قال في يأس: «لا بد أن تمتلكي بيانو.» «إنني لا أعزف على البيانو.»
تركها تذهب. فلم يكن ثمة جدوى من الاستمرار. لم تلبث أن تحررت منه حتى أطلقت ساقيها للريح وركضت فعلا إلى حديقة النادي؛ إذ كان وجوده شيئا بغيضا جدا لها. توقفت بين الأشجار لتخلع نظارتها وتمسح آثار الدموع عن وجهها. يا له من حيوان، حيوان! لقد آلم معصميها بشدة. كم كان حيوانا بشعا! حين خطر لها وجهه كما بدا في الكنيسة، شاحبا تومض فيه الوحمة البشعة، كادت تتمنى أن يموت. لم يكن ما فعله هو الذي روعها. كان من الممكن أن تغفر له ألف إثم ارتكبه. لكن ليس بعد تلك الفضيحة المخزية المزرية، وما كان عليه وجهه المشوه من دمامة خبيثة في تلك اللحظة. كانت وحمته، في نهاية المطاف، التي حكمت عليه بالهلاك. ستغتاظ زوجة عمها حين تعرف أنها رفضت فلوري. وتذكرت عمها وقرصه لساقيها ... ما بينهما، فأدركت أن الحياة سوف تكون مستحيلة هنا. ربما عليها العودة إلى الوطن من دون زواج بعد كل ما كان. والخنافس السوداء! فليكن. إن أي شيء - سواء العنوسة أو العمل الشاق، أي شيء - لهو أفضل من البديل. الموت نفسه أفضل، أفضل كثيرا. وإذا كانت المادة قد شغلت بالها قبل ساعة، فقد نسيتها. إنها لا تذكر حتى أن فيرال نبذها وأن الزواج من فلوري كان سينقذ ماء وجهها. كان جل ما أدركته أنه قد حط من شرفه ورجولته، وأنها تبغضه كما لو كان مصابا بالخبل أو البرص. كانت الغريزة أبلغ من المنطق بل وحتى المصلحة، ولم تكن تستطيع الاستمرار في مقاومتها كما لا تستطيع التوقف عن التنفس.
أما فلوري، فحين اتجه إلى التل صاعدا، صحيح أنه لم يركض، لكنه سار بأسرع ما في طاقته. فلا بد أن يفعل ما عليه فعله سريعا. كان الظلام قد اشتد للغاية. هرولت فلو المسكينة على مقربة من قدميه، غير مدركة حتى ذلك الوقت أن في الأمر أي شيء خطير، وهي تئن في رثاء على نفسها لتؤنبه على الركلة التي سددها إليها. حين وصل إلى الممر هبت ريح على أشجار الموز، فهزت الأوراق الممزقة وبعثت رائحة رطوبة. إذن ستتساقط الأمطار مرة أخرى. كان كو سلا قد وضع المائدة وأخذ يزيل بعض الخنافس الطائرة التي انتحرت بالاصطدام بالمصباح الكيروسين. من الواضح أنه لم يسمع بالفضيحة التي كانت في الكنيسة بعد. «عشاء مولاي جاهز. هل سيتناول مولاي عشاءه الآن؟» «لا، ليس بعد. أعطني ذلك المصباح.»
أخذ المصباح، ودخل المخدع وأغلق الباب. استقبلته رائحة الغبار ودخان السجائر، واستطاع أن يرى على الوهج الأبيض المرتعش للمصباح الكتب المتعفنة والسحالي التي على الحائط. إذن فقد عاد مجددا إلى هذا - إلى الحياة الخفية القديمة - بعد كل شيء، عاد إلى حيث كان من قبل.
أليس من الممكن أن يتحملها! لقد تحملها قبل ذلك. كان هناك مسكنات؛ الكتب وحديقته والشراب والعمل والمومسات والصيد وأحاديثه مع الطبيب.
لا، لم تعد محتملة. منذ مجيء إليزابيث بعث إلى الحياة مجددا إحساسه بالألم وأهم من ذلك الأمل، الذي كان يظن أنه مات بداخله. تداعى الخمول شبه المريح الذي كان يعيش فيه. وإذا كان يعاني الآن، فالآتي أسوأ كثيرا. بعد قليل سوف يتزوجها شخص آخر. لشد ما يستطيع تصور الأمر - لحظة سماعه الخبر! - «هل عرفت أن فتاة لاكرستين سترحل عنه أخيرا؟ لقد حجز «فلان» المسكين المذبح، فليكن الرب في عونه ... إلخ.» والسؤال المعتاد: «حقا؟ متى سيكون ذلك؟» مع مراعاة جمود الوجه، تظاهرا بعدم الاكتراث. ثم اقتراب يوم عرسها، ليلة دخلتها. آه، ليس ذلك! مناظر فاحشة، فاحشة. فلتبق عينيك مركزتين على ذلك. الفحش. أخرج حقيبة المعدات العسكرية الصفيح من أسفل الفراش، وأخرج مسدسه الآلي، وأدخل مشط خراطيش في خزانة الذخيرة، وسحب واحدا إلى المغلاق.
كان كو سلا مذكورا في وصيته. تبقت فلو. وضع المسدس على المنضدة وخرج. كانت فلو تلعب مع با شين، أصغر أبناء كو سلا، أسفل ساتر المطبخ، حيث كان الخدم قد تركوا بقايا حطب. كانت ترقص حوله كاشفة عن أسنانها الصغيرة، تتظاهر بعضه، بينما الصبي الصغير، الذي احمرت بطنه في وهج الجمر، يصفعها صفعات واهنة، ضاحكا لكن شبه خائف. «فلو! تعالي يا فلو!»
سمعته وجاءت طائعة، ثم توقفت بغتة لدى باب مخدع النوم. بدا أنها أدركت حينئذ أن ثمة شيئا خطأ. فتراجعت قليلا ووقفت تنظر إليه مرعوبة، راغبة عن دخول المخدع. «ادخلي!»
هزت ذيلها لكنها لم تتزحزح . «تعالي يا فلو! يا عزيزتي فلو! تعالي!»
أصيبت فلو بالهلع فجأة، فجعلت تئن وسقط ذيلها وتراجعت منكمشة. صاح فلوري: «تعالي، عليك اللعنة!» ثم أخذها من طوقها وألقى بها في الحجرة، وأغلق الباب وراءها. ثم ذهب إلى المنضدة من أجل المسدس. «تعالي هنا! افعلي ما أمرتك به!»
صفحة غير معروفة