وتكلم الخال وخطب سكينة في لباقة أدهشت السيد، وتم الأمر في يسر، وما هي إلا بضعة شهور حتى شهدت القرية فرحا رائعا للسيد وهو يزف إلى عروسة من البندر.
واستقرت الحياة بالسيد، وأخذت تجارته تتسع بعد أن أصبح حموه يعينه بالمال والبضاعة، واشترى السيد راديو وأصبح دكانه مجلس الصفوة المختارة من أهل القرية، وكثر عند السيد الإوز والبط والفراخ، وهيأت له سكينة عيشا رضيا، واستطاعت أن تحببه فيها، إلا أن بقاءها في القرية لم يكن يرضيها أبدا! ولكنها لم تشأ أن تفاتح زوجها في ذلك؛ لأنها تعرف مدى تعلقه بالقرية.
وكانت سكينة خليقة أن تظل على صمتها مدة أطول من الزمان، لو لم تظل أمها تستحثها أن تذهب إلى البندر لتكون بجانبها، حتى لم تجد سكينة بدا من أن تكلم زوجها. - سيد. - نعم يا سكينة. - ماذا تنوي أن تفعل؟ - فيم يا سكينة؟ - في حياتك. - وأي شيء يمكن أن أفعل فيها ؟ ألست مبسوطة؟ - مبسوطة والحمد لله، ولكن ... - ولكن ماذا يا سكينة؟ - ولكن ألا تفكر أنك قد تصبح أبا، ويحتاج ابنك إلى المدرسة. - أحقا ما تقولين يا سكينة؟ - والله لست متأكدة. - على الله يا سكينة. - ليس هذا ما أسألك عنه. - ففيم سؤالك؟ - سؤالي عن مستقبلك، لقد أصبحت تاجرا كبيرا في البلدة. - الحمد لله. - ألا تريد أن تصبح أكبر من ذلك؟ - ومن هذا الذي لا يريد أن يكبر يا سكينة؟ - أنت. - أنا؟ ولماذا؟ - وماذا تنتظر في هذه القرية؟ إنك تاجر كبير مارست السوق وعرفت أسراره وخبرت كل خفية فيه، لعلك تصبح أكبر من أبي نفسه. - أصحيح يا سكينة؟ - طبعا وسأكلم أبي ليبحث لك عن دكان بجواره وتصبح من تجار البندر.
وكان الدكان موجودا؛ فقد أعدته أم سكينة منذ زمن بعيد، وما هي إلا أيام حتى شهدت القرية عربة نقل تحمل بضاعة السيد، وعربة أخرى تحمل أثاث السيد وحقائبه والإوز والفراخ والبط، شهدت القرية أيضا السيد يحمل الراديو معه خشية أن تصيبه العربة بالعطب، كما شهدت القرية أيضا دكان السيد يقفل أبوابه على فراغ فيه، ثم شهدت القرية هذا الموكب ينزح عنها ورأس السيد يتلفت خلفه في حنين، وينظر إلى الأمام في حيرة، وأحس الناس أن السيد يترك الاستقرار إلى حيث الحيرة والدوامة التي لا يعرف لها قرارا.
ونزل السيد في بيته الجديد بالبندر بجوار بيت المعلم حسونة وزار دكانه أيضا فرضي عنه، وبدأ يضع بضائعه.
وواجهت سكينة مشكلة الغذاء، وخافت أن تطلب من السيد نقودا لتشتري لحما وخضرا وخبزا، كما يفعل أهل البندر فقد كانت في القرية تذبح من الفراخ والحمام إذا أرادت أن تأكل لحما، وكانت حديقة المنزل الصغيرة تمدها بالخضر، وكان الفرن يمدها بالخبز.
ولكنها لم تفكر كثيرا، فسرعان ما سحبت السكين، وقصدت إلى حيث انزوت الفراخ والإوز والبط ولكن هالها أن وجدت الفراخ كلها ميتة، ووجدت الإوز والبط يترنح، فأعملت السكين فيها جميعا.
وظل السيد أياما عديدة كلما عاد إلى المنزل وجد زوجته تقدم له الإوز والبط، وعجب من حالها هذا، ولكنه كان في غمرة من الكساد التي استقبلته به المدينة، فنسي أن يسأل عن هذا الإسراف، نسي هو وظلت الزوجة على عادتها، ولكن التسمم لم ينس أن يسري في الإوز، وكانت ليلة! فقد سعى التسمم أيضا إلى السيد وسكينة، فما استطاعا أن يبلغا بيت المعلم حسونة إلا بشق الأنفس، وسارع المعلم بهما إلى المستشفى، وبقيا بها أياما يدفعان ثمن الأكل الدسم المحلى بالسم.
وعاد الزوجان إلى البيت بعد شفائهما، فوجداه قاعا صفصفا، حتى الراديو لم يبق عليه اللصوص، كل شيء أخذوه حتى بقايا الإوز والبط، كل شيء، لم يبق في البيت شيء.
وفي الصباح الباكر من اليوم التالي شاهدت القرية عربة واحدة تحمل بضائع السيد وحدها بلا حقائب ولا أثاث ولا أوز ولا بط ولا فراخ، وشاهدت القرية السيد يمشي وراء البقية الباقية من بضائعه وزوجته أمامه، ويده فارغة، لا تحمل الراديو.
صفحة غير معروفة