أرى نفسي راقدة فوق الشاطئ داخل المايوه، فيه خطوط سوداء وبيضاء، إلى جواري أمي داخل المايوه، لونه أسود وأبيض، يخفي صدرها وبطنها، له حمالتان فوق الكتفين، أختي الصغرى «ليلى» تجلس بين ساقي أمي داخل مايوه صغير يشبه الذي أرتديه، في الطرف الآخر من الصورة يجلس أبي عاري الصدر والبطن، يرتدي مايوه بلا حمالات فوق الكتفين، إلى جواره أخي عاري الصدر والبطن مثله، يرتدي مايوه صغير بلا حمالات، لا يغطي من جسمه إلا الجزء الصغير أسفل البطن.
كانت أمي تحملني فوق مياه البحر، تعلمني كيف أطفو فوق الأمواج، أضرب المياه بذراعي وساقي وأضحك، أغطس وأنا أضحك، تضحك أمي وتنشلني من الماء، صوت الضحك يعلو فوق الموجات، الأمواج تعلو ثم تهبط منكسرة على شكل رغاوي بيضاء، اللون الأبيض يذوب في زرقة البحر، والزرقة تذوب في الهواء، البحر والسماء يلتقيان في الأفق البعيد على شكل نصف دائرة، ذراعا أمي من حولي ترفعاني فوق أمواج البحر، رأسي يلامس السماء.
أمي كانت تسبح وحدها كأنما هي موجة في البحر، تصورت أنها ابنة البحر، إن البحر ولدها وهي ولدتني، أنا وهي خرجنا من هذه المياه الزرقاء الدافئة، فوق هذه الرمال الناعمة البيضاء، تحت السماء الزرقاء الصافية، ومن حولنا الأشعة الذهبية من الشمس، إنه بحرنا وشاطئنا وشمسنا وهواؤنا، أنا وأمي هذه هي أرضنا، أصواتنا حين نضحك ينقلها الهواء، تحملها الأمواج إلى أمواج أخرى، إلى بلاد أخرى، بلا نهاية، بلا نهاية، تحوطني ذراعاها فوق الأمواج، ثم تتركني أسبح وحدي، ثم تعود تمسكني وتحوطني، جسمها يصبح جسمي ثم ينفصل عني، أصبح أنا وحدي وهي جسم آخر منفصل، نلعب معا فوق الأمواج هذه اللعبة اللانهائية، الاتصال ثم الانفصال، ثم الاتصال والانفصال من جديد.
في الصورة كان أبي جالسا بعيدا عني وقريبا من أخي، أبي كان يبقى دائما بعيدا، تفصلنا هذه المسافة في الصورة، هذه المساحة فوق الشاطئ، أحيانا تمتد ذراعي في الحلم لأعانق أبي، لكن ذراعاه لا تمتدان نحوي، يحافظ دائما على هذه المسافة بيننا، يحتل مساحته بعيدا عني، جسده طويل فارع القامة، له شارب أسود مربع فوق الشفة العليا، حين يقف فوق رمال الشاطئ يحجب عني البحر والشمس، يقف طويلا عملاقا لا يقترب، ولا ينحني ليطبع فوق خدي قبلة، لم يقبلني أبي مرة واحدة في حياتي حتى مات. كان يقف، عظام ذراعيه وساقيه بارزة تحت الجلد، بشرته سمراء بلون الطمي، يغطيها شعر أسود فوق الصدر، عضلاته بارزة تحت الشعر، باردة الملمس، فيها صلابة، تعلوها قطرات من مياه البحر لها طعم الملح.
كان لجسم أبي فوق الرمال البيضاء خطوط واضحة تحدد وجوده، هذا الوجود المستقل الصلب داخل كون سائل تذوب فيه زرقة السماء في مياه البحر، هذا الوجود سيصبح هو العالم الخارجي ، عالم أبي سيصبح هو الأرض، الوطن، الدين، اللغة، الأخلاق، التاريخ، المستقبل، سيصبح هو العالم من حولي، عالم من الأجسام الذكورية أعيش فيه بجسم الأنثى.
إنه البحر المالح (الأبيض المتوسط)، وأنا راقدة فوق الشاطئ، قماش المايوه من النوع المطاط، يضغط على صدري وبطني، يمنع عنهما الهواء والشمس، أبي يقف عاري الصدر والبطن، يعرض صدره وبطنه للهواء وأشعة الشمس، أخي مثل أبي يرتدي مايوه بلا حمالات فوق الكتفين، صدره وبطنه عاريان تحت الشمس والهواء.
كنت أشد الحمالات من فوق كتفي، أكشف صدري وبطني للهواء والشمس، ترتفع يد خالتي نعمات في الهواء وتضربني، وصوتها يخرق أذني: عيب! وأصرخ: إشمعنى طلعت! يعود إلى صوتها مثل نعيق البوم: هو ولد وانتي بنت!
كانت هذه العبارة تخرق أذني منذ ولدت، تدخل فمي في مياه البحر المالح: «هو ولد وانتي بنت»، أحس الملوحة في حلقي، ملوحة غريبة، زرقة البحر تتحول إلى مسحوق من الملح، الشمس تتحول إلى شيء يحرق الجلد، الألوان الخضراء والحمراء الذهبية كلها تصبح سوداء أو رمادية.
ربما هو الغضب بدأ ينمو في أحشائي مثل عشب البحر، حشائش رفيعة سوداء كنت أراها تسبح داخل المياه الزرقاء، ترسب في القاع ثم تطفو، تلفظها الأمواج فوق الشاطئ، تجف تحت الشمس مثل الثعابين أو قراميط البحر الميتة.
كان الغضب لا يزال وليدا في أحشائي كالعود الصغير الأخضر، الخضرة تذوب في الزرقة، والزرقة تذوب في اللون الأسود، تتداخل الألوان ومعها الغضب وأحاسيس أخرى مشتقة من الغضب.
صفحة غير معروفة