صديق؟ أم زوجة؟ تلك الأنثى المستحيلة تماما. هل تكون واحدة مثل السيدة لاكرستين مثلا؟ إحدى السيدات الإنجليزيات البغيضات اللواتي يعشن في الهند، شاحبة ونحيلة، تثرثر بالنميمة وهي تحتسي الشراب، وتلح على الخدم، وتعيش عشرين عاما في البلد دون أن تتعلم كلمة من لغته. رباه، لا أريدها واحدة من أولئك.
استند فلوري إلى البوابة، وكان القمر يتوارى خلف جدار الغابة المعتم، لكن الكلاب ظلت تعوي. توارد على ذهنه بضعة سطور لجيلبرت، أغنية مبتذلة سخيفة لكنها مناسبة للحالة؛ شيء ما عن «التحدث حول حالتك الذهنية المعقدة». كان جيلبرت شخصا بغيضا حقيرا وموهوبا. هل تلخصت كل متاعبه ببساطة هكذا إذن؟ مجرد عويل معقد مخنث؛ أمور فتاة ثرية صغيرة مسكينة. ألم يكن إلا تنبلا يستغل فراغه ليتخيل متاعب خيالية ؟ السيدة ويتيترلي بطابع روحاني؟ هاملت من دون شعر؟ ربما. وإن كان كذلك، فهل هذا يجعل الأمر أكثر احتمالا على الإطلاق؟ بل إن الشعور بالمرارة لا ينقص لأنه من المحتمل أن يكون الخطأ خطأ الإنسان نفسه، أن يرى نفسه وهو ينجرف ويتردى في عار وعبث مريع، وهو يعلم طوال الوقت أن بداخله في مكان ما بادرة إنسان محترم.
حسنا، اللهم احفظنا من الشفقة على الذات! عاد فلوري إلى الشرفة، وتناول البندقية وصوبها على الكلب الضال بقليل من الجفول. تردد صدى عواء، وتوارت الرصاصة في الميدان، بعيدا جدا عن الهدف. ظهرت كدمة بلون التوت البري على منكب فلوري. أما الكلب فقد أطلق صيحة فزع، وولى الفرار، ثم جلس على بعد خمسين ياردة، وشرع يعوي مجددا بانتظام.
الفصل السادس
انحرفت أشعة الشمس الصباحية أعلى الميدان، وانعكست بصفرة رقاقة الذهب، على واجهة الكوخ البيضاء. هبطت أربعة غربان بلون أسود خالطه اللون الأرجواني وجثمت على سور الشرفة، متحينة الفرصة للانطلاق للداخل وسرقة الخبز والزبد اللذين وضعهما كو سلا بجانب فراش فلوري. زحف فلوري من وراء الناموسية، وصاح في كو سلا ليأتيه ببعض الجين، ثم ذهب إلى دورة المياه وجلس لبعض الوقت في حوض استحمام من الزنك ملئ بمياه كان حريا أن تكون باردة. شعر فلوري بتحسن بعد الجين، فأقبل على حلاقة ذقنه. كان دائما ما يؤجل الحلاقة إلى المساء؛ إذ كانت لحيته سوداء وتنمو سريعا.
بينما كان فلوري جالسا بمزاج نكد في حمامه، كان السيد ماكجريجور لابسا سروالا قصيرا وقميصا تحتانيا على بساط من الخيزران مخصصا لهذا الغرض في مخدعه، يؤدي بمشقة التمارين رقم خمسة وستة وسبعة وثمانية وتسعة من كتاب نوردينفليخت «تمارين رياضية للأشخاص القليلي الحركة». كان السيد ماكجريجور لا يفوت تمارين الصباح قط، إلا في حالات نادرة. التمرين رقم ثمانية (الاستلقاء على الظهر، ورفع الساقين في وضع قائم دون ثني الركبتين) كان مؤلما جدا لرجل في عمر الثالثة والأربعين؛ بل وكان رقم تسعة (الاستلقاء على الظهر، والنهوض لوضع الجلوس ولمس أصابع القدمين بأطراف الأصابع) أسوأ. لكن مهما يكن من الأمر، لا بد للمرء من المحافظة على لياقته! مع اندفاع السيد ماكجريجور متوجعا في اتجاه أصابع قدميه، تصاعد من عنقه لون في حمرة قوالب البناء واحتبس في وجهه منذرا بسكتة دماغية. وتلألأ العرق على صدره الكبير الشحيم. استمر، استمر! لا بد أن يحافظ المرء على لياقته بأي ثمن. كان يشاهده من خلال انفراج الباب، محمد علي، الشيال، وقد بسط على ذارعه ملابس السيد ماكجريجور النظيفة، دون أن يبدو على وجهه العربي أمارات فهم أو فضول. فقد ظل يشاهد تلك الانثناءات - التي تخيلها بلا اكتراث بذلا لإله غامض متعسف - كل صباح طيلة خمس سنوات.
في الوقت ذاته أيضا، كان ويستفيلد الذي خرج مبكرا، مستندا إلى طاولة قسم الشرطة التي كستها الثقوب وبقع الحبر، بينما كان المحقق المساعد البدين يستجوب أحد المتهمين الذي تولى شرطيان حراسته. كان المتهم رجلا في الأربعين، ذا وجه رمادي مفزوع، لا يرتدي سوى إزار مهلهل ثني حتى الركبتين، اللتين بدت أسفلهما قصبتا ساقيه النحيلتين المعوجتين مبقعتين بقرصات القراد.
تساءل ويستفيلد: «من هذا الشخص؟» «لص يا سيدي. لقد قبضنا عليه وفي حوزته هذا الخاتم بفصين من الزمرد النفيس جدا. ولا يوجد تفسير. من أين له - وهو عامل فقير - بخاتم زمرد؟ لقد سرقه.»
اتجه محتدا إلى المتهم، واقترب بوجهه مثل قط هائج حتى كاد يلامس وجهه، وزأر بصوت جهير: «لقد سرقت الخاتم!» «لا.» «إنك مجرم عتيد!» «لا.» «لقد دخلت السجن!» «لا.»
جأر المحقق وقد أتاه إلهام قائلا: «استدر! انحن!»
صفحة غير معروفة