقار العلماء إذا لقي الناس أو جلس للتعليم في الأزهر، فإذا خلا إلى أصدقائه وخاصته عاش معهم عيشة الأديب، فتحدث في حرية مطلقة عن كل إنسان وعن كل موضوع، وروى لخاصته من شعر القدماء ونثرهم وسيرتهم ما يثبت أنهم كانوا أحرارا مثله، يقولون في كل شيء وفي كل إنسان لا متنطعين ولا متحفظين، كما كان يقول.
وكان أيسر شيء وأهونه أن يذهب الطلاب مذهب شيخهم، ولا سيما إذا أحبوه وأكبروه، ورأوا فيه المثل الأعلى للصبر على المكروه والرضا بالقليل، والتعفف عما لا يليق بالعلماء، والترفع عما كان ينغمس فيه كثير من شيوخ الأزهر من ألوان السعاية والنميمة والكيد والتقرب إلى الرؤساء وأصحاب السلطان.
كان تلاميذ الشيخ يرون منه ذلك رأي العين ويلمسونه بأيديهم، ويعيشون معه، في حين كانوا يزورونه في منزله، ذلك المتهدم الخرب القديم في حارة قذرة من حارات باب البحر يقال لها: «حارة الركراكي»، هناك في أقصى هذه الحارة كان يسكن الشيخ، يسكن بيتا قذرا متهدما، تدخل فيه من بابه، فإذا أنت في ممر ضيق رطب تنبعث فيه روائح كريهة، قد خلا من كل شيء إلا هذه الدكة الخشبية الضيقة الطويلة العارية التي قد أسندت إلى حائط يتساقط منه التراب.
وكان الشيخ ينزل لتلاميذه فيجلس معهم على هذه الدكة، ولكنه يجلس راضيا مطمئنا، يسمع لهم باسما ويتحدث إليهم أرق الحديث وأعذبه وأصفاه وأبرأه من التكلف، وربما كان مشغولا حين يقبل تلاميذه لزيارته، فيدعوهم إلى غرفته، فيصعدون إليه في سلم متهدم، ويسلكون إليه دهليزا خاليا من كل شيء قد انتشر فيه ضوء الشمس، حتى إذا بلغوا غرفته دخلوا على شيخ منحن قد جلس على الأرض، ومن حوله عشرات الكتب يبحث فيها عن مقطوعة يريد أن يتمها، أو بيت يريد أن يفسره، أو لفظ يريد أن يحققه، أو حديث يريد أن يصحح الرأي فيه، وعن يمينه أدوات القهوة.
صفحة غير معروفة