وقبل أن ينفذ عبد الله أفندي نصيحة زوجته، طرق الباب فقام عبد الله أفندي ليرى من الطارق، وفتح الباب فطالعه شرطي طويل عريض سأله في غير مبالاة: أنت عبد الله أفندي عبد السميع؟ - نعم أنا. - تعال معي إلى القسم. - القسم؟ لماذا؟ - ابنك محبوس. - ابني؟ ابني أنا؟ ابني من؟ - ابنك سعيد عبد الله عبد السميع. - محبوس؟ لماذا؟ - ضبط وهو يعاكس إحدى الفتيات في الطريق العام. - ابني يعاكس إحدى الفتيات؟! لا بد أنك مخطئ! هل أنت متأكد؟ - والله أن كان في هذه العمارة شخص آخر اسمه عبد الله عبد السميع، وله ابن اسمه سعيد عبد الله عبد السميع أكون غير متأكد. - طيب اذهب أنت.
وينصرف الشرطي، ويتلفت عبد الله أفندي إلى زوجته: أسمعت؟ أرأيت ابنك؟ هذا آخر تعبي وشقائي! ابنك يعاكس النساء في الطريق، أرأيت؟ - يا أخي ألا يجوز أن يكون مظلوما؟ اذهب إليه أولا وانظر ماذا فعل. - أنا أذهب إلى القسم؟ ماذا أقول لهم، أنا الرجل المحترم الذي لم أخالف الدين يوما، ولن أخالف القانون أبدا، أنا عبد الله عبد السميع الموظف بالدرجة السادسة أذهب إلى القسم من أجل ولد ضائع يعاكس النساء؟ والله لن يكون هذا أبدا! - وابنك؟ تتركه محبوسا؟ ابنك يا عبد الله أفندي؟ - لا تتعبي نفسك، لن أذهب يعني لن أذهب!
ويتركها عبد الله أفندي باكية ساخطة حائرة، ويذهب إلى المنضدة التي أمر بها أن تكون مكتبا فكانت، ويأخذ من عليها حقيبة الدروس، ويخرج تاركا زوجته ملهوفة لا تعرف ماذا تفعل!
وخرج عبد الله أفندي إلى الشارع قاصدا إلى الدرس الأول، وكان مكان التلميذ في أقصى الجيزة، فركب عبد الله أفندي، وركب حتى وصل إلى بيت التلميذ «ماجد فتحي» النجل الأصغر للوجيه الثري الأستاذ فتحي الدرملي، وكان عبد الله أفندي يرجو ألا يجد والد ماجد في المنزل؛ فهو لا يطيق مزاحه في يومه هذا.
وصل عبد الله أفندي متقدما عن ميعاد الدرس خمس دقائق فرأى أن يقطعها بالمشي أمام الدار. ولعله لم ير في حياته أشقى من ذلك الوقت الذي قضاه في هذه الدقائق الخمس! فهو جزع متألم ساخط، غاضب من هذه البلوى التي انساقت إليه من جراء ابنه العربيد الذي يعاكس النساء في الشوارع، ولم يكن عبد الله أفندي متشوقا إلى شيء قدر تشوقه إلى هذا الدرس؛ فهو يريد أي شيء حتى وإن كان درسا لينتزعه من التفكير في هذه المصيبة التي حلت على دماغه في يومه هذا.
ومرت أربع دقائق ونصف دقيقة فاتجه عبد الله أفندي إلى باب المنزل، وضغط الجرس، وخرج له الخادم، ولما أراد الدخول قال له الخادم إن ماجد لن يأخذ الدرس لأنه مريض، وإنما كانت هذه مصيبة أكبر من وجود ابنه في السجن! ولم يجد زوجته ليفرغ فيها غضبه فانصرف عن الخادم دون أن يلقي إليه التحية التقليدية التي عودته دقته أن يلقيها، وقبل أن يخرج عبد الله أفندي إلى الشارع وقفت سيارة أما الباب، ونزل منها السيد فتحي، وتقدم عبد الله أفندي من السيد وسلم عليه في أدب، وسأله: خيرا؟ ماذا أصاب ماجد؟ - لا شيء مجرد برد بسيط ولكن أمه تدلله. - شفاه الله، طيب استأذن أنا. - بل تعال. فإنك لم تأخذ مرتب الشهر. - في فرصة أخرى. - بل تعال، ولماذا فرصة أخرى؟ تعال.
وكان السيد فتحي قد تعود أن يمزح كثيرا مع عبد الله أفندي وكان مبعث ضحكه الأكبر، ذلك الوقار الذي يأخذ عبد الله أفندي به نفسه، وقد رآه في ذلك اليوم أشد وقارا من أي يوم سابق، فأراد أن ينتهز الفرصة ليضحك منه.
ويدخل الاثنان إلى المنزل، وما يكادان حتى يدق جرس التليفون فيرفع السيد فتحي السماعة، ويقول لفظة واحدة في صوت مرتفع هي «آلو»، ثم ينخفض صوته إلى الهمس الخافت فما يسمع عبد الله أفندي إلا بعض كلمات، «عندي شخصية مدهشة». «سأحضره»، وينظر عبد الله أفندي حوله فلا يرى أحدا. فيكاد يظن أنه هو هذه الشخصية المدهشة! وما يلبث السيد فتحي أن يضع الساعة، ثم ينظر إلى عبد الله أفندي قائلا: أنت حظك هائل يا عبد الله أفندي! - حظي أنا؟! - طبعا أنت، سأصحبك معي في جلسة رائعة. - جلسة؟ أنا يا سيدى لا أنفع في جلساتك أبدا! - لا شأن لك، تعال.
واختل نظام عبد الله أفندي جميعه، فهو لا يطيق أن يرفض أمرا لوالد تلميذ له، ولكنه يبذل محاولة أخيرة: يا سيدي أنا عندي دروس أخرى. - سأعوضك عنها جميعا، وسأرفع مرتبك الشهري، ما رأيك؟ - أمرك.
ويجد عبد الله أفندي نفسه خارجا مع السيد فتحي، ثم يجد نفسه في سيارة، ثم في منزل! ثم يجد عبد الله أفندي نفسه آخر الأمر مع سيدة غاية في الجمال! جمال كان يسمع عنه، ولكنه لم يره في حياته! فهي شقراء، بيضاء ذات عينين خضراوين، وقوام مليئ لا هو بالنحيف ولا هو بالسمين، تماما كما يجب أن تكون.
صفحة غير معروفة