إنه يستحيل أن تمر هذه الخواطر على رجل من الشرق الأدنى دون أن يتذكر العرب وإسرائيل، فمن يدري كيف ينحرف مجرى التاريخ؟! لكن ليحذر العرب! ليفتحوا أعينهم إلى الحقائق ولا يدسوا رءوسهم في الرمال؛ فليس مستحيلا في منطق التاريخ أن يكون الإسرائيليون النازحون إلى الشرق الأوسط بمثابة من نزح إلى أمريكا أول مرة! ليس مستحيلا في منطق التاريخ أن يكون العرب بمثابة الهنود الحمر، يتضاءلون ثم ينتهي مصيرهم إلى محابس ينحصرون فيها، ثم إلى انقراض؛ فالحياة لمن هو أكثر علما وفاعلية ونشاطا، وليس وراء هذه الحقيقة حقيقة أعلى.
بعد مدينة «يوما» دخلنا مدينة كالفورنيا، وسرنا عدة ساعات لا نرى إلا صحراء كصحرائنا في مصر: رمال وكثبان؛ وبعد حين وحين ترى مجموعة من النخيل؛ وقد علمت أن في هذه الصحراء الرملية تقوم الشركات السينمائية بتمثيل الأدوار التي تحتاج إلى صحراء وإلى عرب ... وإني أكتب هذه السطور - بل هذا السطر بالذات - في اللحظة التي وقف فيها القطار عند محطة «بام سبرنجز» (أي عيون النخيل) وهي مشتى مشهور؛ وقد بدت في الأفق الغربي البعيد جبال عالية، تغطي قمم بعضها ثلوج بيضاء، تبدو غريبة في هذا الجو الدافئ داخل القطار، وأمام هذه الشمس الساطعة خارجه ... فلعلها أن تكون الحافة الغربية من جبال روكي، بل لعلها أن تكون على وجه التخصيص قمة سان برنار دينو التي هي في هذا المكان من جبال روكي، وتغطيها الثلوج صيفا وشتاء.
نزلت في محطة «لوس أنجلس»؛ للمحطة فناء على الطراز الأندلسي الإسلامي، فأثر الإسبان - على ما يبدو - لا يزال قويا في هذا المكان؛ إذ كان في أيدي الإسبانيين قبل أن يئول إلى الولايات المتحدة ... فالضاحية التي وقفنا بها قبيل وقوفنا عند المحطة الرئيسية اسمها «الهامبرا»، وهي الكلمة الإفرنجية لكلمتنا العربية «الحمراء»؛ والمدينة نفسها اسمها: «لوس أنجلس»، وهي العبارة الإسبانية التي معناها «الملائكة» ... ردهة المحطة وغرفة الانتظار بها قد بلغتا من العظمة والفخامة حدا يجعل ألفاظ التفخيم تافهة بغير معنى.
لم أكد أقذف بحقيبتي في الفندق الذي نزلت فيه لأقضي هذه الليلة في لوس أنجلس، حتى خرجت كالنهم إلى الشوارع أطوف مسرعا ببعضها، وكانت الساعة عندئذ الخامسة بتوقيت الساحل الغربي (وهي تكون الآن الثامنة مساء في كولمبيا على الساحل الشرقي، وفي مصر الثالثة بعد منتصف الليل).
وأهم ما استوقف نظري العابر في هذه المشية السريعة، هذا العدد الضخم من الواقفين على جوانب الشوارع من رجال ونساء، وقفوا وظهورهم مسندة إلى جدران المحلات التجارية، ينظرون متفرسين في المارة، وعليهم جميعا علامات التعطل وأمارات الملل والضجر، وانتهى بي الطواف إلى متنزه صغير فيه تمثال لبيتهوفن، وفي ركن من المتنزه ازدحم الناس جماعات جماعات، ووقف في كل جماعة خطيب كأنها «هايد بارك» أخرى.
إنني لا أشك في أن عددا كبيرا من المزدحمين في هذا الميدان يكنون في صدورهم استعدادا للجريمة؛ فذلك باد في ملامحهم: ترى الواحد منهم وقد أمال قبعته على جبهته ونظر بعينه إلى أعلى من تحت إطار القبعة، ووضع سيجارة مهملة في فمه المعوج قليلا إلى أحد جانبيه يبدو الاستهتار، بل اليأس على كثيرين منهم؛ فالظاهر أن كثيرين من هؤلاء قد جاءوا إلى «لوس أنجلس» يبحثون عن عمل ... فلم أخل من خوف خفيف وأنا أقتحم هذا الزحام ... كان هناك جماعة احتدت المناقشة بين أعضائها، فوقفت بينهم أسمع، وكان المتكلم حين وقفت زنجيا، كان يتكلم إلى ثلاثة آخرين: زنجي آخر ورجل وامرأة أبيضان، فقال الزنجي بحرارة وانفعال إن الله إذا أراد له ألا ينتحر فليبعث إليه بشيء من الخبز، أما أنه لا يرسل خبزا ثم لا يسمح بالانتحار فاستبداد منه ... فرد عليه الزنجي الآخر داعيا إياه إلى صدق الإيمان بالله، وإلى النظر إلى الأمور من جانبها المضيء، قائلا له: إنك كمن يبحث في هذا العالم عن ثقوب يضع فيها عنقه، ولكن اعلم جيدا أن من يضع عنقه في ثقب من هذه الثقوب اختنق وقضى ... هنا تكلمت المرأة البيضاء بحرارة تؤيد الزنجي الأول في يأسه، وعاد الزنجي الأول إلى استئناف حديثه موجها الكلام إلي، وممسكا بذراعي بيده، فضغطت بذراعي على محفظة نقودي، وما كاد يترك ذراعي حتى انصرفت.
الخميس 28 يناير
اشتركت منذ الصباح في رحلة إلى هوليوود التي هي ضاحية قريبة من ضواحي لوس أنجلس ... مرت السيارة الكبيرة على الفنادق تلتقط الزائرين المشتركين في الرحلة، حتى إذا ما تكامل العدد سارت بنا نحو غايتنا، والميكروفون أمام سائق السيارة ينبئ الركاب بما أراد أن ينبئهم به عن الطريق ومعالمه؛ قال عن منظر مررنا به إن مخرجي السينما كثيرا ما يستخدمون هذا المكان حين يريدون مناظر الرفييرا لأنه شبيه بها ... وهكذا أخذ يعلق لنا عن كل ما نراه على جانبي الطريق حتى وصلنا إلى هوليوود.
ظننت أني سأجد هوليوود مكانا صاخبا بالملاهي وبالنجوم الحسان، وإذا أنا في منطقة أهدأ ما تكون المناطق، فلا مارة في الطريق ولا ملاهي ولا مقاهي ولا حسان ولا شبه الحسان! إنني لا أرى شيئا إلا مباني وطيئة امتدت على جوانب شوارع فسيحة، والصمت شامل والهدوء كامل، كأنني بين حي هادئ رحل آهلوه إلى مشتى أو مصيف وأغلقوا أبواب ديارهم.
كان سائق السيارة يسمي الأماكن التي نمر بها: هذا ستوديو والت دزني، وهذا ستوديو كولمبيا، وهذا منزل «بب هوب» وهكذا.
صفحة غير معروفة