المريضة مسعودة زيدان مصابة بمرض عصبي وتحتاج البقاء بالقسم الداخلي حتى يتم لها الشفاء تحت الرعاية الطبية، أنصح بعد شفائها ألا تعود إلى بيت زوجها، فهو سبب المرض، يكبرها بواحد وخمسين عاما، يضربها كل ليلة ويغتصبها جنسيا من الخلف وهي ساجدة تصلي لله ، أرغمها أبوها على الزواج منه وهي في العاشرة من العمر، كانت تظن أنه الإله، بعد أن كبرت قليلا تصورت أنه الشيطان أو العفريت الذي يركب النسوة في القرية، بالكشف الطبي عليها اتضح أنها مصابة بالتهابات مزمنة وقروح في فتحة الشرج، ناتجة عن العنف في إدخال العضو الذكري لرجل كبير داخل جسد طفلة صغيرة، وتكرار هذا العنف كل ليلة لمدة ثمانية أعوام، لم تعرف الزوجة وهي في الثامنة عشرة من عمرها كيف تخرج من أزمتها إلا عن طريق المرض العصبي إذ ارتد الخوف المكبوت على شكل عفريت. - «والنبي يا ضكطورة تخليني هنا على طول، إلهي ربنا يطول عمرك.»
هذا هو صوت مسعودة بعد أن تماثلت للشفاء، القروح والجروح التأمت، أصبحت تمشي في ردهات القسم الداخلي تتحدث مع الممرضات، لأول مرة يرينها تبتسم، أشرق وجهها بالأمل، جاء زوجها يستلمها من المستشفى، أغلقت على نفسها باب غرفتها، هددت أن تحرق نفسها، زوجها سمين الجثة له كرش تحت الجبة من السكروتة، يلف رأسه بعمامة خضراء، في يده مسبحة صفراء، يبسمل ويحوقل ويسعل بصوت المصابين بالربو، يخرج من جيبه بخاخة يلصقها بفتحتي أنفه الواسعتين. - مسعودة مراتي يا ضكطورة لازم أخدها في إيدي ع الدار. - اعقلي يا مسعودة وارجعي مع جوزك أنا أبوكي وقلبي عليكي. - يا حاج زيدان البنت مش عاوزة ترجع، خليها على راحتها. - على راحتها إزاي يا ضكطورة دي مراته على سنة الله ورسوله وإذا مارجعتش بالذوق يرجعها بالعافية ده راجل عارف ربنا والآنون.
كلمة الآنون باللغة العامية تعني القانون، زوجها كان يعرف حقه الشرعي، لم يكن للزوجة أن تخرج من بيت زوجها بدون إذن، إن خرجت يمكن أن يعيدها حسب قانون الأحوال الشخصية، إن رفضت العودة يمكن أن يطلب مركز الشرطة، يحملها رجال البوليس إلى بيت زوجها، يسمونه بيت الطاعة في القانون.
تحصنت بالطب لأبقي مسعودة بعيدا عن زوجها، القانون أقوى من الطب، يستند إلى شرع الله، أصبحت كمن تصارع الله والشرع، لم يكن لي أن أتخلى عن مسعودة، سبق أن تخليت عن سعدية وشلبية، كنت طفلة بلا حول ولا قوة، اليوم أنا طبيبة الوحدة المجمعة، فهل أتخلى عن المسئولية؟!
لم تخرج مسعودة من المستشفى إلا بمجيء رجال البوليس، أخذوها بالقوة إلى بيت زوجها، كان معهم رئيس الوحدة الأستاذ خير الله، أرسل شكوى ضدي إلى المجلس الأعلى بالقاهرة، ثلاث صفحات فولسكاب، بالآلة الكاتبة، من ثلاث نسخ، واحدة لمكتب رئيس المجلس الأعلى فؤاد بك جلال، الثانية لمكتب الدكتور عبده سلام، أمين عام المجلس، الثالثة لمكتب رئيس الجمهورية، قرأت الشكوى بعد عام كامل في القاهرة بمكتب الدكتور عبده سلام، ملخصها الآتي: «الدكتورة نوال السعداوي طبيبة وحدة طحلة المجمعة بمحافظة القليوبية تظهر ازدراء للقيم والآداب العامة وتحرض النساء على التمرد على الشريعة الإسلامية والقانون.» •••
هذه العبارة أصبحت هي التهمة الموجهة إلي، تحاصرني في كل عمل أقوم به، تنقض علي في كل كلمة أكتبها، تطاردني في كل خطوة، تنتقل في دهاليز الحكومة من عهد إلى عهد، العام وراء العام، أربعين عاما حتى اليوم.
لم أعرف حينئذ أن المدافعين عن القيم والآداب والشريعة هم المنتهكون لها في الواقع والحقيقة.
في بيت زوجها المطل على النيل عاشت مسعودة أسبوعا واحدا، في الأسبوع الثاني اختفت، بحث عنها البوليس أسبوعا كاملا، في القرى المجاورة والحقول، في محطات القطارات، في أقسام الشرطة، في المستشفيات والملاجئ، في بيوت الغوازي والعوالم، جاءوا إلى الوحدة فتشوا ركنا ركنا، دخلوا بيتي فتشوه، ثم ظهرت مسعودة طافية فوق سطح النيل، عثروا على جثتها عند الحدود ما بين قرية الرملة ومدينة بنها.
كان يوما ترابيا أغبر، وقفت فوق الجسر داخل معطفي الأبيض، يداي إلى جواري مشلولتان، واقفة مثل النسوة المقهورات داخل الجلاليب السود، أرقب مسعودة ينتشلونها من مياه النيل، كالعروسة الصغيرة كانوا يلقونها للإله العجوز، عمره عشرة آلاف عام، لا يشتهي إلا العذراوات الصغيرات، تزف الواحدة منهن إليه تحت اسم «عروس النيل»، يبتلعها كما ابتلع سيول المطر بعد ذوبان الثلوج في العصر الجليدي الأخير، يشق قلب أفريقيا عبر الصخور والصحاري والقفار، يجري مسافة 6825 كيلومترا، يرتفع بالفيضان ليلة الثاني عشر من شهر بئونة، يسمونه يونيو، تسقط من السماء نقطة مطر واحدة فيفيض النيل، يسمونه ليلة النقطة، كانوا ينقشونها على الجدران منذ خمسة آلاف عام، باللغة الهيروغليفية يكتبون: «هذا هو الإله الذي يخرج من النيل ولا يجرؤ أحد على الكلام عنه.» كانوا يسمونه أوزوريس الطلسم ملك الموتى، يشعلون له المصابيح في الليل، يسجدون بين يديه، يبنون له البيت يسمونه المعبد، يقدمون الطعام ويذبحون له الوز والبط والحمام.
انتشلوها من بين ذراعيه العجوزين، رأيتها محمولة بين أذرع الرجال، جلبابها ملتصق بجسدها النحيف كالبوصة، أبوها وأمها وزوجها وأهالي القرية كلهم واقفون، من أين جاء كل هؤلاء الناس؟ سماء القرية رمادية، الرياح محملة بالغبار، أنا واقفة داخل معطفي الأبيض أنتظر، إلى جواري زينات والممرضات، رجال ونساء جالسون فوق الجسر ينتظرون، صوت الطاحونة ونباح كلاب من بعيد وعويل، نتف سحب رمادية تعبر سماء ميتة، كل شيء نائم شبه مخدر، صياد وحيد كان يرمي شبكته، يلمها يشمر جلبابه يأتي إلى الجسر يقف وينتظر، النسوة تركن الحقول والبيوت وجئن سائرات على أقدامهن المشققة، وقفن عند الجانب الخلفي من الجسر ، عجوز تتكئ على عكازها، حزامها حول جلبابها، قدماها مسودتان، امرأة وحيدة تعيش في خص من قش تشد طرحتها حول رأسها، تسير نحو الجسر وهي تعصر عينيها الذابلتين، يلوح من تحت جلبابها كعبان ملطخان بالطين، رجال بالجلابيب الكاشمير والصداري الحرير أقبلوا يسيرون بكبرياء، أيديهم معقودة خلف ظهورهم، العيال الأولاد والبنات فضوا ألعابهم وجاءوا من الحارات والأزقة، وقفوا بعيدا واجمين ذاهلين ينتظرون ظهور الجثة الطافية فوق النيل، كأنما ينتظرون ظهور العذراء مريم فوق قبة الكنيسة، أو ظهور المهدي المنتظر، جاءوا وأنا أيضا جئت، واقفة داخل معطفي الطبي بلا حراك، في أعماقي أشعر بالذنب، عجزت عن إنقاذ مسعودة كما عجزت عن إنقاذ شلبية منذ اثني عشر عاما، تركتها وحدها تواجه العالم، في بطنها الجنين السفاح، هل قذفت بنفسها من القطار؟ هل عادت إلى أهلها في الصعيد فقتلوها؟ أتتسول طعامها في شوارع القاهرة فوق كتفها طفلها؟ في أحد البارات أو بيوت الدعارة؟ في زنزانة بسجن النساء؟ في عنبر بمستشفى الأمراض العقلية بالعباسية؟
صفحة غير معروفة