كثيرون وقفوا بقواربهم يصطادون السمك قرب السد الذي يفصل البحيرتين؛ فالسمك كثير جدا هناك، تراه جماعات جماعات قرب سطح الماء؛ وقفنا ننظر، ولكن ما أبعد الفرق بين نظر ونظر! فرجل كمستر «ه» يرى حين ينظر، أما أنا فأنظر ولا أرى! فمثلا يهبط طائر أبيض يطير هابطا صاعدا، أما عند مستر «ه» فهو الطائر الفلاني، ينزل ليتلقط السمك الصغير ويطير به مسرعا، وأنظر إلى السمك يتلوى قريبا من سطح الماء، فلا يزيد هذا المنظر في عيني على ذلك، أما عند مستر «ه» فهو سمكة من النوع الفلاني قد التقمت سمكة من النوع الفلاني، ثم يضيف قائلا: إن السمكة الآكلة تعرف كيف تأكل فريستها؛ فهي تبدأ بالرأس لا بالذيل، حتى تقضم الرأس فتقضي على المقاومة، ولا تتعرض لضربات الذيل داخل حلقها.
عدنا إلى أكواخنا الخشبية في مكانها الهادئ على البحيرة، ورأيت في الطريق عددا كبيرا من السيارات التي تجر وراءها قوارب الصيد، فترى صاحب السيارة قد انطلق ووراءه قارب مركب على عجل كعجل السيارة نفسها، قاصدا إلى حيث يصيد السمك في عطلة الأسبوع. ولما لمحت سيارة تقودها فتاة وحدها، وتجر وراءها قاربا مشدودا إلى سيارتها، قلت لنفسي: ما شاء الله كان! فهي صاحبة سيارة أولا؛ وتعرف كيف تقودها ثانيا؛ وثالثا لها قارب؛ ورابعا تعرف كيف تشد القارب إلى السيارة؛ وخامسا تعرف على الأقل رياضة واحدة من سباحة أو سماكة أو تجديف؛ وسادسا هي فتاة وحدها فلا حارس ولا رقيب ... وعلقت على ذلك لنفسي قائلا: هذه هي المدنية الغربية متمثلة في فتاة.
قالت السيدة «ب» تعليقا على كثرة السيارات في الطريق: إن عدد السيارات يزداد ازديادا شديدا؛ فأجابها مستر «ه» بأن أمريكا رغم ذلك لا يزال أمامها في هذا المضمار طريق طويل حتى تنتج لكل فرد سيارة، فبينما الإنتاج الآن هو سيارة واحدة كل خمس ثوان؛ (أي 288 سيارة في اليوم) فإنها تنسل من السكان سبعة آلاف كل يوم.
هموا أن يسبحوا في البحيرة، ووزع علينا مستر «ه» أردية السباحة، فقلت: إني لا أسبح، وسأقف لكم على الشاطئ أنظر ... فانفجر مستر «ه» ضاحكا وراح يبلغ هذه النكتة الكبرى لزميلتينا «ب» و«م» كأنما هي أعجوبة من أعاجيب البشر!
لو استرسلت في تفصيلات الرحلة لما انتهيت من وصفها، حسبي ذلك منها.
وبدأنا طريق العودة عصرا، وبينا نحن عائدون انعرج بنا في الطريق مستر «ه» إلى جوف الغابة في موضع ما، فسألناه: إلى أين؟ قال: زرعت شجرة جوز هنا في التاريخ الفلاني، وأرعاها كلما مررت في هذا الطريق؛ ونزلنا عند الشجرة، فراح يقلمها هنا ويهذبها هناك، وقال: إن أحب شيء إلي أن أزرع شجرة في هذا الموضع، وأخرى في ذلك الموضع من المواضع التي أرتادها في رحلاتي، محاولا أن أحصل على أكبر جوز في الولاية؛ سألته السيدة «ب»: فيم هذا التقليم والتشذيب؟ لماذا قطعت كل هذه الفروع؟ فأجابها: لكي تركز الشجرة جهدها كله في تكبير الثمار بدل أن تنفق عصارتها في تغذية فروع لا فائدة منها؛ وكذلك نزلنا في موضع آخر يجاوره منزل وحيد على حافة الغابة، زرع به شجرة أخرى؛ فراح مستر «ه» يقلم الفروع وينادي سكان المنزل بأعلى صوت، فخرج الرجل وزوجته ورحبا بنا ... هنا كان بعض الجوز ساقطا على الأرض، فالتقطه مستر «ه» وهو يصيح في مرح ليس بعده مرح، كأنه الطفل الصغير في فرحته بلعبة جديدة، وأخذ يناول كلا منا جوزة أو جوزتين مما التقط، ويصيح: قولوا بصراحة أيها الأصدقاء، ما رأيكم في هذا الجوز العجيب؟ فقال قائل: ما ألذ! وقال آخر: ما أروع ... من ذا يلومني إذا أحسست عندئذ بالحسرة العميقة حين قارنت تربيتي بتربية رجل كهذا؟ أي نوع من البشر أنا؟ وأي نوع من النشأة نشأت؟ بماذا أزيد على البهيمة غذيت لتنمو ثم تموت إذا جاءها الأجل؟ إنه بغير هذا الشغف بالحياة فلا حياة؛ بل إنه بغير هذه الرغبة في استطلاع الطبيعة والقدرة النفسية على الدهشة والتعجب لكل ما تبديه الطبيعة من كائنات، فلا ثقافة؛ فليس المثقف مكتبة متنقلة خزنت في جمجمة الرأس، إنما المثقف رجل حي يقف من الدنيا وقفة المشترك في تطورها ونموها، والمستطلع لسرها وخبيئها.
الإثنين 19 أكتوبر
في صحيفة اليوم حادث له غرابته: ذهب طالب في الجامعة أمس ساعة الغروب إلى منزله، وضرب أمه حتى قتلها؛ ثم أخذ السيارة وذهب بأعصاب باردة هادئة إلى أبيه في مكان عمله، زاعما أنه إنما أراد أن يعود به إلى المنزل في السيارة كأنه الابن المشتاق؛ لكنه يضمر عزما أن يقتل أباه؛ وكان أبوه - بمصادفة عجيبة - مطلوبا في قسم البوليس لأداء الشهادة في حادث ما، فعرج الابن بأبيه على قسم البوليس، بل واستطاع الابن بأعصابه الحديدية أن يستخدم تلفون البوليس ليقول لأحد أصدقائه - الذي كان معه على موعد يذهبان فيه إلى السينما: إنه قد يتأخر قليلا عن موعده، لكنه ذاهب معه لا محالة فلينتظره، وأخيرا صحب الوالد ولده إلى الدار، والوالد لا يدري من الأمر شيئا؛ ودبر الولد أن يدخل بأبيه من الباب الخلفي حتى لا يمر بالغرفة الملقاة فيها جثة أمه القتيل؛ ولم يكد الوالد والولد يدخلان حتى انهال الولد على والده ضربا فأفقده النطق، ولم يستطع الإجهاز عليه؛ لأن الجيران أحسوا حركة فجاءوا يستطلعون الأمر فوجدوا ما وجدوا ... والعجيب أن قد سئل زملاء الطالب في الجامعة، فأجمعوا على أنه كان من أهدأ الطلاب خلقا وأطيبهم سلوكا! فكم في هذه الدنيا من مآس لا يعلم الدوافع إليها إلا الله وإلا علماء النفس إن أراد الله لعلم النفس أن يكون علما يركن إلى أحكامه ونتائجه.
دعاني مستر «ه» أن أذهب إلى لقائه مساء في فندق كولمبيا، ولم أدر لماذا ولا إلى أين نذهب، لكني أحببت هذا الرجل الذي يشيع في نفسي قبسا من مرحه كلما التقيت به، فاستقبلني في بهو الفندق بحفاوة، وراح كمألوف عهده يضحك ويصيح لا يأبه إن كان في الفندق ناس أو قطع من الحجارة! وكان في وسط البهو امرأة جالسة في نحو الأربعين من عمرها، لكنها على درجة عالية من الجمال؛ فأخذني ودنا منها وقال: إنني يا سيدتي لا أعرفك لكني مع ذلك أريد أن أقدم لك هذا الضيف من مصر؛ ثم قال لها: إني أرجح أنك قد جئت إلى كولمبيا في اجتماع القساوسة الذي ينعقد الليلة؛ لأني رأيتك في صحبة قسيس، فقالت: نعم، هذا القسيس هو زوجي جئت معه؛ فأجابها مازحا: لا شأن لي إن كان زوجك أو أخاك، إنما شأني هو أنك رائعة الجمال.
وما هي إلا أن صعدنا السلم إلى غرفة فسيحة صفت بها الموائد، فعرفت عندئذ أنه احتفال يقيمه ناد اجتماعي شبيه جدا بنادي الرواد عندنا في مصر، مهمة أعضائه: الخدمة الاجتماعية، والغاية من الاحتفال أن يقدم الأعضاء زوجاتهم حتى يعرف الجميع بعضهم بعضا، وصاحبي مستر «ه» مدعو ليكون خطيب الحفلة، فطلب من الداعين أن يعدوا لي مقعدا بجواره، وقدمني إلى أعضاء النادي ... وجاء دور أخينا مستر «ه» ليقول كلمته فهز القاعة هزا بالضحك؛ فهو ظريف الملاحظة في فكاهة مستملحة، أراد أن يقول للحاضرين كم تغيرت مدينة كولمبيا عن ذي قبل، فوضع هذا المعنى في أسلوب فكاهي يثير الضحك ؛ إذ قال: تغيرت الدنيا في هذا البلد تغيرا عجيبا أيها الإخوان؛ فقد كانت العادة أيام طفولتي أن يأكل الأطفال أجنحة الدجاج وأرجله، أما صدورها فللكبار، فلما كبرت فرحت لأنني كنت أرتقب العهد الذي أكون فيه من أكلة الصدور، لكن شاء لي الحظ الأنكد أن يذيع رجال الطب في الناس أن الأطفال يجب أن يعطوا صدور الدجاج ليتغذوا غذاء جيدا، وحسب الكبار أجنحة وأرجل؛ وإذا فقد ضاعت فرصتي في العهدين معا! ... تغيرت الدنيا يا إخواني، وإني لأدرك مدى التغير عن عهد طفولتي حين أقف على ناصية الطريق يوم ريح، فعندئذ أرى النساء مشغولات بإمساك الشعر على رءوسهن مخافة أن يختلط ويضيع تصفيفه، وللريح بعد ذلك أن ترفع عنهن الثياب ما شاءت فينكشف من أفخاذهن ما ينكشف، وأما في عهد طفولتي فقد كانت المرأة يوم الريح العاصف تمسك بثوبها بين ركبتيها اتقاء للعري، وليحدث لشعر رأسها بعد ذلك ما يحدث ... وهكذا وهكذا.
صفحة غير معروفة