المرض تلاشى في غمضة عين، كيف؟ وجدتني أنطلق خارج غرفتي، صاروخ قاطرة يدفعها البخار المضغوط، أستطيع أن أفعل أي شيء، أهد بيد جدران البيت، ألوي القضبان الحديدية بيد واحدة، أكسر الباب الخارجي بضربة واحدة من قدمي، أخرج إلى الشارع وألحق به قبل أن يصل إلى شارع المحطة. توقفت في الفرندة لحظة لألتقط أنفاسي، الأشجار تتمايل تحت ضربات الريح، ريح قوية حارة كالصهد، محملة برمال الصحراء، الكون لونه أصفر، السحب بلون الرمال، السماء ترعد، رذاذ المطر يتساقط فوق الأرض الترابية تحت الفرندة .
قفزت السلالم في خطوة واحدة، في أعماقي قوة تدفعني إلى الانطلاق، قوة غريبة لم أعرف مصدرها، أهي السماء الصفراء، أم حركة الريح، أم صوت الرعد؟ دقات المطر فوق التراب ؟ الرائحة النفاذة للطين بالماء؟ فتحت الباب الخارجي بيد واحدة، نظرت إلى الخارج، المطر تحول إلى سيل هاطل، امتلأت الحفرات في الأرض الترابية بالماء كالبرك الصغيرة، وقفت على العتب ممسكة بالباب ... تساقط جسدي فوق العتبة، وجلست أشعر بالتعب، المرض، الذهول، لماذا انطلقت نحو الباب؟ هل أنوي الخروج؟ إلى أين؟!
بعد لحظات استعدت هدوئي، عاد الكون إلى اتزانه، لم تعد بي رغبة في الخروج، لم أعرف لماذا، هل أصبح الخروج غير ضروري؟ غير منطقي؟
صعدت درجات السلم عائدة إلى الفرندة، إلى الصالة، ورأيت أمي تضع فوق المائدة مفرشا جديدا بالإبرة الكروشيه، غرفة الصالون بابها مفتوح، دخلت إلى غرفتي واختفيت تحت الغطاء، لم أكن أتمارض، هو المرض الحقيقي، وجع في القلب، الندم أو تأنيب الضمير. كنت أنوي اللحاق به قبل أن يسافر، المطر أغرق الشارع، لم يكن لي أن أغوص في البرك والوحل ... أكان ذلك كل شيء؟
في اليوم التالي، أشرقت الشمس، غسل المطر أوراق الشجر من رمال عاصفة الأمس، فتحت عيني في الصباح على صوت أم كلثوم يغني في الراديو: «يا ليلة العيد آنستينا، وجددتي الأمل فينا، يا ليلة العيد.» إنه اليوم الأخير في العيد، أو اليوم بعد الأخير، الصالة في بيتنا لا تزال تمتلئ بالأقارب من عائلة أبي وأمي.
غرفة الصالون مفتوحة، فيها ضيوف ... الراديو مفتوح على أعلى درجة صوت؛ ليعرف الجيران أن عندنا راديو.
كان صوت أم كلثوم مثل صوت عبد الوهاب لا يهزني. يبعث بعض الطرب لا يهز الأعماق، صوت محايد يغني لكل الناس.
أستشعر الخواء أو الفراغ في كلمة «الكل»، أريد أن أكون شيئا، لم أتخيل أنني أعيش وأموت «مثل الكل» دون أن يحدث شيء، ما هو؟ إحساس غامض، يتملكني صوت في أعماقي يقول: لم أكون مثل كل البنات؟ لن أكون مثل أمي أو جدتي أو خالاتي أو عماتي أو غيرهن.
لن أكون أيضا مثل جدي أو أبي أو أخي أو أخوالي أو أعمامي أو غيرهم من الرجال.
مثل القنفذ أتكور في سريري، أستجمع حواسي في حاسة واحدة «السمع»، أحاول التقاط شيء مما يدور في الصالة، تجمعت النسوة من عائلة أمي وأبي، الهمس يدور بينهن مثل هسيس الريح، هناك شيء يدبر في الخفاء، شيء يتعلق بي أنا بالذات، شيء خطير يمكن أن يحطم حياتي أو أحلامي. ••• «البسي الفستان الحرير الجديد عشان تقدمي القهوة للضيوف في الصالون.»
صفحة غير معروفة