أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

نوال السعداوي ت. 1442 هجري
167

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

تصانيف

أصابعي حول المشرط ثابتة تقطع المصران الملتهب، كيف ظل المشرط في يدي ثابتا؟ في أعماقي صوت أمي ينتشلني من الغرق : نوال ترميها في النار ترجع سليمة، نوال أشطر واحدة في الدنيا! تيار من الثقة بالنفس اندفع في عروقي كالروح تدب في الجسد، أمسكت المصران الأعور بين طرفي الملقط، رفعته عاليا لتراه عيون الحكيمة والممرضات، كان متضخما منتفخا يقطر دما، ألقيت به في الجردل مع الفوط والشاش والدم المتجمد.

أفاق محمود من البنج بعد ساعة أو أكثر، أول كلمة نطقها كانت «آه»، رنت في أذني أعذب من لحن الحب الأول، فتح عينيه ورآني إلى جواره، عيناه واستعان «والنني» أزرق أجمل من زرقة السماء، أغمض عينيه فاتحا شفتيه، تصورت أنه يلفظ النفس الأخير، نجحت العملية لكن المريض مات، هكذا كنت أسمع من أساتذة الجراحة. - أمه!

خرجت هذه الكلمة من بين شفتيه المنفرجتين، كلمة «أمه» باللغة الريفية تعني أمي، لا ينادي الإنسان على أمه إلا لحظة الموت، أو لحظة البعث إلى الحياة بعد الموت، يوم القيامة لا يحمل الناس إلا اسم الأم، يندثر اسم الأب في التاريخ مع زوال الدنيا الفانية والنفاق، مهما ارتفع الأب إلى مصاف الإله تظل الأبوة غير مؤكدة وهشة تذروها الريح.

ضحكت الحكيمة زينات وهي تلمس شفتيه الجافتين بقطعة من الشاش المبللة بالماء : عاوز أمك يا محمود؟ أهي واقفة برة على الباب هي وأبوك الحاج حسنين وأخواتك وخالاتك وعماتك وأعمامك وكل أهل الكفر قاعدين في الحوش ومعاهم حميرهم كمان يا سيدي!

مرت أربعون سنة من هذه اللحظة، انفرجت الشفتان الباهتتان عن ابتسامة واهنة، هي أجمل ابتسامة رأيتها في حياتي، لا أنساها هذه الابتسامة، الوجه الشاحب يسري فيه الدم بالتدريج، والشعر الأسود الناعم الغزير، خصلة ساقطة فوق الجبهة البيضاء بلون الشهد، أمه سمراء سوداء العينين، أبوه أشد سمرة، عيناه أشد سوادا، من أين جاءته زرقة العينين والبشرة البيضاء؟! - يمكن يا زينات كان له جد أبيض أو جدة عيونها زرقاء ورث عنها الجينات. - جينات يعني إيه يا دكتورة؟ - حاملات الوراثة في الخلية. - لأ يا دكتورة مش الجينات دي الجنيات، لازم أم محمود كانت جنية من جنيات البحر لافت على واد حليوة أبيض وعيونه زرق!

أطلقت أم محمود زغرودة طويلة حادة اخترقت السحب حتى السماء السابعة، مثلا هذا الصوت لا يصدر إلا عن جنية بنت جنية، امتدت الزغاريد من طحلة إلى كفر طحلة إلى دجوي والرملة حتى مدينة بنها، كان الشفاء من المرض عند الفلاحين والفلاحات كالبعث من الموت، كان الموت كثيرا والشفاء قليلا ينتهز الناس فرصة نهوض أحدهم بعد الرقاد ليفرحوا وتنطلق الزغاريد، أو فرصة موت أحدهم ليحزنوا يلطمون الخدود يشقون الجيوب، الفرح والحزن كلاهما نشاط جمعي، لا يتخلف عنه أحد، يتوزع الحزن والفرح على الجميع، فيخف الحزن أو يشمل الفرح كل البيوت.

مع الزغاريد انطلقت الدعوات من أفواه الرجال والنساء: إلهي يحميكي يا ضكطورة نوال، إلهي يطول عمرك يا رب، إلهي ينصرك على أعدائك دنيا وآخرة. بعد الغروب يجلس الرجال على المصاطب، يشربون الشاي والمعسل، يكركرون بالجوزة ويتسامرون. - الضكطورة بنت بلدنا، ربنا وضع البركة في إيدها، يا سلام يا جدعان، سبحان الله! أهي الضكطورة دي واحدة من الحريم! أي والله صحيح قلنا كده وأكثر من كده كمان، لكن دلوقتي إيه اللي حصل يا جدعان؟ طابور الرجالة على باب أوضة الكشف بقى أطول من طابور النسوان!

يضحكون في هدأة الليل، يكركرون بالضحك مع كركرة الجوزة، تتوهج الشعلة تحت النسمة، تتضاحك النسوة المتربعات في مدخل الدار أو فوق جسر النيل.

ما يدور على ألسنة الناس تنقله إلي دادة أم إبراهيم، لم تكن الكهرباء دخلت هذه القرى، الظلمة في الليل دامسة، في البيت توقد أم إبراهيم الفانوس، أقرأ عليه وأنا في السرير، أصبحت عندي مكتبة، رفوفها من الخشب تصعد حتى السقف، تطل منها الكتب القديمة والجديدة في الطب والفلسفة والأدب والتاريخ والفن، ألتهم الكتاب وراء الكتاب باللغة العربية والإنجليزية، لم تنقطع صداقتي بالزميلات القديمات، أولهن سامية وزوجها الدكتور مصطفى المدير أو نائب المدير، في ميدان الدقي، كانت الدكتورة بطة «كاميليا»، وزوجها الدكتور حمدي الأستاذ بقصر العيني، أصبحت بطة تقود سيارة «بويك»، تأتي بها أحيانا إلى القرية، قد تحمل معها صفية وسامية، قد يأتي معهن أزواجهن، تمتلئ «الفيلا» بالضيوف، لا يكف الأهل والأقارب عن زيارتي من القاهرة والقرية، تتألق أم إبراهيم بالفرح، يتصاعد صوتها من الدور الأول إلى الثاني، تتصاعد معه رائحة الفطير المشلتت، والملوخية بالأرانب أو الحمام المحشي بالفريك.

حين لا يأتينا زوار يصبح البيت هادئا، أحب الهدوء بعد الضجيج، أعشق الدخول إلى سريري، معي كتاب أو رواية جديدة أو قصة أكتبها لإحدى المجلات، أو مفكرتي السرية أدون فيها مذكراتي، قد أحمل ابنتي من سريرها لتنام في حضني، تأتي أم إبراهيم بالطشت المليء بالماء الساخن والملح تدلك قدمي وساقي، تقدم لي الينسون المغلي، المغات، أو السحلب، الأعشاب تلمها من الغيطان، تغليها في الماء على النار، تصبها في كوب الفخار على شكل السلطانية يتصاعد منها البخار.

صفحة غير معروفة