أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

نوال السعداوي ت. 1442 هجري
83

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

تصانيف

خالي ممدوح يبدو لي مثل حذاء لامع بالذهب، طالب في الجامعة، لم يسمع عن طه حسين، لا يقرأ الكتب، لا يكتب ولا يرسم، لا يعزف على العود، ليس له هوايات إلا معاكسة البنات ، هو وخالي يحيى توءمان.

دقت ساعة الحائط الثانية عشرة، لم يعد أحد من سهرة رأس السنة الجديدة، توقفت عن الكتابة جالسة وحدي في الصالة الواسعة، مسامير الصور بارزة فوق الجدران، خلعت طنط فهيمة جميع الصور، أرادت أن تنسى صورة أبيها، تنفست الصعداء بعد موته مثل جدتي آمنة.

صوت ينادي من غرفة جدتي: يا رب؟ ليه يا رب الظلم ليه؟ روح جدتي عادت من القبر، شبح أسود يتحرك وراء الباب.

تجمدت في مكاني، البيت كبير موحش مملوء بأشباح الموتى، روح جدي تدق الأرض بالعصا، صوته عال: يا إلهي أنت جاهي، جرس الباب يصلصل، لا أحد يدخل أو يخرج، الأرواح تحرك الجرس المعلق أعلى الباب.

الغرفة الصغيرة في بيت عمي أصبحت واحة الأمن، لم تكن هناك أشباح موتى إلا شبح زوجة عمي تمشي من الصالة إلى المرحاض، كانت حية، ليست ميتة مثل جدي وجدتي، كانت تبدو في العتمة مثل الروح الخارجة من القبر، تتسند على الحوائط، ساقاها مقوستان تحت جسمها السمين، تلهث، تتوقف، تأخذ نفسا طويلا، تنهيدة عميقة، تواصل خطواتها الزاحفة داخل الشبشب، كعبه يطرقع على البلاط، تدخل المرحاض فيطرقع صوتها: مين اللي سد الكنيف؟!

كلمة «الكنيف» تعني المرحاض (بيت الأدب بلغة ستي الحاجة)، تدق باب غرفتي وأخي، تسألنا بصوت الضفادع: مين فيكو اللي سد الكنيف؟!

أخي طلعت يكتم الضحك، يفتح الباب يقول لها: لازم عمي الشيخ محمد، عشان بيحب الكرنب المحشي!

كانت زوجة عمي تطبخ جالسة في غرفة نومها، تقضي النهار في حشو الكرنب والباذنجان، وعمل فتة الكوارع بالثوم، وحشو المنبار بالبصل والفلفل.

في كفر طحلة كان لعمي الشيخ محمد زوجة أخرى هي «أم فوزية»، نحيفة خفيفة، لا تكف عن الحركة وعمل السحر ضد ضرتها، (الضرة هي الزوجة الثانية)، تهمس في أذني: «مرات عمك الشيخ محمد في مصر زي الفيل أبو زلومة الخالق الناطق، مالهاش شغلة إلا حشو بطن عمك الشيخ، راجل فلاتي بتاع نسوان زي المرحوم أبوه، نعمل إيه؟ ستك الحاجة هي اللي علمته وصرفت عليه في الأزهر، وبقه لابس قفطان وعمة، تحت القبة شيخ يا شيخ محمد!»

في بيت عمي (في حي العنبري) زوجته الثانية تقول: «عمك الشيخ محمد ساب «أم فوزية» عشان مجنونة، عقلها طاقق، مالهاش شغلة غير الشبشبة والسحر عشان عمك الشيخ يرجع لها.»

صفحة غير معروفة