سامية أيضا أصابتها عدوى الحب، كان لها زميل في كلية الصيدلة اسمه رفاعة، شيوعي مثلها «طبعا لازم يكون شيوعي يا أخواتي لا يمكن إني أحب راجل برجوازي!» تكركر بطة بضحكتها الممطوطة: «أنا باموت في الغجل (الرجل) البغجوزاي (البرجوازي).» وتنفجر البنات بالضحك إلا سامية تزم شفتيها الرفيعتين بامتعاض: «الرجل البرجوازي لا يمكن يحب المرأة حب حقيقي، الرجل البرجوازي (وتنفجر) لا يعرف حاجة غير مصلحته الخاصة زي الاستعمار بالضبط!» يتصاعد الغضب إلى وجه صفية بلون الدم الأحمر: «يعني الراجل الشيوعي بس هو اللي بيعرف الحب يا سامية؟! قطيعة تقطع الشيوعية واللي جابوها!» وينشب الشجار بين سامية وصفية لا ينتهي إلا بصوت بطة الحانق: «يلعن دين البغجوازية على دين الشيوعية ربنا ياخد الاتنين.»
مصر في نهاية عام 1951م تنوء تحت نظام ملكي فاسد، وأحزاب تتنازع السلطة، واستعمار بريطاني حول مصر إلى مزرعة قطن أهلها عبيد، حزب الأغلبية (الوفد) يتأرجح بين مطالب الشعب ومطالب الملك والإنجليز، أحزاب الأقلية تتآمر للقفز إلى الحكم، تارة مع الملك، تارة مع الإنجليز، مصر حبلى بالثورة، الشباب طلاب الجامعات هم وقودها ومخاضها.
فوق الدكة الخشبية بجوار ملعب التنس في الكلية كنا نجلس أنا وأحمد، ينتظرني حتى أنتهي من مباراة التنس، أو أنتظره حتى يراجع العدد الجديد من مجلة شعلة التحرير، حديثنا يتجاوز المجال المألوف بين الجنسين، يخاطبني كما لو كنت زميلا له.
تمر الساعة وراء الساعة، نرشف الشاي بالنعناع أو الكازوزة المثلجة، محور الأرض يميل بسرعة نحو المغرب ومعه قرص الشمس، الليل يهبط فجأة وكان أذان الظهر ينطلق من الجامع منذ لحظة.
بدايات الشتاء كانت باردة نوعا، تغلف القاهرة شبورة بلون الضباب، رذاذ المطر خفيف، أنا وأحمد جالسان فوق الدكة الخشبية، وهو متكئ بكوعه على المسند، يدخن سيجارة «البلمونت»، عيناه من وراء النظارة شاردتان في الأفق، صوت المؤذن من بعيد ينادي، حي على الصلاة ... حي على الفلاح، يرتفع الصوت من المئذنة إلى السماء، يتعلق كذرات البخار في جسد الشبورة، يرتل المؤذن آيات الله، الدعاء لله الواحد الأحد لا شريك له، يشق الدعاء عقلي الشارد، صوته يعلو من نغمة إلى نغمة حتى تبدو السماء ملبدة بضباب الشك.
أستمع إليه يتحدث عن الكفاح المسلح في القنال، سوف يسافر إلى التل الكبير مع الفدائيين، يتكلم بصوته الهادئ، ينفخ الدخان مع أنفاسه البطيئة كالأسد النائم، يده كبيرة مثل يد أبي، يمدها فوق الدكة الخشبية ويمسك يدي، أغمض يدي كالنائمة في حلم، أراه حاملا السلاح يضرب الإنجليز ويحرر الوطن، النساء في القرية يطلقن الزغاريد، الرجال يحملونه فوق الأعناق ثم أسمع صوت الانفجار، طلقات رصاص، يسقط إلى الأرض ينزف، شريط الدم أراه يلمع فوق الأسفلت، أهب من النوم فأراه جالسا إلى جواري، سلسلة المفاتيح في يده يمدها حتى جذع الشجرة يحفر بسن المفتاح رسما له شكل القلب، ينقش اسمي واسمه داخل القلب، يحفره في جذع شجرة الكافور كأنما يحفره في التاريخ.
عاشت الشجرة ثلاثة وعشرين عاما بالحروف المحفورة عليها، كنت أمر بها أحيانا بعد الزواج وبعد الطلاق، كانت الحروف باقية تتعانق داخل الشجرة رغم الانفصال، ثم جاء شباب آخرون حفروا أسماءهم وطمست السنون أسماءنا، الشجرة كلها راحت في العدم، في عام 1974م جاء بلدوزر واقتلعها، أقاموا مكانها مبنى من الأسمنت.
قبل أن يسافر أحمد مع الفدائيين فكرت: هل أسافر معه؟ في طفولتي كنت أحمل السلاح في الحلم وأحرر الوطن، لكن الكفاح المسلح كان للرجال فحسب، لم يكن للمرأة أن تنال شرف تحرير الوطن، إن تطوعت في جبهة القتال لا تعمل إلا ممرضة أو مرفهة عن المقاتلين إن ماتت فداء الوطن لا تحمل لقب فدائية، مجدها الوحيد في التمريض أو في الترفيه، بدت المهنتان مهينتين لفتاة تريد أن تحمل السلاح لا جردل البول أو بدلة الرقص.
كنت أحب الوطن، يمكن أن أضحي بحياتي من أجل الوطن، لكن كرامتي أغلى من حياتي، لا أضحي بها من أجل شيء وإن كان الوطن، هل أهبط بنفسي من أجل الوطن لأرقص للمقاتلين أو أحمل بولهم وبرازهم؟
إلا أن جبهة القتال كانت تجذبني، كلمات مثل: التضحية، الوطن، الفداء، الخطر، الموت، ترن هذه الكلمات في أذني ساحرة، اللذة العارمة في كشف المجهول، الزهو بنفسي وارتداء زي البطولة، الثقة بالنفس إلى حد عدم تصور الموت، كنت أتصور موت الآخرين لكن موتي أنا مستحيل، أهي حماقة طبيعية في تلك المرحلة؟ لكني حتى اليوم وبعد أن تجاوزت الستين لا أتصور نفسي ميتة، كم حاولت وتخيلت دون جدوى، كم تمددت فوق الفراش لأموت دون أن أموت.
صفحة غير معروفة