كنت جالسة بين أبي وأخي طلعت داخل التاكسي المنطلق بنا إلى بيت عمي الشيخ محمد، قال أبي لأخي: إنه دخل مدرسة بنبا قادق الثانوية، سيسكن معي في بيت عمي، التفت أبي ناحيتي وقال إنني دخلت مدرسة السنية.
خفقة واحدة هائلة من قلب ارتج لها التاكسي، اصطكت عجلاته بأسفلت الشارع محدثة صوتا عاليا، وارتجاجات في جسدي، في جسد أبي أيضا، طربوشه كان يخبط في سقف السيارة، أمسكه بيديه الاثنتين، سقط عن رأسه، وضعه فوق ركبتيه.
قال أبي: هذا اسمه شارع محمد علي، على جانبيه رأيت الأعمدة الحجرية الضخمة «البواكي»، المحلات، الدكاكين، الزحام، الترام يصلصل وراءنا يكاد يدهس التاكسي، تبادل سائق الترام مع سائق التاكسي اللعنات، شتم كل منهما أم الآخر وأباه حتى سابع جد، انطلق كل منهما في طريقه لاعنا الدين والدنيا وشارع محمد علي بما فيه من المومسات وبيوت البغاء.
كان بيت عمي في زقاق ضيق غير مرصوف بالأسفلت، مملوء بالحفر والمطبات وأكوام القمامة، زمجر السائق وهو يدخل الزقاق، توقف قبل أن نصل إلى البيت، بركة صغيرة من الماء والطين تفوح منها رائحة المجاري، أي فارق بين هذا الزقاق وشارع الضاهر؟ أي فارق بين عمي الشيخ محمد وبيت طنط هانم؟
عمي الشيخ محمد السعداوي يحمل لقب أستاذ الشريعة في جامعة الأزهر الشريف، تصورت أن بيته أجمل من بيت تاجر الموسكي! شقة ضيقة مظلمة في الدور الرابع، بيت قديم آيل للسقوط، له مدخل ضيق شديد الظلمة، أحمل حقيبة كبيرة، أتعثر فوق السلالم وراء أبي وأخي، كل منهما يحمل حقيبة بيد، في يده الأخرى عود كبريت مشتعل.
في كل دور يتوقف أبي ليشعل عود كبريت جديد، يلتقط أنفاسه، يواصل الصعود، أنا وأخي من خلفه نلهث بصوت مسموع.
كلمة «السنية» والأبهة تبخرت في الجو، قلبي يغوص إلى أسفل مع كل درجة أصعدها نحو بيت عمي، أبي يقول شيئا ليخفف الصدمة، يخفف عن نفسه عبء تأنيب الضمير والندم لإحضارنا إلى هنا، أو لعله وجد الفرصة سانحة ليتحدث في السياسة: حكومة فاسدة، لا تحترم العلم ولا العلماء! نظام فاسد لا يكسب فيه إلا الجهلاء وتجار الخردة في الموسكي.
انحفرت كلمات أبي في ذهني، خففت عني الإهانة، الفقر يهين كرامة الإنسان، يمتلئ الصدر برائحة المجاري كل صباح، الفول ، العدس، الأصوات تنطلق من الأمعاء داخل المرحاض؟!
باب المرحاض إلى جوار باب الغرفة التي أصبحت غرفتي (وأخي طلعت)، غرفة رطبة باردة، في الشتاء ثلاجة، وفي الصيف حارة ملتهبة، زنزانة من الصفيح داخل قرص الشمس، نافذة واحدة صغيرة تفتح على جدار أسود مسدود، تتصعد منه رائحة طبيخ حامض يغلي على النار، باب آخر صغير يفتح على السلالم الخارجية.
نعمة من عند الله هذا الباب الصغير، يعفينا من المرور في الصالة عند الخروج. الصالة مثل السرداب، كنبة بلدي يجلس عليها عمي وزوجته وأقاربها من عائلة العقباوي.
صفحة غير معروفة