ختم همسه قائلا: «أعتقد أن تلك هي الخطوة المناسبة، أليس كذلك؟»
بطيئة زحفت على وجه با سين ابتسامة عريضة مترددة مرتابة.
أردف يو بو كين متهللا: «خمسون روبية ستغطي كل التكاليف غالبا.»
كشف عن الخطة بالتفصيل. وحين استوعبها الآخرون انطلقت منهم ضحكات مدوية لم يملكوا لها كبتا، كلهم، حتى با سين الذي نادرا ما يضحك، وحتى ما كين التي استنكرت الأمر من أعماق قلبها. كانت الخطة شديدة الإحكام حقا لدرجة يصعب مقاومتها. فقد كانت عبقرية.
استمر هطول الأمطار طوال ذلك الوقت. في اليوم التالي لعودة فلوري إلى المعسكر ظلت تمطر طوال ثمان وثلاثين ساعة متواصلة، أحيانا بطيئة الوتيرة مثل الأمطار الإنجليزية، وأحيانا تنهمر في شلالات حتى يخيل للمرء أن محيطا كاملا قد ارتفع في السحب حتما. كان دق المطر على الأسطح يصير مثيرا للسخط بعد ساعات قليلة. في الفترات بين سقوط الأمطار كانت الشمس تتوهج بشدة كالعادة، ويبدأ الوحل يتشقق ويلتهب، وتنتشر بقع الطفح الجلدي في أنحاء الجسم. وقد خرجت أسراب من الخنافس الطائرة من شرانقها بمجرد بدء الأمطار؛ وتفشت كائنات كريهة معروفة باسم البق المنتن، كانت تغزو المنازل بأعداد مهولة، وتنتشر على موائد الطعام فتجعل الطعام غير قابل للأكل. ظل فيرال وإليزابيث يخرجان لركوب الخيل في المساء، حين لا تكون الأمطار شديدة جدا. كانت كل حالات الطقس سواء لدى فيرال، لكنه لم يكن يروقه أن يرى أمهاره مغطاة بالوحل. مضى نحو أسبوع، ولم يتغير شيء بينهما؛ فلم يزدادا قربا أو تباعدا عما كانا عليه من قبل. وظل عرض الزواج دون أن ينطق، مع أنه ما زال مرتقبا بثقة. ثم وقع أمر أثار الجزع. فقد تسرب خبر إلى النادي، عن طريق السيد ماكجريجور، يفيد بأن فيرال سوف يغادر كياوكتادا؛ كانت الشرطة العسكرية ستبقى في كياوكتادا، لكن مع مجيء ضابط آخر مكان فيرال، دون أن يعلم أحد يقينا متى. صارت إليزابيث في حالة فظيعة من الترقب. لا شك أنه سيقول شيئا قاطعا قريبا ما دام سيرحل؟ لم تكن تستطيع أن تسأله، لم تكن تجرؤ حتى أن تسأله ما إذا كان سيرحل حقا؛ لم يكن بوسعها سوى أن تنتظر أن يتكلم. لكنه لم يقل شيئا. ثم ذات مساء، من دون إنذار، تخلف عن المجيء إلى النادي. ومر يومان كاملان دون أن تراه إليزابيث على الإطلاق.
كان ذلك مروعا، لكن لم يكن باليد حيلة. ظل فيرال وإليزابيث لأسابيع لا يفترقان، لكنهما كانا نوعا ما أشبه بالغرباء؛ إذ كان قد نأى بنفسه جدا عنهم جميعا، فهو لم ير حتى منزل آل لاكرستين من الداخل قط. ولم تكن معرفتهم به وثيقة لدرجة أن يبحثوا عنه في بيت المسافرين، أو يكتبوا له خطابا؛ كما أنه لم يعاود الظهور في الاستعراض الصباحي في الميدان. لم يكن في الإمكان سوى الانتظار حتى يقرر أن يظهر مرة أخرى. وحين يفعل، هل سيطلب منها الزواج؟ قطعا، سيفعل ذلك بالتأكيد! كان لدى إليزابيث وزوجة عمها اعتقاد راسخ أنه سوف يطلب منها الزواج (لكن لم تصرح أي منهما بالأمر في كلامها). تطلعت إلى لقائهما التالي بأمل كاد أن يكون مؤلما. كانت تتضرع إلى الله أن يمنحها أسبوعا على الأقل قبل رحيله! إذا خرجت معه لركوب الخيل أربع مرات أخرى، أو ثلاث مرات، أو حتى مرتين فقط، فقد يئول كل شيء خير مآل. فكانت تدعو الله أن يعود إليها قريبا! لم تتخيل أنه حين يعود سيكون من أجل الوداع فقط! كانت المرأتان تذهبان إلى النادي كل مساء وتمكثان لساعة متأخرة جدا، تتسمعان وقع خطوات فيرال بالخارج وهما تتظاهران بأنهما لا تفعلان ذلك؛ لكنه لم يظهر قط. أما إليس، الذي كان مدركا تماما للموقف، فظل يراقب إليزابيث باستمتاع حاقد. ما زاد الطين بلة أن السيد لاكرستين صار لا يتورع عن مضايقة إليزابيث. لقد أصبح متهورا تماما، فكان يتربص بها، ويقبض عليها، ويشرع في قرصها وملامستها بأسلوب يثير بالغ الاشمئزاز، يكاد لا يأبه لوجود الخدم. وكان دفاعها الوحيد أن تهدده بأنها ستخبر زوجته؛ ولحسن الحظ أنه كان شديد الغباء ليدرك أنها لن تجرؤ على ذلك أبدا.
في الصباح الثالث وصلت إليزابيث وزوجة عمها إلى النادي في الوقت المناسب هروبا من عاصفة ممطرة عاتية. كانتا قد جلستا في قاعة الجلوس بضع دقائق حين سمعتا صوت شخص يدبدب بحذائه لإخراج الماء منه في الممر. اضطرب قلب كل من المرأتين، فهذا قد يكون فيرال. ثم دخل شاب قاعة الجلوس، وهو يفك أزرار معطف مطر طويل. كان شابا جسيما مرحا بليد الذهن في الخامسة والعشرين تقريبا، بوجنتين ممتلئتين نضرتين، وشعر بلون الزبد، وبلا جبهة، وضحكة تصم الآذان كما تكشف فيما بعد.
صدر عن السيدة لاكرستين صوت غير واضح، وقد بدر منها لخيبة أملها. إلا أن الشاب حياهما بألفة وليدة اللحظة، لكونه واحدا من أولئك الذين يخاطبون أي شخص بألفة مبتذلة بمجرد أن يلتقوا به.
قال الشاب: «مرحبا، مرحبا! ها قد دخل أمير الأحلام! أرجو ألا أكون قد تطفلت أو شيء من هذا القبيل؟ هل اقتحمت اجتماعا عائليا أو ما شابه؟»
قالت السيدة لاكرستين مدهوشة: «لا، على الإطلاق!» «أقصد أنني ... خطر لي أن أزور النادي زيارة خاطفة وألقي نظرة، هذا جل ما في الأمر. من أجل التعود على صنف الويسكي المحلي فحسب. لقد وصلت ليلة أمس فقط.»
صفحة غير معروفة