أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

نوال السعداوي ت. 1442 هجري
105

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

تصانيف

اندفعت البنات نحو البوابة الخشبية، مئات الأجساد الفتية القوية في أول الشباب تحولت إلى جسد واحد يضرب الباب، السلسلة الحديدية ومعها مفاصل الباب تئن من تحت الثقل، مئات الأذرع تحولت إلى ذراع واحد تلوي الحديد، بالغضب المتراكم منذ الولادة تلويه، بالحلم المكبوت منذ الطفولة، والحب المحبوس بين طيات القلب، بكل الكراهية لهذه البوابة ذات السلسلة الحديدية، بكل الأمل في الحرية وبكل اليأس أيضا.

كنت واحدة من هؤلاء البنات، جسدي أصبح جزءا من جسدهن، لا شيء يفصلني عنهن وإن كان هو الموت. في هذه اللحظات ينطلق المارد الراقد تحت العقل الواعي، يسمونه «اللاوعي»، قد يكون أكثر وعيا وأقرب إلى الفطرة الطبيعية، وإلا فمن أين تأتيه هذه القوة؟ كنت أدرك تماما قوتي الجديدة، أصابعي الحديدية تلوي السلسلة الصدئة حتى انكسرت، سقط القفل الحديدي على الأرض، داسته الأقدام، مئات الأقدام، وانفتحت البوابة الضخمة على مصراعها بصوت يشبه الانفجار، وانهمرت أجساد البنات إلى الخارج مثل الشلال الهادر: الجلاء بالدماء!

في الشارع انضم إلينا التلاميذ والمارة وأصحاب الدكاكين، عند محطة القطار أو دخول السيرك أو شراء اللب والفول السوداني!

جلست بجوار النافذة والقطار ينطلق بنا دون أن يقف في المحطات، كل شيء تغير في العالم، حتى زرقة السماء وتلال الرمال في الصحراء، أصبحت الزرقة أشد زرقة من مياه البحر، والرمال بلون الذهب السائل تحت الشمس، صدري يعلو وينبض تحته قلب تضخم بفرحة الحرية، كأنما أنا أمسك حريتي بيدي كما أمسك حافة النافذة التي تطير معي، والهواء يطير شعري، أملأ به صدري، وأصوات الهتافات داخل القطار تدوي في أذني: تحيا مصر حرة، يعقبها الأناشيد: بلادي بلادي، لك حبي وفؤادي، والعجلات تجري فوق القضبان بالإيقاع ذاته، والقطار أيضا يطلق صفارته كصوت المزمار الحاد أو الناي المنفرد يتمشى مع اللحن.

هبطنا من القطار في محطة باب اللوق، غرقنا في بحر من البشر، كأنما خرجت مصر كلها ذلك اليوم، حكومة وشعبا، موظفون بالبدل والطرابيش، وتلاميذ المدارس بالشورت القصير حتى الركبتين، بنات المدارس بالمرايل الدمور أو الكتان أو تيل المحلة، نساء بالملاءات اللف والجلابيب السوداء، عمال المصانع بالبدل الزرقاء، تمورجية، ممرضات بالملابس البيضاء، فلاحون بالفئوس، وأطفال تحملهم أمهاتهم فوق الصدور، مرضى فوق العكاكيز أرجلهم مربوطة بالشاش والجبس.

أنهر من البشر تصب من الحواري والشوارع الجانبية في الميادين، واكتظت النوافذ والشرفات وأسطح البيوت بالأجساد والأشجار أيضا، ثمانية وأربعون عاما مرت منذ ذلك اليوم، إلا أن الصورة محفورة في ذاكرتي، المظاهرة الوطنية الأولى في حياتي، لأول مرة أعرف معنى الوطن، يولد الحب شلالا هادرا يكتسح الحواجز بين الحلم والحقيقة، بين الجسد يتلاشى الفاصل بين الحياة والموت واللذة والألم، يحلق الإنسان في الجو، أو يسبح في جوف البحر كالأسماك، يفعل أي شيء وكل شيء.

لم أعرف من قبل هذه السعادة الجامحة المتدفقة بلا حدود، عرفتها من بعد في مظاهرات أخرى، وفي اللحظات التي التقت فيها عيني لأول مرة بعيني طفلتي أو طفلي، يتدفق الشلال المكبوت منذ العبودية، منذ أصبحت الولادة دنسا يستوجب التعميد، والوطن أرضا يملكها الأسياد دون العبيد.

كنت أتلفت حولي في ذهول، الميدان الواسع مفروش بأجساد البشر، أهو ميدان الإسماعيلية أو عابدين؟! أصوات الهتاف مثل دقات الطبل تدوي تحت ضلوعي: الجلاء بالدماء. يسقط صدقي يسقط بيفن، لم أكن أعرف من هو صدقي ومن هو بيفن؟

وقفنا صفوفا صفوفا، إلى جواري في الصف كانت فكرية وصفية وفاطمة وسامية، رأيت ثلاثة رجال يسيرون نحونا يرتدون بدلا رسمية داكنة اللون، عضلات وجوههم مشدودة، مشيتهم عسكرية، سمعنا أحدهم يقول: عاوزين مندوبة عن مدرستكم.

كانت المرة الأولى أسمع فيها كلمة مندوبة، التفت ناحية سامية؛ فهي التي تعرف معنى هذه الكلمات، لم أجدها، اختفت سامية في غمضة عين، فص ملح وذاب.

صفحة غير معروفة