وبعدئذ سرت حتى بلغت «متنزه البوابة الذهبية»، وظننت مخدوعا أنني سرعان ما أعبر هذا المتنزه سائرا على قدمي لأبلغ حافة المحيط، فمن ذا أدراني أن «متنزه البوابة الذهبية» تبلغ مساحته أكثر من ألف فدان، وأنه يمتد طولا ثلاثة أميال ونصف ميل؟
في المتنزه متحف لنباتات المناطق الحارة ومتحف للأسماك ومتحف للتاريخ الطبيعي ومتحف للآثار والفنون وحديقة يابانية للشاي، وقد كنت أريد أن أطوف بهذه الأماكن كلها ... لكني مشيت ومشيت ومشيت ولم أبلغ شيئا، حتى لقد ظننت أني ربما كنت أدور في مماشي المتنزه فلا أتقدم، وأردت أن أسأل أول من ألاقيه من مارة ... لا أحد في الطريق يمشي لأسأله، كل ما تراه عقد متصل الخرزات من سيارات تنساب في المماشي ... وأخيرا هذا رجل هناك بين الشجر يتنزه، فقصدت إليه أسأله، فوجدته أصم لا يسمع، فكتبت له السؤال على الورق، فراح يحدق بعينه التي كاد يلصقها بالورق، ثم اعتذر عن عدم إمكان رؤية المكتوب، وهو في اعتذاره لم ينطق، بل أشار بيده إشارات دالة على ما يريد، وإذا فهو كذلك أبكم ... أصم وأعمى وأبكم، هذا هو الرجل الوحيد الذي صادفته ماشيا في الحديقة يتنزه.
استعنت الله واستأنفت السير، وما لي وما يؤدي إليه السير؟ إنني أخترق جنة على الأرض؛ فهذا المتنزه لا بد أن يكون وحيد نوعه في العالم! لقد كانت هذه البقعة من الأرض حتى سنة 1870م كثبانا رملية صحراوية جرداء، وبفضل رجل واحد أقاموا له تمثالا في وسط المتنزه هو «جون مكلارن» أنبتت هذه الجنة على الأرض؛ انظر إلى مدى ما يستطيع رجل واحد أن ينشئه! ويقال إن في الحديقة أكثر من أربعة آلاف نوع من أنواع النبات، جيء بها من كل أنحاء العالم.
وأخيرا وصلت إلى مكان المتاحف من هذا المتنزه الفسيح، أولها «دي ينج» للآثار والفنون، طفته مسرعا، وهو متحف على كثير من الطرافة؛ فمثلا تجد غرفة كل ما فيها من معروض هو أن سقفها منقول من كنيسة بإسبانيا، وغرفة أخرى نافذتها منقولة من كنيسة بأوروبا، وثالثة جدرانها هي نفسها جدران غرفة فرنسية من العصر الفلاني؛ وفي المتحف غرفة مصرية فيها بعض الأواني الأثرية، وفيها مومياء وجدت في الفيوم، وهي من عهد البطالسة وأهداها إلى المتحف «دي ينج» الذي سمي المتحف باسمه.
ورأيت في طريقي إلى متحف الأسماك تماثيل هنا وهناك لرجال الموسيقى والأدب: تمثال لبيتهوفن، وتمثال ل «فردي» (صاحب أوبرا عايدة)، وتمثال جميل ل «سير فانتيز» (مؤلف دون كيشوت) أقيم على كومة من الحجر، وركع أمامه فارسان لعلهما يصوران دون كيشوت وسانكو بانزا ...
ثم دخلت الحديقة اليابانية لأستريح وأشرب الشاي؛ فقد صممت خطتي منذ بداية الصباح أن أجعل هذه الجلسة راحة بين جهادين ... الحديقة يابانية في نباتها، ويابانية في تماثيلها، وفي الأعمدة المنتثرة في أرجائها، وفي الكباري المقامة على قنواتها، وفي تمثال كبير لبوذا أقيم فيها ... وأخيرا دخلت «كشك» الشاي، وهو كشك أمامه فضاء مربع صغير، تعلوه مظلة يابانية، رصت تحتها مناضد حمراء السطوح سوداء القوائم، وحولها مقاعد كأنها مناضد صغيرة بنفس التقسيم والتلوين، وتجيئك من الكشك فتاة يابانية بشاي على الطريقة اليابانية.
السبت 30 يناير
ذهبت إلى الحي الصيني بسان فرانسسكو ... هو حي بأسره: اللافتات مكتوبة بالكتابة الصينية (وتحتها ما يساويها بالإنجليزية) حتى الكنيسة هناك، وجمعية الشبان المسيحيين كتب اسمها بالصيني، ومعظم المباني صينية الطراز، أو قل إن معظمها قد طلي بألوان ورسوم يبديها على هيئة الطراز الصيني في البناء؛ وأهم شارع هناك - شارع جرانت - تراه عامرا بالمطاعم والدكاكين الصينية ... تركت الحي الصيني مصمما أن أعود إليه لجمال وقعه في نفسي.
الحقيقة أن سان فرانسسكو بصفة عامة هي الآن معشوقتي بين بلاد العالم التي رأيتها، وإنه ليخيل إلي أنها أخف بلاد الأرض دما وأحلاها طعما ... ليس إعجازها في ضخامة مبانيها؛ لأن مبانيها ليست ضخمة، ولا في كبر حجمها واتساع رقعتها، لكنها مدينة ذات طابع جذاب، ولا أدري أين على وجه الدقة موضع الجاذبية منها؟ أهو شوارعها الصاعدة الهابطة مع سفوح الجبل؟ أهو موقعها على شاطئ المحيط؟ أهو هذه المطاعم الكثيرة والمراقص الكثيرة والفنادق الكثيرة، وكلها بالإجماع حسن الذوق؟ أهو في كثرة زائريها، وللزائرين روح مرحة يشيعونها في الشوارع والدكاكين والفنادق؟ أم هو في هذه الأشياء كلها مجتمعة؟ السعيد السعيد من أراد له الله أن يقيم في سان فرانسسكو.
تركت الحي الصيني مؤقتا، ذلك الحي الذي خلع على سان فرانسسكو ما يوهم بالقدم، وبالتالي خلع عليها مسحة من جلال الزمن، فتميزت بذلك من سائر بلدان الولايات المتحدة التي طابعها الأول هو الحداثة ...
صفحة غير معروفة