تبصق أم إبراهيم في فتحة جلبابها عند العنق: «أستغفر الله العظيم، ربنا يجعل كلامك خفيف على قلوبهم يا ضكطورة، ضصطور يا سيادنا ضصطور.» تنهض واقفة، تهش بذراعيها العفاريت من حولها كما تهش الذباب: «الحاج زيدان أخد بنته مسعودة للشيخ حمدان لكن العفريت فضل راكبها يا ضكطورة.» - «الشيخ حمدان ده راجل نصاب يا أم إبراهيم.» - «أستغفر الله العظيم، ده ولي من أولياء الله يا ضكطورة.»
لا يمر يوم دون أن تحكي أم إبراهيم شيئا عن العفريت الذي ركب مسعودة بنت الحاج زيدان، كان أبوها يدور بها على المشايخ العميان في القرى المجاورة: «ربنا كشف الحجاب عنهم يا ضكطورة، ما حدش يعرف ربنا إلا العميان.»
الفصل الخامس
عودة المكبوت
قصة مسعودة والعفريت حديث القرية، لم يكن عفريتها مثل العفاريت الأخرى، يتحدى أولياء الله الصالحين، ربما يكون هو الشيطان ذاته، «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» عبارة تجري على ألسنة أهل القرية من المهد إلى اللحد، لا تكف أم إبراهيم عن الاستعاذة بالله من الشيطان والجن والعفاريت، أصبحت أطارد هذه الكائنات داخل عقلها، وعقول النساء والرجال في القرية، يوم الخميس كان المرور على البيوت، الحكيمة زينات والممرضات والمثقف الصحي جبهة واحدة ضد الخزعبلات، «ما فيش حاجة اسمها عفاريت يا ناس، ما عفريت إلا بني آدم.» هذه العبارة سمعتها من جدتي وأنا طفلة «ما عفريت إلا بني آدم.»
لم يكن سهلا مقاومة هذه الأرواح الخفية، وردت في كتاب الله الكريم، أيمكن لعلوم الطب أن تحارب كلمة الله؟! أكثر الناس مقاومة لنا هو العمدة وأصحاب الأراضي الكبيرة، وشيخ الجامع، وحلاقو الصحة ورجال الأمن من الخفراء، وشيخ الخفر، والشيخ حمدان، كانوا جبهة واحدة، الطبقة الحاكمة في القرية مثل أختها في المدينة، لا يمكن أن تعيش دون وجود العفاريت.
تملكتني إرادة التحدي، أصبحت أمشي في الليل عيناي تشقان الظلمة، أيمكن أن ألتقي بالعفاريت وجها لوجه؟ في طفولتي كنت أخاف السير في الظلام، اليوم أصبحت طبيبة في السادسة والعشرين من عمري، أحمل في يدي كشافا صغيرا، أضرب في الظلام ضد القوى الغيبية. - قوليلي يا مسعودة العفريت ركبك إمتى وفين؟ - ما اعرفش يا ضكطورة وحياة ربنا ما اعرفش.
كانت راقدة في صحن الدار، أبوها الحاج زيدان يؤمن أن الله هو الشافي وليس الأطباء، أمها الحاجة فطنة ترى أنها ورثت الجنون عن عمتها شقيقة أبيها، ركبها العفريت ولم يغادرها حتى حرقت نفسها، سكبت صفيحة الجاز فوق رأسها ثم أشعلت عود الكبريت، صورة مسعودة تؤرقني في الليل، تطاردني في النوم، أراها تجري فوق الجسر والنار مشتعلة فيها، صراخها يأتيني من تحت الوسادة، كالطنين في أذني، كالأنين الممدود يناديني، يذكرني بأنين جدتي وأنا طفلة، وأنين أمي وطنط نعمات وكل امرأة سمعتها تئن في الليل. - أنا رايحة لمسعودة في بيتها لازم أسمع منها حكاية العفريت ده! - يا ضكطورة الشغل عليكي بيزيد وطوابير العيانين مالهاش نهاية، بلاش زيارة البيوت ما ينوبك منها إلا البراغيث. - يا أم إبراهيم حكاية العفاريت دي مش داخلة مخي، المسألة فيها سر لازم أكشفه. - يا ضكطورة حاتكشفي على إيه والعفاريت دول ربنا يكفيكي شرهم، مالهومش إلا الأقوى منهم. - أنا رايحة لمسعودة يا أم إبراهيم، لا يمكن أكون الدكتورة هنا وأسيبها وحدها للعفاريت.
في أعماقي صوت يدفعني إلى مسعودة، صوت عميق بعيد يأتي من الطفولة، فوق شاطئ البحر أراها تمشي، سعدية الخادمة تكبرني ببضع سنوات قليلة، طفلة جسمها نحيف كالبوصة، هربت من البيت بعد أن ضربتها أمي، أرادت العودة إلى أمها في كفر الشيخ، تاهت على شاطئ الإسكندرية وفي أذنها حلق من الصفيح. - قوليلي يا مسعودة العفريت ركبك إزاي؟ - مش عارفة يا ضكطورة. - حاولي تفتكري يا مسعودة. - مش فاكرة حاجة يا ضكطورة.
صوتها يذكرني بشلبية الخادمة الصغيرة في بيت المرحوم جدي، لهجتها وملامحها، نحيفة الجسم سمراء البشرة، عمرها كان أربعة عشر عاما، ترتدي جلبابا واسعا، متكورة حول نفسها، تشد أطراف الجلباب حول جسمها، عيناها سوداوان واسعتان ترفعهما نحوي ثم تخفي رأسها بين ركبتيها، أخذتها طنط فهمية إلى محطة القطار، ثم عادت بدونها. - يا مسعودة حاولي تفتكري أنا ممكن أساعدك. - مش فاكرة حاجة يا ضكطورة. - العفريت جالك منين يا مسعودة، من قدامك ولا من وراكي؟ - من ورايا يا ضكطورة. - من وراكي إزاي يا مسعودة؟ - كنت راكعة يا ضكطورة بعد ما صليت العشا جه من ورايا وركبني.
صفحة غير معروفة