أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

نوال السعداوي ت. 1442 هجري
99

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

تصانيف

في المكتبة ألتهم أية رواية تقع تحت يدي، في الليل، بعد أن تنطفئ الأنوار، أخرج مفكرتي السرية، وأكتب تحت ضوء القمر، بدأت رواية طويلة الصيف الماضي تحت عنوان «مذكرات طفلة اسمها سعاد»، في النهار بعد انتهاء الحصص أجلس في الفناء فوق الدكة الخشبية، تحت شجرة الكافور بجوار ملعب التنس أحتضن القلم والكشكول.

شمس الشتاء في حلوان قوية، دافئة، تسري حرارتها في جسدي وعقلي، ملأت الكشكول بالرواية، ستون صفحة كتبتها، تنهمر دموعي مع «سعاد» بطلة القصة كأنما هي أنا.

في حصة اللغة العربية طلب المدرس أن نقدم له في الاختبار قطعة أدبية من خيالنا، قدمت له الرواية، أعادها إلي في الأسبوع التالي، راح يرمقني بعينين ضيقتين: السماء لا تكون غاشمة يا حمارة! أنت في حاجة إلى تقوية في الدين!

أعطاني صفرا في الاختبار، لم يترك صفحة من الرواية دون أن يشطب منها أو يعلم عليها بقلمه الأحمر: خيال مريض ناتج عن ضعف الإيمان! أفكار غريبة شاذة لا ترد لأية فتاة في هذا السن!

في النوم يلوح لي «الصفر» بقلمه الأحمر كأنما حكم بالإعدام، في النهار أحملق في «الصفر» حتى أحس الألم الخارق فوق بياض عيني، كانت الدموع تتجمع تحت الجفن ثم تجف تحت الشمس كالملح.

في إجازة الصيف أخذت الكشكول معي إلى منوف، خبأته بين كراريسي القديمة في الدرج، وقع في يد أمي الرواية وتأشيرات المدرس، والصفر الأحمر الضخم على شكل حبل المشنقة. «القصة حلوة يا نوال، والمدرس ده غبي.»

انتشلتني أمي من هاوية الشك في نفسي، كان الأستاذ في المدرسة مثل الإله، لا يمكن أن نشك فيه، والأسهل أن نشك في أنفسنا.

أبي أيضا قرأ الرواية، جلست إلى جواره وهو يقرأ، عيناي فوق ملامح وجهه، ألتقط ما قد يظهر عليها من أحاسيس قبل أن يدركها هو، أراقب اللمعة في عينيه حين تحوم حول شفتيه أو تنقلب إلى انقباضة في عضلات الفم.

لم يكن أبي مثلي سريعا في إبداء رأيه، إنه بطيء بالطبيعة أو عن عمد، ربما قرأ في وجهي لهفتي على سماع رأيه، فجلس صامتا فوق الكنبة مثل «أبو الهول»، أكان يستعذب تعذيبي؟ لم أنس ما كان يفعله في طفولتي أيام السيرك، إنه يهوى إضاعة الوقت في مثل هذه اللحظات الحاسمة في حياتي، ينتظر وينتظر حتى تفرغ طاقتي على الصبر وأنفجر من الغيظ، حينئذ يخرج أبو الهول عن صمته ويقول: برافو يا نوال! عندك موهبة فعلا!

كان يمكن أن أقفز في الهواء، أنقض عليه وأعانقه بذراعي الاثنتين، أغمره بالقبلات، رغم جنوني كنت عاقلة متزنة لا أستطيع تجاوز العادات أو التقاليد.

صفحة غير معروفة