وفي ذات يوم من أول العام الدراسي أقبل أولئك الشباب متحمسين أشد التحمس لدرس جديد يلقى في الضحى، ويلقى في الرواق العباسي، ويلقيه الشيخ سيد المرصفي في الأدب، وسموا: «ديوان الحماسة».
وكانوا قد فتنوا بهذا الدرس حين سمعوه فلم يعودوا إلى غرفاتهم حتى اشتروا هذا الديوان، وأزمعوا أن يحضروا الدرس وأن يعنوا به وأن يحفظوا الديوان نفسه، وأسرع أخو الصبي كعادته دائما، فاشترى «شرح التبريزي» لديوان الحماسة وجلده تجليدا ظريفا، وزين به دولابه ذاك، وإن كان قد نظر فيه بين حين وحين. وقد جعل أخو الصبي يحفظ ديوان الحماسة ويحفظه لأخيه، وربما قرأ عليه شيئا من «شرح التبريزي»، وكان يقرؤه على نحو ما كان يقرأ كتب الفقه والأصول، ويتفهمه على نحو ما يتفهم هذه الكتب.
وكان الصبي يحس أن هذا الكتاب لا ينبغي أن يقرأ على هذا النحو ولا أن يفهم على هذا النحو. كان الشيخ الفتى وأصحابه يرون «ديوان الحماسة» متنا، و«كتاب التبريزي» شرحا، وكانوا يأسفون على أن أحدا لم يكتب على هذا الشرح حاشية. وكانوا كثيرا ما يقصون حديث الشيخ إليهم وعبثه بهم وتندره على أساتذتهم وعلى كتبهم الأزهرية.
يقصون ذلك ضاحكين منه معجبين به، ماضين على الرغم منه في درسهم الأزهري لا يفترون عنه ولا يقصرون فيه.
وكان صاحبنا يسمع أحاديثهم، فيبتهج لهم أشد الابتهاج، ويشتاق إلى هذا الدرس أشد الشوق. ولكن أولئك الشباب لم يلبثوا أن أعرضوا عن هذا الدرس كما أعرضوا عن غيره من دروس الأدب؛ لأنهم لم يروه جدا، ولأنه لم يكن من الدروس الأساسية في الأزهر، وإنما كان درسا إضافيا من هذه الدروس التي أنشأها الأستاذ الإمام، والتي كانت تسمى دروس العلوم الحديثة؛ وكانت منها الجغرافيا والحساب والأدب، ولأن الشيخ كان يسخر منهم فيسرف في السخرية، ويعبث بهم فيغلو في العبث.
ساء ظنه بهم، فرآهم غير مستعدين لهذا الدرس الذي يحتاج إلى الذوق ولا يحتمل الفنقلة، وساء ظنهم به، فرأوه غير متمكن من العلم الصحيح ولا بارع فيه، وإنما هو صاحب شعر ينشد وكلام يقال، ونكت تضحك ثم لا يبقى منها شيء.
وكانوا مع ذلك حراصا على أن يحضروا هذا الدرس؛ لأن الأستاذ الإمام كان يحميه، ولأن الشيخ كان مقربا من الأستاذ الإمام، ينتهز كل فرصة لينشئ في مدحه قصيدة يرفعها إليه ثم يمليها على الطلاب، ويأخذ بعضهم بحفظها على أنها من جيد الشعر ورائعه، وكانوا يرونها جيدة رائعة؛ لأنها كانت في مدح الأستاذ الإمام.
وقد بذلوا ما استطاعوا من الجهد للمواظبة على هذا الدرس، ولكنهم لم يطيقوا عليه صبرا، فانصرفوا عنه وعادوا إلى شايهم يستمتعون به في الضحى على مهل، وانقطع عن صاحبنا ذكر الأدب بعد أن حفظ من ديوان الحماسة جزءا صالحا. ثم أشيع ذات يوم أن الشيخ المرصفي سيخصص يومين من أيام الأسبوع لقراءة «المفصل» للزمخشري في النحو، فسعى صاحبنا إلى هذا الدرس الجديد. ولم يسمع للشيخ مرة ومرة حتى أحبه وكلف به، وحضر درس الأدب في أيامه من الأسبوع، ولزم الشيخ منذ ذلك الوقت.
وكان الصبي قوي الذاكرة، فكان لا يسمع من الشيخ كلمة إلا حفظها، ولا رأيا إلا وعاه، ولا تفسيرا إلا قيده في نفسه. وكثيرا ما كان يعرض البيت وفيه كلمة قد مضى تفسيرها أو إشارة إلى قصة قد قصها الشيخ فيما قدم من درسه، فكان صاحبنا يعيد على الشيخ ما حفظ من قصصه وتفسيره وما قيد من آرائه وخواطره ونقده لصاحب الحماسة وشراحها، وتصحيحه لرواية أبي تمام، وإكماله للمقطوعات التي كان أبو تمام يرويها.
وإذا الشيخ يحب الفتى ويكلف به، ويوجه إليه الحديث في أثناء الدرس، ويدعوه إليه بعد الدرس فيصحبه إلى باب الأزهر، ثم يدعوه إلى أن يصحبه في بعض الطريق. وقد دعاه ذات يوم إلى أن يبعد معه في السير، حتى انتهى الشيخ وتلميذه هذا وتلاميذ آخرون إلى قهوة فجلسوا فيها، وكان هذا أول عهد الفتى بالقهوات. وقد طال المجلس منذ صليت الظهر حتى دعا المؤذن إلى صلاة العصر، وعاد الفتى سعيدا مغتبطا قوي الأمل شديد النشاط.
صفحة غير معروفة