وتخرج خالتي نعمات لسانها الطويل وهي تصحن قبضة يدها اليمنى في كفها الأيسر، ترشق أختها فهيمة بنظراتها مرددة: يا عانس! وتدق الأستاذة فهيمة شكري بكعب حذائها الأرض، ترفع ذراعها عاليا، يدها اليمنى مضمومة الأصابع إلا أصبع السبابة منتصب مدبب كالسهم في اتجاه أختها نعمات، يكاد يدخل في عينها، مرددة بصوتها الحاد: يا مطلقة ياللي مش لاقية حد يلمك. - يا عانس ياللي مش لاقية حد يجوزك.
لم أكن أعرف معنى كلمة مطلقة أو عانس، حين أسأل أمي تمط شفتيها وتقول: الاثنتان أسخم من بعض، كانت أمي في الرابعة والعشرين من عمرها، من حولها أطفالها الخمسة، بطنها مرتفع بالحمل السادس، تعد على أصابعها الأيام الباقية من الإجازة لتعود إلى بيتنا، كانت مثلي تكره هذا البيت وكل من فيه حتى أمها، تلك الصامتة طول الوقت، الغائبة في عالم آخر من التمتمات والتسبيحات، لا شيء يعيدها إلى عالمنا إلا صلصلة الجرس، صلصلة معينة غير الصلصلات الأخرى، تعرفها بأذنيها وإن كانت غائبة في الملكوت الآخر.
تنتصب أذناها في انتباه مفاجئ كالقطة تعرف أنه زوجها «شكري بيه» الذي فتح الباب، تسمع وقع قدميه فوق الممر الحجري بين الباب والسلم، خطوته البطيئة يدوس بكل قدمه على الأرض، قصير القامة نحيف الجسم، داخل بدلة من الصوف الداكن، ياقة القميص بيضاء منشاة، تحوطها ربطة عنق من الحرير اللامع، رأسه كبير بالنسبة لجسمه داخل طربوشه الأحمر يميل قليلا ناحية أذنه اليمين، وتطل من تحته شعره الأبيض كبير الحجم، الأنف أبرز ملامح الوجه، كبير له غضروف مقوس قليلا، تحت الأنف شارب طويل غزير الشعر، أبيض اللون، يمتد فوق الصدغ، يكاد يصل إلى طرف الأذن، كنت أقف في الصالة أرقب جدي وهو يصعد السلالم الرخامية العريضة، يضع قدمه على درجة السلم رافعا رأسه، عنقه يلتوي قليلا إلى الوراء مثل عنق الديك الرومي، طربوشه أحمر بلون عرف الديك، يتنحنح بصوت عال معلنا عن حضوره، يدق بلاط الفرندة بعصاه السوداء من خشب الأبنوس، ثم يدخل الصالة وهو يرد بصوت خشن وقور: يا إلهي، أنت جاهي.
كانت فهيمة ونعمات قد اختفت كل منهما داخل غرفتها وأغلقت الباب، جدتي آمنة ترمقهما بنوع من الحسد، لم يكن لها غرفة مستقلة تغلقها على نفسها، ولا بد أن تنهض لتستقبل هذا الرجل الغريب الذي يشاركها السرير منذ خمسة وثلاثين عاما.
كانت جدتي آمنة في الرابعة والأربعين من عمرها، لكنها تبدو في السبعين داخل جسمها المنكمش، وبشرتها الخالية من الدم المليئة بالكرانيش، وساقيها المتورمتين داخل جورب سميك من الصوف، وملامح وجهها المتهدلة، جفونها الساقطة فوق عينين رماديتين وغاب عنهما «النني» ولم يبق منهما إلا ماء متجمد.
كنت أسأل أمي: ما الذي حدث لجدتي آمنة حتى تفقد سواد عينيها؟ تضع أمي يدها فوق فمي، تكتم السؤال، تهمس في أذني لأسكت، إن جدي في البيت، وحين يكون في البيت فالكل يسكت، دون أن تنطق أمي عرفت كل شيء، المعرفة كانت تسري في جسدي على شكل القشعريرة، عرفت أنه جدي، وأن جدي هو زوج جدتي، وتزوجها وهي في الرابعة عشرة، وأنجب منها ستة من الأولاد والبنات: (نعمات وفهيمة وزينب وهانم ويحيى وزكريا)، كان يكبرها بثمانية عشر عاما، ولم يجمعهما شيء إلا ورقة «الجواز». «الجواز»: كلمة غامضة تحوطها الأسرار، ما إن ترن في الجو حتى يشحب وجه خالتي نعمات، تمط خالتي فهيمة شفتيها في ازدراء، تطفو فوق ملامح أمي سحابة شفقة من الحزن الغامض، أما جدتي آمنة فهي تكف عن التمتمة، تتوقف حركة السبحة الصفراء بين يديها، عيناها الرماديتان تتجمدان ، يتعكر لونهما مثل ماء البركة الراد، يصبح قاتما معتما لا يطل منه بصيص ضوء، أسمعها تهمس: «نحمده، ولا يحمد على مكروه سواه»، ترد عليها خالتي فهيمة من فوق الكنبة الأخرى قائلة: «أيوة يا نينة، نحمده على كل شيء»، من غرفتها أسمع خالتي نعمات تتنهد وتقول: «النصيب والمقدر والمكتوب على الجبين، كله من عند ربنا، نحمده.»
بدأت أدرك أن ضمير الغائب في كلمة «نحمده» يعود إلى «ربنا»، وأن جميع المصائب في هذا البيت جاءت من عند «ربنا»، لم أكن أعرف معنى كلمة «ربنا»، لكنها ارتبطت في ذهني بكلمة أخرى هي «المصائب»، وهذه الكلمة ارتبطت بكلمة أخرى هي «الجواز»، منذ السادسة من عمري وأنا أحفظ هذه الكلمات الثلاث عن ظهر قلب في عبارة واحدة: «ربنا، المصائب، الجواز.»
بعد تسعة أشهر من ليلة زفافها ولدت أمي طفلها الأول، لم أكن أنا جئت إلى الدنيا بعد، سمعت ستي الحاجة تقول: إن أبواب السماء كانت مفتوحة حين رفعت يديها ودعت ربنا أن يرزق ابنها «السيد أفندي» بولد يرفع رأس أبيه في الدنيا والآخرة وتسميه «محمد» على اسم النبي محمد
صلى الله عليه وسلم .
تقبل الله دعوة ستي الحاجة وجاء أخي الأكبر، بشرته بيضاء مثل بشرة امه وأهلها من عائلة شكري بيه، كانوا جميعا نساء ورجالا من ذوي البشرة البيضاء مثل الأتراك، عيونهم عسلية، الأنف روماني يتسق مع ملامح الوجه البيضاوي، عيب واحد موروث عن أسلاف شكري بيه، الأسنان الأمامية الكبيرة التي كانت تسميها عمتي رقية «الضب»، أسمعها تهمس حين تغضب على أمي قائلة عنها: «أم ضب»، لم تكن أمي تسمعها طبعا، وتنهرها ستي الحاجة: «عيب يا بت رقية، دي مرات أخوكي السيد أفندي.»
صفحة غير معروفة