وأعود إلى غرفة جلوسنا وغرفة جلوسهم، فأقول إن الفرق بينهما هو الفرق الكبير العميق الواسع العريض بين عقل وذوق يبتكران وعقل وذوق يقلدان؛ كل غرفة هنا تحمل طابع أصحابها، فلا تستطيع أن تتنبأ بطريقة تأثيث البيت قبل أن تراه، وأما عندنا فيمكنك أن تحكم على البيت غرفة غرفة كيف أثث؛ لأننا لا نختار بأذواق شخصية، ونترك معظم الاختيار للنجار الذي صنع «الطاقم»، والنجار بدوره ناقل ينسخ ما هو مرسوم في النموذج.
الخميس 7 يناير
كنت في دار الإذاعة اليوم، سألتني المذيعة في حوارها معي حوارا مذاعا: أين قضيت إجازة عيد الميلاد؟ فلما قلت لها إني قضيتها في واشنطن ونيويورك، طلبت مني أن أحدثها - وأحدث المستمعين معها - عما استرعى نظري من خصائص في هذين البلدين الكبيرين.
فقلت: إني أستطيع أن ألخص الخصائص الأمريكية كما شاهدتها في كلمة واحدة هي «الانطلاق»، الانطلاق الذي لا يعرف الحدود بل الذي يتحدى كل الحدود، الانطلاق في كل شيء؛ فإذا كانت الشوارع في بلاد العالم قد حددها العرف باتساع معين، فالشوارع هنا تضرب هذا الاتساع في ثلاثة أمثال أو أربعة؛ وإذا كانت المباني في بلاد العالم قد حددها العرف بارتفاع معين، فالمباني هنا تضرب هذا الارتفاع في عشرة أمثال أو عشرين ... وهذا الانطلاق النفسي من قيود العرف المألوف قد وجد سبيله كذلك في بريق الألوان؛ فالألوان أينما سرت كانت تستوقف النظر، بل كانت تخطف البصر: بريق الأقراط في آذان السيدات، وبريق أربطة الأعناق على صدور الرجال، والجوارب في سيقانهم بألوانها الزاعقة، وبريق الزينات التي علقت في كل مكان بمناسبة عيد الميلاد، وكادت كل سيدة أن تضع على صدرها طاقة من ورد صناعي مزخرف فيه كرات ملونة بألوان صارخة، ثم متاحف الفن، إذا ما دخلت غرفة بها لوحات من الفن الأمريكي كان الأرجح أن أرى ألوانا غاية في السطوع واللمعان ... إذا شئتم فسموا هذا الانطلاق حرية في التعبير عن النفس، حرية لا تكتم نفسها بالضوابط المصطنعة من غير داع؛ يضحك الأمريكي من كل قلبه، فليس هو كالإنجليزي يضحك من رأسه ضحكا مكبوتا؛ ويعبر الأمريكي عن نفسه تعبيرا واضحا في لغة واضحة من غير لف أو دوران.
سألتني المذيعة فيما سألت: لا بد للإنسان في حياته من نسق في الحياة يجري على مبادئه وسننه، هكذا يقولون، فما معنى ذلك؟
قلت لها: هذا الكلام مشكوك في صحته؛ فلا ينبغي أن يكون لأي إنسان نظام معين إلا إذا أراد أن يجعل من نفسه آلة صماء؛ وهنا تجب التفرقة بين حياة الإنسان العلمية وحياته العادية التي تبلغ مداها في الحياة الفنية ... نعم، إنه في الحياة العلمية يجب أن يكون منطقيا صارم المنطق، وبذلك يبني نظاما مسلسل الخطوات؛ أما الحياة العادية فلا بد أن تكون حرة؛ لأن الحياة لدنية تلقائية، ومعنى ذلك أنها حرة فيما تأتي به اللحظة القادمة؛ الحياة لا تعرف النظام الصارم؛ فشجرة الورد لا تحدد نفسها إلا في حدود عريضة، وهي أن تنتج وردا، أما كم وردة تنتج وكم فرعا وكم يكون ارتفاعها، فذلك كله فيه كثير من المفاجأة؛ الحياة في حريتها هذه كالنهر المتدفق، إذا قسنا ماءه وسرعته فذلك على سبيل التقريب، وهناك دائما مجال للاختلاف نحو الأكثر أو الأقل ... الإنسان رغبات، وكل ما يطلب من نظام وتنظيم الرغبات ألا تهدم صاحبها، وبعد ذلك لا بد أن يترك للإنسان حرية التعبير عن هذه الرغبات تعبيرا يقوى حينا ويضعف حينا، ويشذ حينا ويستوي حينا؛ إن في هذا الفرق بين الدول الدكتاتورية والدول الديمقراطية؛ فالدول الدكتاتورية تريد أن تجمد الحياة في «نظام »؛ وأما الديمقراطية فتترك المجال واسعا للاختلاف والتغير، لو كانت الحياة خاضعة لنسق منظم لكانت كلعبة الأطفال التي ترص فيها مكعبات الخشب ليكون منها منزل، فإذا ما رصت المكعبات مرة واحدة تم كل شيء إلى الأبد، ولم يعد مجال لتجديد أو خلق وابتكار.
السبت 9 يناير
من أخبار الفن هذا الأسبوع خبر فيه دلائل كثيرة على الخلق الأمريكي، ومؤداه أن أمريكيا ثريا اشترى ديرا قديما في إسبانيا، بناه الملك ألفونسو السابع عام 1141م في قرية ساكرامنيا، وفك بناء الدير حجرا حجرا (به خمسة وثلاثون ألفا من الأحجار)، وشحنت الأحجار إلى الولايات المتحدة حيث أقيم من جديد عند مدينة ميامي على شاطئ فلوردا، تلك المدينة المشهورة التي يؤمها ألوف إبان فصل الشتاء، وسيتم افتتاح الدير هذا الأسبوع، وسيكون دخوله بأجر قيمته دولاران للشخص الواحد.
أقول إن هذا النبأ دليل على أشياء كثيرة من الخلق الأمريكي: ففيه جرأة التفكير وغرابته، وفيه انتباه إلى الآثار الفنية مع عين تنظر إلى الجانب المادي من الموضوع، وفيه رغبتهم الشديدة في جعل أمريكا تحمل من الآثار الدالة على تقادم الزمن ومر التاريخ؛ لتكون أمريكا ذات آثار تاريخية كسائر البلاد! ... إنني وأنا على سطح عمارة «إمباير ستيت» في نيويورك - وهي أعلى عمارة في العالم بها 102 طابق - ورد على خاطري الفرق بين الأمريكيين والأوروبيين في الأعمال الهندسية؛ فحين أرادت فرنسا - مثلا - أن تقيم دليلا على المهارة الهندسية، أقامت برج إيفل الذي يدل على القدرة لكنه لا يفيد، وأما الأمريكيون حين أرادوا إظهار القدرة الهندسية فقد أقاموا هذه العمارة الجبارة لتفيد وتدر المال.
الأحد 10 يناير
صفحة غير معروفة